مؤمن بسيسو هل يشكل الحراك الشعبي السلمي -ضمن مسيرات العودة الكبرى على حدود قطاع غزة- مدخلا للحلغرد النص عبر تويتر، وسببا لإنهاء الأزمة الإنسانية التي تعصف بأهالي القطاع؛ في ظل فشل محاولات الاحتواء الإقليمية والدولية؟ سؤال يبدو شديد الواقعية والوضوح برسم الأحداث المتصاعدة التي تسبق الانفجار المتوقع خلال الأيام القليلة القادمة. سلميّتها قوتها بدأت مسيرات العودة الكبرى على حدود قطاع غزة مع فلسطينالمحتلة عام 1948 نتاجا لفكرة تفتقت عنها قريحة ناشطين شبان هالهم الصراع بين الفصائل الفلسطينية، وقطعت هذه الفكرة شوطا ليس هيّنا كي تستقر في قناعات المكونات الفلسطينية المختلفة، وتحوز قبول الفصائل السياسية والمنظمات المجتمعية. ثم لتتحول -من بعدُ- إلى برنامج عمل وطني تم تبنيه والتنظير له والرهان عليه، في ظل انسداد الخيارات الوطنية كافة (وفي مقدمتها خيار المصالحة والوحدة)، وتفاقم الأزمة المعيشية والإنسانية جراء تواصل الحصار واشتداد وطأة العقوبات الجماعية التي فرضتها السلطة الفلسطينية على أهالي القطاع. حملت فكرة مسيرات العودة -منذ البداية- تفاصيل بالغة الوضوح مشفوعة بخطة منظمة ترتكز على البعد السلمي الكامل، وتم عرضها على الفصائل والمنظمات المجتمعية والقوى الشعبية المختلفة، ولم تلق حماسة من الفصائل الأساسية إلا في مرحلة متأخرة نسبيا، وخصوصا إثر تراجع الآمال بإمكانية نجاح مسيرة المصالحة الداخلية بين حركة فتح وحركة حماس. ويكمن سر قوة مسيرات العودة في عنصرين أساسيين؛ هما: السلمية التامة لهذه المسيرات من الألف إلى الياء، واحتضان الكل الوطني الفلسطيني لها ومشاركته فيها ودعمه لآليات استمرارها. حتى اللحظة؛ فإن الموجة السلمية تجتاح هذه المسيرات رغم حوادث الرشق بالحجارة، وإزالة الأسلاك الشائكة وإطلاق الأطباق الورقية الطائرة المحملة بالزجاجات الحارقة، التي تسببت في اشتعال العديد من الحرائق بمواقع إسرائيلية على الجانب الآخر من الحدود. وفي كل يوم يتعزز الطابع السلمي للمسيرات عبر البرامج المتنوعة التي تم إشراك مختلف الشرائح الشعبية فيها، من قبيل لقاءات الوجهاء والعشائر والمخاتير، وجلسات السمر والترفيه والتثقيف، وبعض حفلات الزواج. وكذلك المهرجانات الوطنية ذات العلاقة بالمناسبات والقضايا الوطنية الكبرى، كالأسرى والقدس واللاجئين، والزيارات المدرسية، وغيرها من الفعاليات اليومية التي كرست آليات الرباط الدائم في مخيمات العودة قرب المنطقة الحدودية. لكن الثغرة الأهم تكمن في استمرار الانقسام الفلسطيني الداخلي، وغياب التوافق والمصالحة الوطنية الذي حرم هذه المسيرات من زخم المؤيدين لحركة فتح والسلطة الفلسطينية، اللتين رأتا في مسيرات العودة خيارا أحاديا يستهدف الالتفاف على العقوبات الجماعية الخانقة، التي تم فرضها لإجبار حماس على تسليم الحكم في غزة. فلا يخفى أن موقف السلطة وفتح اتسم بالغضب والاستياء في البداية، قبل أن يتراجع مؤشر الموقف تكتيكياً لجهة عدم التصادم مع الإرادة الشعبية، دون أن يعني ذلك السماح بمشاركة مؤيدي فتح والسلطة في هذه المسيرات. الرهان الأخير تراهن حماس وأهالي غزة على استمرار الحراك الشعبي ضمن مسيرات العودة، وتضع ثقلها خلف تصعيد المشاركة الشعبية الواسعة فيها وصولا إلى منتصف مايو/أيار القادم الذي يؤرخ لنكبة فلسطين عام 1948. بل إن الحركة -التي تراهن على ذروة المشاركة الشعبية منتصف مايو/أيار- لم تعد تحصر رهانها في ذلك التاريخ، وتستعد لمنافحة طويلة المدى مع إسرائيل عبر أسلوب المقاومة الشعبية الذي ثبتت فعاليته الميدانية وقدرته على إحداث حراكات -بشكل أو بآخر- على المستوى السياسي. ثمة بشائر ما تداعب مخيلة حماس وأهالي غزة عقب ما يزيد على عقد من الحصار المشدد الذي أرخى ظلاله السلبية على كافة مناحي الحياة داخل القطاع، إذ إنها المرة الأولى التي تخرج فيها حماس عن قناعتها التقليدية وسياستها الدائمة بشأن استخدام العمل العسكري في مواجهة إسرائيل، وتنحو باتجاه وسائل المقاومة الشعبية السلمية التي أهملتها وتجاهلتها طويلا في الماضي. لم يكن انخراط حماس في المقاومة الشعبية السلمية خيارا أصيلا بالمعنى الوطني، وإن كانت وثيقة حماس -التي صدرت العام الماضي وعبرت خلالها عن رؤيتها السياسية الحديثة- قد أشادت بالمقاومة الشعبية كأحد أشكال وأساليب المقاومة، بل جاء تبني حماس في هذا الوقت بالذات اضطراريا محضا بكل معنى الكلمة. لم تدرك حماس في البداية مدى جدوى الحراك الشعبي وفعاليته في مواجهة الاحتلال، لكنها أيقنت مع انطلاق أولى موجات مسيرات العودة نهاية مارس/آذار الماضي أن هذا الخيار يختزن قوة بالغة الأثر والتأثير، وأنها قادرة عبره على تغيير المعادلة وقلب الطاولة في وجه إسرائيل، والنظام الإقليمي والدولي الذي يفرض ويرعى الحصار على غزة. ولعل المتابع لفحوى التصريحات والمواقف الصادرة عن القوى الداعمة للحراك، وقيادات حماس على وجه الخصوص؛ يدرك تماما أن الحركة وضعت بيضها جميعه في سلة الحراك الشعبي، وأن آمالها ورهاناتها معقودة بشكل كامل على إمكانية توليد حلول معقولة من وهج المشاركة الشعبية، وترى أن استمرار وتطوير وتصعيد مسار الحراك الشعبي قادر على تحريك المواقف الإقليمية والدولية في نهاية المطاف. ومن دون مبالغة؛ فإن التشدد الكامل الذي تبديه حماس إزاء التمسك بالحراك الشعبي، والوصول به إلى وضع الذروة منتصف مايو/أيار القادم؛ ينبع من شعورها بأن هذا الخيار يمثل الفرصة الأخيرة أمامها للخروج من كابوس الانهيار المريع المحدق بقطاع غزة وقطاعاته الأساسية والحيوية، جراء قسوة الحصار وتصاعد وتيرة العقوبات الجماعية التي أحالت حياة الناس إلى جحيم. ولذا؛ فإن حماس ستمضي في هذا الخيار، وستراهن عليه بكل ما أوتيت من قوة مهما كانت الأثمان والتداعيات. فشل الاحتواء منذ انطلاق موجة الحراك الشعبي الفلسطيني؛ أدركت إسرائيل أنها فقدت تفوقها التقليدي في ميدان القدرة والحسم العسكري، وأن البعد الشعبي السلمي البحت كفيل بتجريدها من عناصر قوتها العسكرية والمادية التي اعتمدت عليها في إخضاع الفلسطينيين. واجهت إسرائيل مشقة بالغة في تسويق روايتها بشأن التصدي للمحتجين الفلسطينيين المسالمين، فقد كانت تواجه مسلحين فلسطينيين ذوي أعداد محدودة فيما مضى يسهل تبرير مواجهتهم وتصفيتهم، إلا أنها تواجه اليوم أعدادا غفيرة عزلا من السلاح، وتتألف من مختلف الفئات شبانا وشيوخا ونساء وأطفالا، مما يجعل روايتها الإعلامية المنقولة من الميدان مثلومة وغير ذات مصداقية. فوق ذلك؛ فإن مدى جرأة المشاركين في المسيرات، والتجهيز الضخم للمسيرات الكبرى في ذكرى النكبة منتصف الشهر القادم، وخشية إسرائيل من السيناريو المرعب القائم على اقتحام مئات أو آلاف أو عشرات الآلاف من الفلسطينيين على الأقل للحدود، وما قد يترتب على ذلك من تداعيات، وضع قادة الاحتلال في مأزق حقيقي لم يكن يخطر لهم على بال. ومن هنا؛ لم يكن غريبا أن تنشط المبادرات الرامية إلى تدارك الأزمة قبل وقوعها، وأن تبرز إلى السطح جهود سياسية لاحتواء الموقف الميداني الآيل بقوة إلى الانفجار. حملت الأنباء حديثا عن عرض أوروبي ل"حماس" يتولى الاتحاد الأوروبي بموجبه العمل على تدشين مشاريع تزيد قيمتها على نصف مليار دولار في الجانب الإنساني والبنية التحتية، بغية التخفيف من الأزمة الإنسانية المتفاقمة في القطاع، مقابل قيام حماس باحتواء الحراك الشعبي وتأمين الجبهة الحدودية مع إٍسرائيل. ومما يبدو؛ فإن العرض الأوروبي لم يحظ بأدنى اهتمام لدى حماس لكونه لا يحقق الحد الأدنى من مطالب رفع الحصار وحل الأزمة الإنسانية في غزة، لأنه يعالج جانبا من أعراض وأسباب الأزمة الإنسانية وينزع عنها طابعها السياسي والوطني الهام. بموازاة ذلك؛ نشطت الدبلوماسية المصرية عبر الوفد الأمني المصري خلال الفترة الماضية، لنزع الفتيل والتأثير على حماس بغية وقف الحراك الشعبي القائم، وتلافي التداعيات المحتملة في ذكرى النكبة التي تتوجس منها مصر وترى فيها قنبلة موقوتة قد تؤدي إلى تفجير الموقف برمته، ولربما تتسبب في اندلاع حرب جديدة وفق رؤية المصريين. حطّ الوفد الأمني المصري رحاله في غزة مؤخرا، والتقى على عجل قيادة حماس مطولا ولكنه رأى في موقفها صلابة ظاهرة، فحاول نقل صناعة الحدث إلى مقر قيادة المخابرات المصرية كي تكون القدرة المصرية على الضغط على الحركة أكثر قوة وتمكّنا، ونجح فعلا في إقناعها بإرسال وفد إلى القاهرة. لكن الوفد خلا من إسماعيل هنية (رئيس الحركة العام) ويحيى السنوار (رئيس الحركة في غزة)، وهو ما بدا وكأنه رسالة واضحة من الحركة برفض التعاطي مع الموقف المصري الداعي إلى وقف مسيرات العودة وإبداء المرونة لإنجاز المصالحة مع فتح، والاستمرار في موقف الحركة القاضي بتأجيج الحراك السلمي حتى النهاية. وهكذا؛ لم يكن غريبا أن تتمخض لقاءات وفد حماس مع المصريين عن صفر كبير، وأن يعود الوفد من حيث جاء دون أي اتفاقات أو تفاهمات. احتمالات التصعيد إسرائيليا؛ ما زالت المواقف الحادة والمتشنجة على حالها دون أي تغيير، ولم يصدر عن الحكومة الإسرائيلية ما يشي بإمكانية بلورة رؤية أو صفقة ما لحل معضلة غزة وأوضاعها المتفاقمة، أو الإيعاز لحلفاء إقليميين ودوليين ببلورة مبادرات تقدم تنازلات ذات بال، لإرضاء حماس وإقناعها بالعدول عن الحراك الشعبي. ومن يتابع المنحنى البياني لخطاب حماس السياسي والإعلامي الذي تتصاعد وتيرته يوما بعد يوم؛ يدرك أنها حسمت موقفها وخياراتها الراهنة، ولن تسمح للمساعي والجهود الإقليمية والدولية -القاصرة من وجهة نظر الحركة- بتقويض الحراك الشعبي وأهدافه المرسومة. وتتعزز رؤية حماس -أكثر ما يكون- عبر المواقف الداعمة والمؤازرة التي يبديها عدد من القوى والفصائل الفلسطينية الأساسية (حركة الجهاد الإسلامي والجبهتان الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين)، والعديد من الشرائح الشعبية، الذين يبدون ثباتا وصلابة في ضرورة مواصلة الحراك الشعبي، والاستمرار في فعالياته الموضوعة حتى النهاية. في ضوء ذلك؛ تتضاءل السيناريوهات المحتملة التي تناقش مآلات الحراك الشعبي الحالي إلى أبعد مدى، وتكاد تنحصر في سيناريوهين اثنين لا أكثر: – يتجه السيناريو الأول -وهو الأكثر رجحانا- إلى القول بأن الأوضاع الميدانية ستشق طريقها نحو التدهور التدريجي خلال الأيام القليلة القادمة، وأن القلق الكبير الذي يعتري صناع القرار في إسرائيل مع اقتراب موعد الزحف الكبير لاقتحام الحدود منتصف الشهر القادم، سيدفعهم إلى استباق الأحداث وإبطال القنبلة الموقوتة قبل سقوط آلاف الضحايا. وحسب هذا السيناريو؛ فإن إسرائيل قد تعمد إلى تسخين الجبهة الميدانية، وتلجأ مجددا إلى أسلوب القصف والاغتيالات خلال الأيام القادمة لاستجلاب ردود فلسطينية عنيفة تتدحرج إلى أشبه ما يكون بكرة الثلج، وصولا إلى حرب تتحكم إسرائيل في معظم مقاييسها وتفاصيلها. – أما السيناريو الآخر فيكمن في المراوحة وانتظار إسرائيل ما قد يحدث في ذكرى النكبة، وهو ما قد يفضي إلى احتمال تدحرج الأحداث إلى مستوى الحرب التي تفرض نفسها على الطرفين، أو احتمال التمكن من السيطرة على الموقف الميداني أيا كانت طبيعة الحدث، وبالتالي استمرار الحراك الشعبي أسابيع طويلة. وفي كل الأحوال؛ فإن نُذُر الحرب تخيم على الأجواء لأن إسرائيل المرتبكة والمأزومة لا تستطيع الانتظار أو الاحتمال طويلا، ومع الحرب أو بدونها فإن إسرائيل ستكون مضطرة للبحث والدفع في اتجاه توليد حلول موضوعية لأزمة غزة ومعضلاتها الكبرى قريبا.