محمد إنفي رغم أن "بنكيران" اعترف، خلال لقاء حزبي )حسب الفيديو المسرب من هذا اللقاء)، بعدم قانونية المرسومين الوزاريين (سبب مقاطعة الأساتذة المتدربين للدراسة والانخراط في سلسلة من المعارك النضالية دفاعا عن حقهم في التوظيف)، وذلك بسبب الخطأ في توقيت نشرهما، فإنه يصر على عدم التراجع عن الخطأ في تعنت غير مفهوم ولا مبرر له. وبما أن أصحاب الحق متشبثون بالقانون ومقتنعون بشرعية موقفهم، فقد انبروا للدفاع عن حقهم بكل الوسائل المشروعة (ومعهم عائلاتهم وكل التنظيمات الديمقراطية والحقوقية وكل شرفاء هذا الوطن)، في تحد بطولي ووحدوي لكل التهديدات وكل أشكال القمع التي استخدمت ضدهم. وإذا كان مفهوما أن يصمد الأساتذة المتدربون الذين يتهددهم المرسومان في قوتهم اليومي(أليس شيوع مقولة "قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق" دليلا على أهمية هذا الجانب؟) وفي مستقبلهم المهني ووضعهم الاجتماعي، فإن موقف الحكومة وتعنت رئيسها يظل غير مفهوم. فحتى الأصوات التي تعالت في البرلمان (من فرق المعارضة والأغلبية معا) مطالبة بإيجاد حل فوري لمشكل الأساتذة المتدربين، لم تجد صدى لدى رئيس الحكومة. وهنا، لا يمكن للمرء إلا أن يتساءل عن السر الكامن وراء هذا التعنت غير المفهوم. كما لا يمكن لكل متتبع وكل مهتم وكل حقوقي وكل غيور على مستقبل هذا البلد إلا أن يقلق على استقراره وعلى الاستثناء الذي يمثله في المنطقة، خاصة وأن الوضع العام لا يبعث على الاطمئنان أبدا. فإذا نظرنا إلى الوضع الاجتماعي، نجده في تدهور مستمر بفعل القرارات الحكومية غير محسوبة العواقب (تصفية صندوق المقاصة، الزيادة في الضرائب، الزيادة في الأسعار، ضرب المكتسبات الاجتماعية كما حدث، مثلا، مع صندوق التقاعد حيث قررت الحكومة، بشكل انفرادي، الزيادة في سنوات العمل والزيادة في نسبة الاقتطاع من الأجر، وكذا التخفيض من مستحقات المعاش، الخ)؛ وهي كلها قرارات تتسبب في تقهقر خطير للقدرة الشرائية لأغلبية فئات الشعب المغربي. أما القطاعات الاجتماعية، مثل التعليم والصحة، فالحال يغني عن السؤال. ولن يزيد الوضع، بسبب ملف الأساتذة المتدربين وقبلهم ملف الطلبة الأطباء، إلا سوءا وتدهورا. ولا يختلف الوضع الحقوقي كثيرا، من حيث التدهور وضرب المكتسبات، عن الوضع الاجتماعي؛ إذ عادت أساليب القمع القديمة بكل أشكالها وأصبح التضييق على الحريات وخرق الدستور والقانون، الخ، عملة رائجة وأداة انتقام مفضلة. وإلا، كيف نفسر الاقتطاع من أجور الموظفين المضربين في غياب نص قانوني يضبط ذلك؟ وكيف نفسر موقف "بنكيران" من ملف الأساتذة المتدربين، رغم اعترافه بالخطأ في توقيت نشر المرسومين (مما يعني أنه يعرف أن لا حق له في تطبيقهما بأثر رجعي)؟ وقبل ذلك، ألم يحرم أصحاب محضر 20 يوليوز من حقهم في التوظيف رغم حكم المحكمة الإدارية لصالحهم؟ ألم يتم التضييق، في عهد هذه الحكومة، على حرية التعبير وحرية الصحافة والحريات النقابية؟… أليس في عهد هذه الحكومة، وعلى يد وزيرها في "العزل وغياب الحريات"، تم عزل قاض (الدكتور "محمد الهيني") من أنظف القضاة وأعدلهم بسبب دفاعه عن استقلالية القضاء في حين تم التساهل مع القاضي الذي راكم المليارات والعقارات ولم يستطع تبرير مصدرها ؟ وأليس…؟ وأليس…؟ لقد سبق لي، شخصيا، ومن باب المواطنة والمسؤولية الأخلاقية، أن ذَكَّرت رئيس الحكومة ومن يهمهم الأمر، في ما يشبه رسالة مفتوحة ("إلى السيد رئيس الحكومة وإلى كل من يهمه الأمر: هاهنا تذكير، نظنه مفيدا! فهل لا زال هناك إيمان تنفع معه الذكرى؟"، جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، 18 يناير 2016) ، ببعض الأحداث المؤلمة التي عاشتها بلادنا بسبب قرارات غير محسوبة العواقب وتنم عن سوء تقدير وغياب حس المسؤولية وانعدام بعد النظر. ويبدو لي أن "بنكيران" يكرر نفس الأخطاء، بوعي أو بدونه، وكأن بلادنا لم تبارح وضعها القديم سواء في المجال الديمقراطي أو الحقوقي أو غيرهما، في حين أن لنا تراكمات مهمة وأساسية في هذه المجالات. ورغم أنه لا يفتأ يفتخر، بنوع من التبجح والعنجهية، بل ويصل به الأمر إلى أن يَمُن على (حتى لا أقول يساوم) بلاده بالاستقرار الذي تنعم به (وكأنه من صناعه الحقيقيين، والحال أنه لا يد له في ذلك، بل هو فقط من الذين يقطفون ثماره)، فإنه لا يبدو أنه يقدر هذه النعمة حق تقديرها. فقراراته الاستفزازية لا تعمل على صيانة هذا الاستقرار. وإلا كيف نفسر هذا التأزيم المتعمد للوضع الاجتماعي القابل للانفجار؟ فكل قراراته تهدد السلم الاجتماعي. والسلم الاجتماعي، كما هو معروف، له تكلفة مالية وسياسية. ورئيس الحكومة، في تعنت غير مسبوق، لا يرفض فقط التكلفة، بل يعمل على قلب الآية وجعل ضحايا الوضع هم من يؤدون التكلفة. فما ذنب الأساتذة المتدربين وعائلاتهم حتى يتحملوا خطأ الحكومة وسوء تقديرها للأوضاع ولردود الفعل المحتملة؟ وما ذنب الموظفين في إفلاس صندوق التقاعد حتى يتحملوا هم تكلفة إنقاذه بدل الذين تسببوا في إفلاسه؟ وما ذنب المواطنين في أزمة المكتب الوطني للماء والكهرباء حتى يتحملوا هم تبعات هذه الأزمة بدل المسؤولين عنها؟ وما…؟ وما…؟ صراحة، وحتى أبقى منسجما مع عنوان المقال، لا أفهم، ولست الوحيد في هذا الوضع، موقف رئيس الحكومة من ملف الأساتذة المتدربين. فهل هو مجرد عناد؟ أم هو سوء تقدير وقصر نظر؟ أم هو غباء سياسي؟ أم أن "بنكيران" ليس أكثر من مُنفِّذ لقرارات مملاة عليه من جهة أو جهات ما؟… كيفما كان الحال، فإن الأمر يكتسي خطورة بالغة. فالاستقرار والسلم الاجتماعي والاطمئنان النفسي، الجماعي والفردي، والأمن العام والخاص، كل هذه الأمور لا تقبل اللعب بالنار ولا تحتمل التهور في المواقف والقرارات. ويبدو لي، والحالة هذه، أن الموقف الجماعي والموحد للمركزيات النقابية (اتفاقها على خوض إضراب عام يوم 24 فبراير 2016) هو جرس إنذار للحكومة ورئيسها الذي يتمادى في تجاوز قواعد اللعب وفي خرق الأعراف الديمقراطية. ومن المستغرب أن يكون هذا التمادي وبهذا الشكل المستفز لكل الفرقاء الاجتماعيين دون أي استحضار (أو حضور) لصفارة الحكم (لا يهم أن يكون حكم الوسط أو حكم الشرط)، رغم خطورة الوضع!.