شهر مارس، من كل سنة يشكل كابوسا مرعبا للدبلوماسية المغربية، إذ تضطر لمواجهة سيل من المناورات القديمة والجديدة لإضعاف موقف المغرب والتأثير على المبعوث الأممي؛ لتسجيل نقاط ضد مصالحه في قرار مجلس الأمن الخاص بالصحراء الذي في الغالب ما يصدر في الأسبوع الثاني من نيسان/ أبريل كل سنة. لكن، هذا الشهر، تشير التطورات إلى أن أوراق اللعب بدأت تتغير مسايرة لاتجاهات السياسية الدولية والإقليمية. فقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان تراجعت بشكل كبير في اهتمامات السياسات الدولية، ولم يعد الرهان على حقوق الإنسان بالنسبة للجزائر وجبهة البوليساريو تشكل ورقة رابحة تماما، خاصة لما دخل المغرب في دينامية دبلوماسية نشطة في أفريقيا تجاوزت محوره التقليدي في غرب أفريقيا وامتدت إلى وسطها وشرقها، بل وصارت تلعب داخل المحور الجزائري النيجيري الجنوب أفريقي، وأربكت حدود تماسه، وهي تسير في اتجاه نسفه وإعادة صياغة العلاقات الدبلوماسية بين المغرب ونيجيريا من جهة، والمغرب وجنوب أفريقيا من جهة ثانية. تحركات المغرب في أفريقيا، التي تجاوزت المقاربة الكلاسيكية بإعادة صياغته لعلاقاته الأفريقية بالتركيز على ثلاثية الدين والأمن والتنمية، مع استغلال لسنوات من الأزمة الاقتصادية في الجزائر، مكنه من التوغل في العمق الأفريقي، والعودة للاتحاد الأفريقي، وانتزاع عضويته في مجلس السلم والأمن الأفريقي، فضلا عن السير بخطى حثيثة للانضمام إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، وتحريك دينامية علاقات اقتصادية وتجارية غير مسبوقة مع دول أفريقيا أثمرت إبرام مئات الاتفاقيات التجارية مع مختلف دول أفريقيا؛ كان من بينها اتفاقية لمد أنبوب للغاز الطبيعي بين نيجيريا والمغرب عبر دول أفريقية عدة. لكن، مع بداية تعافي أسعار البترول والغاز، تحركت الدبلوماسية الجزائرية لاستعادة المبادرة، بإعادة طرح ورقة قديمة، تركز على قضية الثروات، وذلك بالضغط لافتعال معركة قانونية بين المغرب وشركائه لعرقلة بعض اتفاقياته الحيوية، خاصة ما يتعلق بالصيد البحري. بدأت القصة أولا، بافتعال أزمة سفينة الفوسفات، إذ أوقف تسلطات جنوب أفريقيا سفينة شحنت نقل الفوسفات المغربي متجهة إلى نيوزلاندا بعد شكاية تقدمت بها جبهة البوليساريو (الانفصالية)، بدعوى أن الفوسفات يتم استخراجه من الصحراء. وأصدرت المحكمة العليا في جنوب أفريقيا في أواخر شهر شباط/ فبراير من العام الجاري قرارا ببيع الشحنة في المزاد العلني، ثم انتقلت الديناميات الدبلوماسية الجزائرية لتحريك جبهة البوليساريو لاستثمار هذا الموقف، والتحرك في أوروبا للضغط لعرقلة اتفاق الصيد البحري المبرم بين الاتحاد الأوروبي والمغرب بنفس الخلفية القانونية. قرار محكمة العدل الأوروبية، جاء معارضا للمصالح المغربية، إذ استثنى المياه الجنوبية المغربية من اتفاقية الصيد البحري مع الاتحاد الأوروبي، بما يعني انتقاصا أوروبيا للسيادة المغربية واندلاع أزمة دبلوماسية جديدة مع الاتحاد الأوروبي؛ شبيهة بالأزمة التي خاضها المغرب سابقا على خلفية الاتفاق الزراعي، وقضت محكمة العدل الأوروبية سنة 2016 بإلغاء قرار محكمة الاتحاد الأوروبي الصادر بتاريخ 10 كانون الأول/ ديسمبر 2015، والذي خلص إلى الحظر الجزئي للاتفاق الفلاحي بين المغرب والاتحاد الأوروبي. المغرب فطن، أن نقطة ضعفه الدبلوماسية في أفريقيا جاءت مرة أخرى من جنوب أفريقيا، كما جاءت نقطة ضعفه في علاقاته الأوروبية من بريطانيا؛ التي جاء قرار محكمة العدل الأوروبية بناء على طلب من محكمة بريطانية تلقت دعوى تقدم بها مكتب محاماة يمثل منظمة بريطانية غير حكومية، تمثل واجهة اللوبي الجزائري الضاغط ضد مصالح المغرب. مؤشرات الحرب الدبلوماسية الجارية على الأرض، تشير إلى أن المغرب، ومن أعلى مستوى في الدولة، يشحذ كل آلياته الدبلوماسية لإبطال ورقة الثروات (الورقة القديمة/ الجديدة)، ويدرك تماما أن القضية في جوهرها سياسية، وأن لا علاقة لها بمقتضيات القانون الدولي المؤطر لعملية استثمار الثروات الطبيعية، ويحاول أن يعيد صياغة تحركاته الدبلوماسية باستحضار هذا التكتيك الجديد في الحرب الدبلوماسية، وذلك بالجمع بين ثلاثية الدبلوماسية والقانون والسياسة. حاول المغرب استعادة المبادرة، بنقل المحادثات مع المبعوث الأممي في الصحراء من برلين إلى لشبونة مع تأخير وقتها شهرا كاملا، وبحضور ممثلي سكان الأقاليم الجنوبية، وذلك للتأكيد على أنه لا يقوم بمفاوضات مباشرة مع البوليساريو، ولاستثمار الفرصة لإعادة عرض ملف الصحراء على المبعوث الأممي بأبعاده التاريخية والقانونية والسياسية، مع بعث رسالة واضحة من خلال إشراك رئيس جهة العيون الساقية الحمراء ورئيس جهة الداخلة وادي الذهب، في المحادثات، تعبيرا من المغرب على أن اسثتمار ثرواته الطبيعية يجري بانسجام تام مع مقتضيات القانون الدولي، بحكم أن المنطقة تعرف انتخابات ديمقراطية، وأن ممثلي هذه العملية السياسية التي جرت في المنطقة حاضرين في المحادثات، وأن الدولة لا تتصرف خارج إراداتهم، وأن الأمر هو شأن صحراوي داخلي بين أغلبية اختارت الوحدة في ظل السيادة المغربية، وأقلية اختارت الانفصال بدعم إقليمي. لا يملك المغرب خيارات كثيرة على المستوى القانوني سوى اللجوء إلى استحضار ممثلي ساكنة الأقاليم الصحراوية الذين انتخبوا في ظل عملية سياسية شهد المراقبون الدوليون بنزاهتها؛ لأنه يدرك أن وراء الجوانب القانونية حراك سياسي يستعمل لغة المصالح، لاستمالة الاتحاد الأوروبي أو الضغط عليه. بلغة الأرقام، وطوال السنوات الأخيرة، حقق المغرب اختراقات مهمة في أفريقيا وأمريكاالجنوبية، القلاع التاريخية لمناوئي وحدته التاريخية، وخسرت البوليساريو داعمين مهمين لأطروحتها الانفصالية، فقد ربح المغرب في أفريقيا 35 دولة سحبت اعترافها بالبوليساريو، ولم يبق من دول أمريكا اللاتنية الداعمة لجبهة البوليساريو سوى بضع دول هي المكسيك، والأوروغواي، وفينزويلا، وبنما، وبعض الجزر الصغيرة كسورينام. خيارات المغرب السياسية كثيرة، تتأرجح بين استثمار لغة المصالح، وبين لغة الضغط بورقة الأمن وورقة الاقتصاد، سواء في أفريقيا أو مع أوروبا. ورقة المصالح ربما استعملت بذكاء مع جنوب أفريقيا لاحتواء أي موقف مستقبلي يضر بمصالح المغرب، فقد تم مؤخرا تمكين شركة جنوب أفريقية من صفقة شراء أكبر شركات التأمين في المغرب (سهام) بمبلغ مليار دولار، لضمان حضورها الاستثماري في المغرب. أما مع أوروبا، فيملك المغرب أكثر من ورقة، بما في ذلك ورقة الصيد البحري نفسه، فالمغرب يدرك أن اتفاق الصيد البحري ليست ذات قيمة تجارية مهمة، وإنما قيمته سياسية أكثر، بينما المستفيد الأكبر من هذا الاتفاق هي بعض دول أوروبا التي تصطاد أساطيلها في واجهتي بحرين ممتدين من مياه المغرب، كما أن بعض دول أوروبا جربت الكلفة الأمنية من جراء توتر العلاقات مع المغرب، ولا أظن أنها ستسمح بأن تسير العلاقات المغربية الأوروبية إلى المنعطف الذي يضطر المغرب لإعادة تقييم علاقاته الأمنية والقضائية مع الجارة الشمالية، على النحو الذي يجعل تحديات الهجرة والإرهاب والمخدرات والجريمة العابرة مربكة للحسابات الأوروبية، ويجعل مستقبل الاتحاد الأوروبي نفسه في دائرة التساؤل.