إنسان مازال حبيس الخرافة والفكر الانتهازي والاستغلالي، حيث الضمير معطّل، والإحساس معطوب، والأخلاق مزيفة. الحنجرة غضبى تصرخ طيلة أيام الله: غيّروا هذا الوطن أو غيّرونا… هل أضحى تغيير الواقع مخيفا أكثر من الواقع نفسه؟، هل صار هذا الإنسان المغربي أداة من أجل كلّ شيء، بدل أن يكون كلّ شيء من أجله؟. لم أخبر قبل الآن عمق الموت وسلطته، كما خبرتهما في ذلك اليوم من أيام شهر أبريل 2011، في عيون امرأة أمازيغية بسيطة وافدة على متن سيارة إسعاف إلى مستشفى سيدي “احساين بناصر” بمدينة ورزازات، لا تكاد تندّ عنها حركة سوى ما اصّاعد فيها من أنفاس بطيئة، ونأمات تناهت إلى سمعي بصعوبة .. يومها أيقنت أنّ “المرض” على الطريقة المغربية لا علاقة له بالصحة، إذ أنّه يسكن في “رؤوس” بعض المسؤولين، وتحديدا في طريقة تفكيرهم ورؤيتهم للأشياء والأشخاص، هذا ما قالته واقعة تلك المرأة الأمازيغية الأربعينية التي دخلت مستشفى سيدي احساين حيّة وخرجت منه ميتة أمام ذهول وصدمة الجميع، وضمنهم أفراد أسرتها، الذين أكّدوا أنها لم تكن تعاني من مرض معيّن، وإنما تهاوت مغشيا عليها صباح ذلك اليوم فقط، أين الخلل إذن؟، ومن المسؤول؟، هل الموت؟، أم القضاء والقدر؟، أم المرأة نفسها التي اختارت أن تسقط “على طولها” في ذلك اليوم؟، حيث لا يوجد في “المستعجلات قتلا” (مع كسر الجيم ليستقيم الكلام معنى ومبنى) سوى ممرضَيْن لا يتقنان غير حرث أرضية المستشفى ذهابا وإيابا دون سبب مفهوم؟. نعم المرأة هي المسؤولة (وسيتفق معي جميع المغاربة)، فلماذا يتوسّل قريبها الممرضَ، “عافاك أجي ديروليها الأوكسيجين راها تتخنق”، هل يعرف أحسن من الممرض بسيدي احساين؟، “ما خاصها والو” أجاب الممرض العارف بأمور الصحة والمرض، والحياة والموت، “ولكن راها تتنفس بزّز وتتخنق، عافاكم يلا ما عتقوها را خاصها الأوكسجين” أضاف قريب المرأة، “واسير دير ليها نتا الأوكسجين يلا تتعرف حسن منّا” ختم الممرض فصلا من مسرحية العبور نحو الموت. المرأة هي المسؤولة، لأنها أزعجت راحة قطاع الصحة بسيدي احساين، ولم تكن تعاني من مرض عضال أو حالة خطيرة تستدعي التدخّل “المستعجل”، وبدل ذلك كان عليها أن تموت بأمان في منزلها وتجنّب المستشفى تلك الضوضاء والصدمة التي أحدثتها وفاتها، و“مريضتنا ما عندها باس”. “أجاركم الله، هادشي مكتاب” نبس الممرض، الممرض الذي كان يرفع عقيرته قبل قليل -مداريا خجله، وربّما خوفه أيضا، “هادشي مكتاب” الحل السحري والكلام المخدِّر الذي يردّده كلّ مخلّ بالمسؤولية في هذا الزمن المغربي، “ديرها بيديك وقول العروسة مطيارة”. ألم يكن من الممكن إنقاذ تلك المرأة الأمازيغية البيسطة الوافدة من عمق المغرب المنسي؟، ألم يكن وضعها يستوجب المحاولة والتدخّل على الأقلّ؟، ألا أنّ أسرتها لا تملك حافظة نقود دسمة أو أجندة هواتف سامية؟، فقد جفّ قلمها وطويت صحيفتها؟، ألا يطرح هذا الوضع / النموذج سؤالا كبيرا حول ماهية التغيير ومفهوم الإصلاح الذي نرومه لهذا الوطن؟. هل يفترض أن نعيش دائما وفق المقولة الشوبنهاورية: “القدر يخلط الأوراق ونحن نلعب”؟ ألا يجدر بنا مرة أن “نخلط الأوراق” مثلا؟ واقعة المرأة الأمازيغية التي قضت نحبها بسيدي احساين جرّاء الإهمال الكبير ليست بعيدة عن واقعة وفاة المناضل النقابي الأستاذ المرحوم محمد الزياني بمستشفى مولاي علي الشريف بالراشيدية إثر حادثة سير قبل شهرين. محمد الزياني لم تقتله الحادثة، قتله الإهمال هو الآخر، فبعد أن مكث ملقى في الطريق ساعات، وبات ليلة كاملة بالمستشفى، انتبه المسؤولون بفطنتهم الطبية أنّ حالته حرجة وتستدعي نقله فورا إلى المركب الاستشفائي بفاس، أي عبر مسافة 400 كلم تقريبا. بعد 24 ساعة على الحادثة سيلفظ محمد الزياني أنفاسه الأخيرة ناقما على هذا الزمن المغربي، وشاهدا على مرحلة من التردي والوعي الزائف. “هادشي مكتاب” أخي محمد الزياني، هكذا قالوا بعد رحيلك، ففي الظلام كلّ الألوان تختلط، والجهل والاستهتار على الطريقة المغربية ينجبان كائنات بدون اسم، وبدون ضمير، ثمّ يضعان بين أيديها مصائر الناس وأرواحهم، ويزودانها بصكوك مكتوب عليها “هادشي مكتاب” تتلى بقراءة ورش وقراءة حفص، وبالملحون حتّى… على رأي أدونيس، “من أين لهذا الوطن أن يكبر بإنسان صغير؟”، إنسان مازال حبيس الخرافة والفكر الانتهازي والاستغلالي، حيث الضمير معطّل، والإحساس معطوب، والأخلاق مزيفة. الحنجرة غضبى تصرخ طيلة أيام الله: غيّروا هذا الوطن أو غيّرونا… ما حدث بسيدي احساين ومولاي علي الشريف، حدث مثله وأكثر بالمناطق الأخرى المنسية للجنوب الشرقي حتّى ليبدو أنّ “الموت” هو الوحيد الذي “يشتغل” في هذا الزمن المغربي الرديء. قطاع الصحة بالجنوب الشرقي “مريض جدّا” ورغم ذلك يتغابى المسؤولون، ويغطّون الشمس بالغربال، ويستمرون باسم الله وبلغة القضاء والقدر،في قتل هؤلاء “الناس المنفيين في جلودهم”( بتعبير حيدر)، قبل أن تنفيهم الطبيعة. وينسى هؤلاء المسؤولون أنّ العالم اليوم مفتوح عن آخره، وسبل التغيير قوية وكثيرة، فلكلّ ساقطة لاقطة، ولكلّ فضيحة مساحة للتداول، ومن لم ينصفه القانون ، أنصفه الفايسبوك واليوتوب. صحيح أنّي لم أستطع ذلك اليوم تسجيل الممرض وهو يتلفظ بتلك الطريقة و“يقتل” المرأة الأمازيغية ، لكنّي على الأقل لازلت أملك القدرة على الكتابة ونقل المأساة التي أنستني لماذا ذهبت أصلا لسيدي احساين؟، لكنها لم تنسني أنّي مازلت إنسانا أقدر أن أحرّك شفتيّ وأبصق طلقة تجرح هذا الصمت المغربي. حقّا، “العالم كوميديا بالنسبة للإنسان الذي يفكّر، وتراجيديا بالنسبة للإنسان الذي يحسّ”، فبين سدي احساين ومولاي علي الشريف يتحرك الإهمال والاستهتار المرتبطين بالقطاع الصحّي مثل ريح صحراوية تجفّف ما بقي من قطرات الندى في ضمائر بعض المسؤولين، وتؤسس لواقع عبثي يحاول إقناعنا أنّه لا يمكن إطلاقا أفضل ممّا هو كائن، وهو عكس ما يحدث الآن من وشوشات وتحركات في سبيل الفضح والتغيير، أبطالها أطفال وشباب وشيوخ، نساء ورجال، مهمشون ومضطهدون ومغلوبون على أمرهم ومنسيّون، يحملون حزنهم الأكبر ويذرعون الشوارع والأحياء، يسمهم البعض بالجنون، فيصرخون، “فقدنا العقل وليس الحقيقة”، هناك بعض المجانين يقولون الحقائق بينما آخرون يظلّون صامتين”(هنري ميلر). الموت في الجنوب الشرقي ليس هو الدرس الوحيد الذي يلوكه الزمن برتابة، فهناك الحياة أيضا، رغم احتياطي الألم والمعاناة والغبن الذي يجتهد المسؤولون في تخزينه داخل هذه الجغرافيا. إنّه الصراع السيزيفي ضدّ الموت المادي والرمزي الذي جبل عليه هؤلاء الأمازيغ ما يُبقي المستقبل القريب أبيض وليس أسود أو رماديّا.. هذا الموت وإن كان يعلمنا( على رأي أدونيس) كيف نبدأ، فإنّ الحياة هي وحدها تعلمنا كيف ننتهي. أعتقد – الآن- أنّ الخوف قد فقد معناه وسلطته في زمن الصورة والكلمة الحرة، وصار اللحظ أصدق أنباء من اللفظ، وحتى يجيء “يوم الحساب” أدعو للمرأة الأمازيغية البسيطة، والمناضل قيد حياته المرحوم محمد الزياني، وكل “الشهداء” الذين راحوا ضحيّة القطاع الصحي بالجنوب الشرقي بالرحمة والمغفرة، وأقول لهم: هذا أوان السقوط، ومن يسقط،لا يسقط بخير أبدا…