ثمة جدل واسع في العالم العربي أعقب خريف الشعوب؛ حول موت السياسة وتراجع سماتها في سلوك وتمثلات ومواقف المجتمع. البعض يرى أن السياسة تراجعت وماتت، والبعض الآخر يرى أن مؤشراتها – على العكس من ذلك – تنامت وأخذت أشكالا غير مسبوقة. بعد الربيع العربي، وبعد صعود القوى الحية التي كانت تشكل المعارضة السياسية الأولى زمن انتشار السلطوية وتمددها في العالم العربي، لم يكن ثمة أي جدل حول تنامي مؤشرات السياسة، وتصالح المواطنين معها: مؤشرات ظهرت في انسياب عدد من الفاعلين في العملية السياسية بعد سابق مقاطعة أو تكفير أو رفض للمشاركة بسبب شروط العملية اللعبة، كما ظهرت من خلال عودة الثقة نسبيا للمؤسسات، وعودة المعنى للصوت الانتخابي، وتنامي منسوب الاهتمام بالسياسات العمومية، وتوسع دائرة النقاش السياسي حول القضايا العمومية لا سيما في الإعلام العمومي، فضلا عن حيوية المجتمع المدني، وتوسع شبكات الرقابة المجتمعية، والدور الحيوي الذي صار يقوم به الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي. إذا كان المعيار في عودة السياسة هو هذه السمات والمؤشرات، فقد سجل تراجع كبير فيها عقب الخريف الديمقراطي، فسرعان ما تم تسجيل نفس مؤشرات انهيار السياسة التي طبعت مرحلة السلطوية الممتدة، وتراجع الاهتمام بالسياسة وبمؤسساتها، ولم تعد هناك ثقة بالصوت الانتخابي، لا سيما بعد أن حوّلته تكتيكات النخب السياسية وصناع القرار إلى رقم جامد أو هامشي لا قيمة له في صناعة خارطة السياسة. لكن، هل بهذه السهولة يمكن أن نحسم الجدل في منحنى تصاعدي وتنازلي، يرسم تحولات عودة أو موت السياسة بهذه المؤشرات الظاهرة بمعزل عن مؤشرات أخرى دالة، لا يمكن بحال أن يستغنى عنها في تتبع حال السياسة في الوطن العربي؟ البعض يستسهل بعض المؤشرات، ويرى في انهماك شرائح عديدة من الشباب أو غيرهم في نقل فيديو أو تقاسم صورة أو كاريكاتير أو مقال أو شعر أو موقف عبر الهاتف النقال، كما ولو كان مجرد لحظة ترفيه، ينفّس فيها المواطن عن تعبه من ضيق المجال العام وقلة فرص المشاركة والتنمية. لكن، حين يخرج الحراك الاجتماعي ذي الطبيعة الاحتجاجية ويغيب الفاعل الحزبي التقليدي عن التأطير، وتظهر نخب أخرى وقيادات أخرى، تصدم علوم السياسة بمحدودية النموذج، فتضطر لمواكبة الظاهرة، وتخلص ضمن كثير من خلاصاتها إلى موت أو تراجع النخب التقليدية وبروز نخب أخرى. من أين اكتسبت هذه النخب الجديدة مبررات وجودها؟ هل تأطرت في رحم الأحزاب، ثم خرجت عنها لخلافات في تقدير الدور وموقع النخب وطبيعة الخط السياسي؟ أم أنها خرجت من رحم آخر غير النخب الحزبية التقليدية؟ النماذج المتوفرة من حركات الاحتجاج الاجتماعي في عدد من البلدان العربية، تؤكد بأن أغلب القيادات خرجت من رحم آخر، خرجت من رحم المعاناة من ضيق العرض الاجتماعي، وأعطاب النموذج التنموي، وعدم العدالة بين المركز والأطراف، وخرجت أيضا من رحم ضاقت فيها المبادرة الحزبية، وعجزت عن استيعاب الزخم الاجتماعي، وعن تأطير الصوت الاحتجاجي. هذه النماذج تؤكد بأن السياسة التي تكون في بعض صورها ترفيها أو تنفيسا، تصير في لحظات مصيرية، مؤسسة بطريقة تتجاوز النظام الذي كانت السياسة تمارس به. نعم في السابق، كان للسياسة نظام تمارس به، تلعب فيه الأحزاب والمجتمع المدني دور الوساطة بين الدولة والمجتمع، وتمنع حدوث الاحتكاكات الصادمة التي تزعزع الاستقرار السياسي والاجتماعي. لكن، في ظل تآكل هذا النظام، وازدياد مؤشرات محدوديته بسبب الحاجات التي يمليها توسع السلطوية، تعود السياسة بطريق آخر، وبنظام آخر، لا يعرف القيود ولا يحترم القواعد التي تأسس عليها نظام السياسة السابق. تخرج الجماهير التي كانت بالأمس تتقاسم الفيديو والصور والكاريكاتير والشعر والمواقف عبر الهاتف النقال في المقاهي، وتتحول إلى نخبة تغيير لا تعرف التفاوض ولا تكتيكات النخب، وتكفر بالأحزاب ونخب المجتمع المدني، وتتهمها ربما بالتواطؤ ضد مصالح الساكنة، والتآمر ضد تنمية المنطقة، وتخرج للسياسة بالوضوح الزائد، والعفوية المغامرة، وتخاطب الدولة أو رموزها بشكل مباشر، وتضع مظلوميتها شفيعا يبرر لها كل ما تقدم عليه. هذه المؤشرات الجديدة، تربك خارطة الحجج التي في العادة ما يدلى بها لتأكيد عودة السياسة أو موتها، وترسم نمطا جديدا من المقاربة، يراعي بالأساس تجليات جديدة للسياسة، لا تظهر في مؤشرات الثقة أو المشاركة أو الإدماج أو حتى مؤشرات المصالحة، وإنما تظهر في حركية النخب وتجددها، وتطور الخطاب الاحتجاجي، وتبلور نظام جديد في ممارسة السياسة تظهر مؤشراته الأولى أنه ينحو منحى محاصرة النسق السياسي من خارجه. هي محاصرة للنسق السياسي من خارجه، وليست ثورة ولا تباشير ثورة، هي فقط احتجاج على استنفاذ النسق لأغراضه، ومحاولة لإعلان وفاته وذلك بالعودة إلى نسق الخطاب المباشر مع الدولة، أي نسق التخاطب مع الملك أو رئيس الدولة، ووضعه في دائرة الحرج. في مصر اليوم، لم يعد هناك خطاب أقوى من نقد الرئيس وتحميل نمط السلطوية الجديد الذي اعتمده. كل الكوارث التي حلت بالبلاد، وفي المغرب، لم يعد هناك خطاب أجدى من مخاطبة الملك بشكل مباشر لرفع المظلومية على المناطق المهمشة. وفي البلدان العربية التي يحكم فيها العسكر من خلف جبة النظام الرئاسي مثل الجزائر، فإن صورة السياسة يمكن أن تظهر في شكل احتجاج عارم لا سقوف له سوى التأسيس لربيع عربي جديد، وفي البلدان التي لا يزال أمامها فرصة للتأسيس لنظام الوساطة، مثل تونس التي لم تستأنس بالقدر الكافي بتجارب الانتخابات بلدية، فإن النخب المحلية الجديدة ستلعب دور التنفيس المؤقت، ثم يتشابه (مع مرور الزمن) وضعها بوضع الدول العربية التي عرفت تجربة عريقة في هذا النوع من الوساطة، وتصير (بعد أن وضعت للوساطة) جزءا من أزمة النموذج التنموي غير العادل، تماما كما يحدث في المغرب، الذي تحولت فيه بعض النخب المحلية إلى مراكز نفوذ اقتصادي متواطئ ضد الإصلاح والعدالة المجالية والتنمية.