الإنسان ليس شيطانا ولا ملاكا، بل هو إنسان قبل كل شيء، يخطئ ويصيب، يذنب ويتوب، ينزل ويرتفع، لا قعر لهبوطه، ولا سماء لارتفاعه، لا حافة لنذالته، ولا حدود لكرامته. إذا قيس إلى اللانهاية فهولا شيء، وإذا قيس إلى العدم فهو كل شيء، فهو معلق بين حافتي العدم واللانهاية، بين طرفي الخير والشر، بين قطبي الشيطان والملاك! مع ذلك، فهو لا يعرف شيئا عن العدم الذي خرج منه وإليه مآب. هو ترابي زائل، هو حقيقة خالدة وروعة ماثلة، شبح متحرك، وحي ميت على الدوام. في كل لحظة يموت ويحيا، ينهدم ويتجدد، في حالة صيرورة دائمة، وحركة لا تنتهي، يخطفه الموت، وتبقى آثاره متمسكة بالخلود، مستعصية على الفناء، هو شديد الهشاشة، عظيم القساوة، هائل الطراوة. تسحقه نفخة غبار ولفحة نار وفيروس تافه، ولكنه يسخر الغبار والكهرباء والنار، يلعب بالمغناطيس، وله يسجد البخار. يذيب الحديد، ويحفر الصخر، ينسف الحجر والجلمود، ويفجر قوى الذرة العاتية وهو لا يراها! هو قمة التقوى وحضيض النفايات وبالوعة القذارات، هو معتنق المقدس، ومرتكب الحماقات والضلالات، سافك الدم، محيي العدل، فيه تألق الجمال وعربدة الإجرام. فيه لغز الوجود وسر الكون. فيا ترى أين بوصلته الداخلية؟ وكيف يتأتى إصلاحها عند الخلل وصيانتها ضد التفاهات والروتين القاتل وملل الحياة وضغط الأحداث؟ تقدم إلينا رجل طويل القامة، جميل الهندام، حليق الوجه، ذو سحنة جميلة، وشاربين عريضين، وقدمه إلينا أستاذنا ثم فاجأه بالسؤال: تفضل وأخبر الأطباء من حولك عن سبب قتلك للضابط العميد؟ بدأ الرجل المهذب يتكلم بأسلوب واضح، وعبارات طليقة، ولغة مسترسلة: قتلته لأنه كان يتآمر علي! قاطعه الأستاذ سائلا ما هي رتبتك في الجيش؟ أجاب: مساعد أول! سأله الأستاذ وكيف قتلته؟ أجاب قائلا: لقد عبأت مسدسي (ثم وبعبارة لا تخلو من اعتداد بالنفس)، لم أشأ قتله غدرا من الخلف، بل طلبت منه الاستدارة وقتلته مواجهة! كان هذا عندما كنا طلابا في كلية الطب في الصف الخامس، حيث بدأنا في اكتشاف عالم جديد في الطب، هو غير ما تعلمناه من العلوم الطبية، سواء منها ما قبل السريرية، من أمثال تشريح العظام، وإفراز الهرمونات، وآليات الاتزان في البدن، أو عالم الأمراض السريرية من أمثال فقر الدم، والتهاب الزائدة الدودية، وأورام الكولونات، وكسور العظام. كان هذا العالم هو (الطب النفسي). نقلنا إلى عالم جديد هو العالم المعنوي، والقطاع الروحي، وآليات الفكر، والقوانين النفسية، التي لا تقاس بميزان الحرارة، ولا ترى بأشد المجاهر تكبيرا، ولا توزن بأشد موازين العالم حساسية، لا تشم ولا ترى ولا تسمع، لا تلمس، ولا تجس. ليست نبضا شريانيا، أو قصورا في الغدة الدرقية، أو اضطرابا في الحموضة والقلوية. كان ذلك اليوم بالنسبة إلي صدمة روحية، لم أستفق منها بسهولة لهول ما رأته عيناي. في تلك الساعات القليلة الخالدة عانيت من مشاهدة انهيار كامل لعالم مقدس، وكانت هذه الساعات القليلة هي الانعطاف الثاني في حياتي، في رؤية الإنسان من منظر مغاير، ومشهد انقلابي! دمعت عيناي للمرة الثانية، كما دمعت من قبل عندما وقع نظري على أول جثة إنسانية لامرأة، أوقعها حظها تحت مشارطنا، كانت بيضاء فاقع لونها طري جلدها! هذه المرة كانت عارية بدون إثارة، مستسلمة لقدر النهاية وقوانين الجسد العاري الفاني، قميص الوجود وحلة الظهور في مسرحية تنتهي في كل لحظة. استسلمت بدون مقاومة، وبقيت تنقص وتقطع، تضمر ويتغير لونها، ونحن نكتشف فيها ممرات الأعصاب، وحبال الشرايين، حتى وصلنا إلى العظام وهي رميم، وتلك الجثة لا تنطق حرفا ولا تشكو بردا أو عريا؟ لم نعرف من أين جاءت، ولا كيف عاشت وعانت؟! تعرفنا فيها على كهوف الجمجمة، وكيف تتصل العضلات، وأين تستند الأوتار، وأين تختبئ الأوعية ومسارب الأعصاب. في ذلك اليوم الذي لا يمحى ولا ينسى، اكتشفنا ووصلنا إلى ما لم نصل إليه من تلك الجثة المسكينة! لأنني وجدت مع ذلك الرجل، الذي فقد المجال المغناطيسي الروحي واختلت بوصلته النفسية، أن أعظم شيء يفقده الإنسان على الإطلاق هو ذلك الاتزان العقلي الروحي! وعرفت أن فقد المال والعقار، بل الصحة والجمال، وكل شيء ليست شيئا، بل ولا تقارن بهذه الهوة الجهنمية التي يهوى إليها الفرد بانحداره إلى المرض النفسي. استندت بذقني على كفي، أتأمل الرجل كالمصعوق ولا أكاد أصدق! كيان جديد سحري هلامي يغلف كلامنا ولا يرى، يتجلى من خلال كل حركة منا فلا يبصر، يدخل في كل تجويف، ويلتصق مع كل تلفيف في كياننا فلا يدرك! أي عالم رائع خلاب ذلك العالم الآخر، النشأة الأخرى، الخلق الجديد، البعد الجبار، القفزة النوعية (ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين). كان الرجل مصابا بداء «البارانويا»، المعروف والمترجم إلى اللغة العربية بداء «الزوّر»، كان يرى كل من حوله يتآمر عليه، وكل اثنين يتكلمان ينويان به شرا. هذا التردي العقلي هو الذي غلف صاحبنا، فلم يعد يبصر شيئا، وهي الروح التي تلبسته، والوساوس التي سيطرت عليه، والهلوسات التي تمكنت منه، فمسحت عقله واستلبت لبه، فلم يعد يستطيع التفريق بين الممكن والمستحيل. يسبح الإنسان عادة في مشاعره مثل الخوف والحزن والشك والغضب والحياء والشهوة، بين ثلاثة حقول أو قطاعات ودوائر، كل دائرة تتداخل مع التي جنبها، بحيث إننا لو رسمنا هذه الدوائر الثلاث التي يتحرك ضمنها الفرد لقلنا: إنه شيء طبيعي أن يخاف الإنسان أو يحزن بين حين وآخر، وهي الدائرة (الطبيعية) لكل إنسان، ولكنه أيضا ومن الطبيعي أن يخرج من هذه الدوائر، وهي حالة الصحة النفسية. فإذا بدأ المرء في الدخول والبقاء أكثر فأكثر، تحت تأثير مشاعر الكره والحقد على فرد ما، أو وضع ما، دخل الدائرة الثانية وهي ما يعرف في علم النفس بحالة «العصاب Neurosis». فإذا تزحلق إلى الدائرة الثالثة، فلم يعد يستطيع الفكاك منها، يكون قد انتقل إلى حالة «النفاس Psychosis» أو «الذهان» أو ما تعارف عليه الناس بفقد العقل. عندها تبدأ المشاعر السلبية من التمكن منه والاستحكام في منافذ العقل، فيتصور الواقع على شكل «إجرامي تآمري شرير»، وبذلك يكون قد وقع في حالة ما يعرف عند الناس بالجنون، والمجانين الذين يمشون بيننا وليسوا خلف القضبان كثيرون، كل ما علينا هو التأمل في تصرفات البشر، وتحليلها ومعرفة الدوافع الكامنة خلفها وهل هي متزنة عاقلة أم لا؟! فأن يكره الإنسان شخصا ما لفترة ما فإنه يقع تحت المعقول، ولكن أن يعيش على الحقد ويتغذى بالكراهية، خاصة إن كان من أفراد عائلته، فيكره أخته أو أخاه، لا يكرهه فقط بل يكره كل ما حوله ومن وما يقترب منه بأربع أذرع! يكره الزوج والأولاد والأحفاد (من يرتبط بهم المكروه) حتى النسل السابع!! يكره الأرض التي تقله، والسماء التي تظله، والماء الذي يشربه، والطبيعة التي تحوطه، والنباتات التي بجانب مسكنه، فهي كلها مؤشرات لاختلال عقلي يتناسب مقداره مع شحنة الكراهية وجرعة الحقد. وبهذا الانفصال عن الواقع والانفكاك عن طبيعة الوجود، يبدأ العقل في العمل بكيفية مضطربة جانحة لصاحبه ولمن حوله. مع هذا، فالجنون لا يكفي فيه الانفصال عن الواقع بل التصريح بما يخالف الواقع! وكان الحل في قصة صاحبنا السابق هو إمساك المسدس، ثم التوجه إلى مصدر الخطر لإلغائه، وهكذا وقعت الجريمة، وسقط الضابط الكبير مضرجا في دمائه، وهو لا يعرف عن طبيعة ما يعتلج في صدر هذا المجنون الخطر. تأملت الرجل غير مصدق، لأنه كان يتكلم بمنطقية وكلام متزن متماسك، ليس مثل المرأة التي جاءت بعده والمصابة ب«الفصام=الشيزوفرينيا» التي تحدثت بكلام مفكك، وجمل ممزقة، ولغة مدمرة، وعقل بائس، ومنطق مقيت. وبسرعة، كشفت بعض الجمل التي خرجت من ثنايا حديثه عن مدى انهيار العالم الذي يعيش فيه، فهو ساعة يلبس مسوح عيسى عليه السلام، وساعة أخرى يتحدث مع شخصيات عالمية وقادة مهمين، الأحياء منهم والأموات!! كان انفصاله عن الواقع كاملا ومأساويا، وتردى في هوة ليس بخارج منها. هذا الخلل العقلي الرهيب جعلني أعيد النظر في منظومة وجود الإنسان كله، لاكتشاف عالم جديد يقبع في داخل كل منا. كأن الواحد فينا مجموعة من شخصيات، وكوكبة من أحياء، وزمرة من أشباح. وبدأت أفهم أيضا اتهام الأنبياء بالجنون وأفلاطون الذي خرج من الكهف وعاد ينطق بكلمات جديدة أنه فقد عقله. ما الذي يحدث للدماغ حين يختل التفكير، وتمرض النفس، وتعتل الشخصية، وينحرف المزاج؟ لا شيء باستثناء هامش محدود، وقطاع صغير من اضطراب خلوي لا يعبأ به، ولا يشكل ثقلا في الميزان، أو حسما في القضية. كذلك العبقرية والإبداع، فكلا التّشكّلين، سواء الجنون أو العبقرية، يمران عبر الألياف العصبية الدماغية، ويعبر الدماغ عنهما بواسطة الجملة العصبية المركزية، ولكن لا ندري تماما كيف ولماذا وأين ومتى؟؟ وتبقى الأسئلة الكبرى معلقة، والأبحاث الإنسانية تنتظر الرد. أين مكان العبقرية؟ أين مكان الجنون؟ أين مكان التفكير؟ كيف تتشكل الأفكار؟ كيف تتجلى العبقرية؟ كيف تترابط الجمل وتتفاعل الكلمات والمفاهيم؟ كلها أسرار، فالدماغ مازال القارة المجهولة التي لم تكتشف بعد، كما أن دماغ آينشتاين الذي أعيد فحصه مرات بعد موته، لم يكشف عن شيء غير طبيعي. لقد اخترق الإنسان جغرافية الأرض، فلم يترك جزيرة إلا وسماها، ولا محيطا إلا وأعطاه لقبه، ولا عمقا إلا وسبره، ولا سطحا إلا ومشى عليه. حتى القمر رسا عليه، والكواكب القريبة بعث إليها بالأقمار الصناعية، وإلى المريخ أرسل الباثفايندر، وفي الطريق إلى بلوتو مسبار سيرسو بعد عشر سنين؟ إنه الإنسان من استرق السمع بأكثر من الجان، وحدق بالنظر في ملكوت السموات أعتى من المردة، بواسطة الأشعة السينية والراديوية وتحت الحمراء، وقرأ عمق الكون حتى 13.7 مليار سنة ضوئية، ليقرر لحظة ولادة الكون وانفجار السوبرنوفا، وتشكل نويات الذرة والحساء الكوني والمادة المعتمة والسلبية التي تمسك السموات والأرض أن تزولا! كل ذلك وأكثر من عالم الماكرو حتى عشرة قوة 24، نزولا إلى عالم الميكرو، حتى عشرة قوة 16، للوصول إلى المكونات دون الذرية، من الكواركز واللبتونات وجزيء هيجز. إلا مكانا واحدا استعصى عليه، وناصبه التحدي، وكابر أن يفك له رموزه وأسراره، ذلك هو(الدماغ). ولكن ما هو أعقد منه، وأشد على الاستعصاء، وأكثر في المراوغة والتملص، والإفلات من قبضة التكنولوجيا والعلم الحديث، هو «عالم النفس» الذي يخطون فيه خطوات متعثرة وببطء كبير منذ فترة قصيرة وبتطور محدود. وكان الإنسان أكثر شيء جدلا. ذلك العالم هو كيان كل واحد فينا، وقطعة من تشكلنا، وحظ من وجودنا، حديثه العذب كل لحظة يناجينا، وهمساته تبث إلينا مع كل نفس وإفراز هورمون. هذه المنظومة الداخلية التي تميزنا كبشر وترفعنا كبني آدم هي «النفس» المختبئة في أحشائنا، تمشي مع تدفق الدم ومرور السيالة العصبية. (ولقد كرمنا بني آدم). هذا الميل العجيب إلى الصعود والهبوط، الإفساد والإصلاح، لا يمكن معرفته بجهاز الضغط، ولا مقياس تحليل سكر الدم. لا بجهاز ريختر للزلازل ولا بتخطيط القلب الكهربائي، لا بجهاز دوبلر للسيالة الدموية ولا بجهاز الصدى الصوتي (السونار). كل ما يعرف منه وعنه هو ما يصدر عنه من سلوك فقط، لذا لا غرابة في نشوء مدرسة كاملة في عالم النفس تسمي نفسها (مدرسة علم النفس السلوكي). احتار الكل وتجادلوا في فهم هذا العالم، الظاهر الباطن، الطافي والمستتر. في مدارس متدرجة من الارتقائية والجشتالت والمعرفية والسلوكية والتحليلية وعلم النفس الإنساني كما وضع فيكتور فرنكل في ذلك كتابه الإنسان يبحث عن المعنى؟ لقد كانت النفس مثل أبو الهول فأعيت الأطباء والفلاسفة والمفكرين والعلماء. هذا الصامت الناطق، الجامد المتحرك، والواعي غير الواعي. ولكنهم اتفقوا على أن أعظم شيء في هذا الوجود هو وجود الإنسان، الذي يجمع كل الجدل فيه، وكأنه ترانزستور كوني! ولا غرابة، فعنده وكالة عامة بالاستخلاف على الأرض بشهادة الملائكة، وهو الذي رواه إقبال عن أسفه على الكون المليء بالشر والظلم فقال في مناجاته: يا رب هذا الكون الذي خلقته لم يعجبني؟ قال له الرب اهدمه وابن أفضل منه! طالما معك وكالة عامة عني! منه نفهم لماذا نفخ الله من روحه في الإنسان، فأخذ الخلود نسخة إلهية ويبقى الموت كسوفا عابرا. إن مثل هذه المفاهيم تزلزل التقليديين وتزعج الحداثيين. (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا). إن هذه النفس التي تعصف فيها تيارات الخوف، زوابع الغضب، أعاصير العنف، زمجرة الحقد، رياح الشهوة، كما يمر فيها نسيم الخير، وتبزغ فيها شمس الأمل، وتنبت فيها زهور الحب، وتتضوع بعبير التفاؤل وعطر البر والإحسان. إن هذه النفس هي اختزال العالم، وشفرته المصغرة، ونسخته المضغوطة، في كيان صغير هش ضعيف، مع هذا فهو قوي في ضعفه، عظيم في هشاشته، جميل في دقته ورشاقته. (أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين). هل الخوف أمر طبيعي والحزن شيء عادي؟ وهل إلى الخلاص منهما من سبيل؟ كيف يمكن فهم الأخلاق؟ بل كيف خلقت الأخلاق، وتعارف الناس عليها، واتفقوا على الالتزام بها والتقيد عند حدودها؟ ما معنى أن يصوم الإنسان عن الطعام والشراب؟ ما معنى أن يكف عن القتل؟ ما معنى أن يتوقف عن العدوانية؟ ما معنى أن يزكي نفسه؟ ما معنى أن يسجد ويركع لرب لا يراه؟ ما معنى أن يلجم شهواته ويصقل روحه ويمشي باتجاه التكامل النفسي؟ إذا كانت الكرة الأرضية تسبح في مجال مغناطيسي موحد، تشير إليه أي بوصلة تحدد الشمال والجنوب، فإن النفس الإنسانية، التي هي خلاصة الوجود وقمة الخلق وإبداع الكون، تحمل ذلك الضمير الذي يشير إلى الخير والشر والارتفاع عن النكسة الحيوانية، أو التقدم حتى عن الملائكة، لأن الملائكة أمرت أن تسجد لآدم ولم يؤمر هو بالسجود لها. إن هناك أدوات للتدخل على كل عالم بأدواته الخاصة النوعية، من أجل صقله وإعداده لرسالته الكبرى في الوجود. إن «الصيام» يمثل تلك الأداة التي تصقل النفس الإنسانية باتجاه إيجاد جهاز الضبط «التقوى». هذا ما يريده الصيام (لعلكم تتقون). والكونترول (جهاز الضبط) هذا شيء خاص بالإنسان، فلم نسمع عن كائن آخر عمل بإرادته ضد غرائزه، فلم نسمع عن عشب انتحر، أو قط مارس الصيام!! فهي ميزة خاصة متفردة بالإنسان، حيث يستطيع التحكم في نفسه، وحين يتحكم الإنسان في نفسه، فإن بإمكانه تغيير العالم، فهو قانون يحكم الوجود. هكذا يجب أن يفهم الصيام، من خلال هذا المنظور الفلسفي، فالبعد الرئيسي للصيام هو أداة الدخول إلى أعقد جهاز موجود في الطبيعة. لا الكمبيوتر، ولا وكالة ناسا لارتياد الفضاء، لا جهاز الكشف عن شفرة الكروموسومات، ولا جهاز تسريع الجزئيات دون الذرية في الأنفاق السرية تحت جبال سويسرا. لا مناجم الذهب، ولا مستودعات الماس، ولا أحواض البترول، كلها تعني شيئا أو تقترب في المشابهة مع التعامل مع هذا الحقل الفريد المعقد (النفس الإنسانية)، ونفس وما سواها. إن الإحساس بالألم إنذار للتدخل لإنقاذ العضو، وهكذا فانسداد الشريان، واحتشاء القلب، والتهاب المرارة، وحصاة الحالب، كلها يندفع فيها الإنسان ليراجع الطبيب متسائلا خائفا، يسمع فيها من طبيبه إلى كل كلمة، ويفسر كل تكشيرة وجه، وتقطيب جبين، وحركة عين، وإشارة سبابة!! إن المرء يشعر تماما بالوعكة الصحية، مثل نزلة البرد، بدمع العين، وسيلان الأنف، وجفاف الحلق. إنه يصرخ من القولنج الكلوي، وحصيات المرارة. إنه يزعق من موت الطرف بانسداد الشريان. إنه يشهق من انخماص الرئة والتهاب الجنب. إنه يختنق من النوبة القلبية. ولكن هل يشعر الإنسان بأنه مصاب ب(مرض) الكبر، و(اعتلال) الحقد، و(أنفلونزا) الغيبة والنميمة، و(ارتفاع ضغط) جمع المال، و(ورم) الشهرة، و(التهاب) الغيرة والحسد، و(سرطان) حب الرئاسة والقيادة والتملك وقهر الآخرين، التي لن تقود في النهاية إلا إلى الدمار وخيبة الأمل والتراب الذي سوف يأكل مقلة العين، ويحلل مادة الدماغ، ويفتت العظم، ويذيب اللحم، ويحيل الكل إلى تراب كما جاء من التراب. إن مرض النفس أخطر من مرض العضوية، لأنه ليس فيه ارتفاع في درجة الحرارة، ولا قفز في ضغط الدم. لا إسهال ولا إقياءات، لا شلل ولا نزف. وإذا كانت كليات الطب قد نمت وازدهرت وسخرت الأبحاث والمليارات لاكتشاف هورمون، أو القيام بتجربة على أرنب، أو معرفة تفاعل خلوي، فإننا مازلنا بعيدين جدا عن معرفة هذا العالم الديناميكي الغامض والذي يتوقف على صحته بقاء العالم. إن الصيام يشاطر في اقتحام هذا العالم المجهول لكشفه وتأمله وإعادة التوازن إلى بنائه الداخلي، ولذا فهو دواء قد طلب من كل الأمم أن تلجأ إليه وتستعمله (كما كتب على الذين من قبلكم)، فلا غرابة أن أعظم ثلاثة اختبارات واجهت المسيح عليه السلام كانت بعد الاستعداد بالصيام أربعين يوما. والاستعداد الرهيب للقاء الله حسب الميقات عند موسى وطلب رؤية الله كان بعد الصيام أربعين ليلة. إن المرضى الذين يسعفون إلى المستشفيات، يعمد الأطباء إلى قطع الأغذية عنهم وإعطائهم (المغذيات) التي هي في الواقع ليست أكثر من ماء، بقصد قطع الغذاء اليومي الذي اعتاده الجسم أي (تصويمه البيولوجي) هذا ينطبق على الرضوض العضوية اليومية (التراوما)، ولكن الرضوض النفسية نعالجها بمزيد من (المغذيات). وهكذا فالغضب والحقد والكراهية والحسد والتنافس الرئاسي والجشع المالي وطيران الشهرة والخيلاء والكبر كلها لا نعتبرها أمراضا جديرة بالمعالجة، فتستفحل وتتغول وتقول هل من مزيد، لتدخل في اختلاطات ومضاعفات أفظع. (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا). ويبقى على صاحبها أن يدخل عملية جراحية كبرى لإصلاح هذا الاختلاط المريع في قاعة العمليات الكبرى (المطهر الجهنمي). وهو ليس نارا فيزيائية بل معاناة روحية. ونحن من فقدنا أعز الناس إلينا في يوم خالد فارقتنا فيه ليلى سعيد داعية السلام، امرأة قاربت الكمال والتمام، شعرنا بأننا دخلنا جهنم فعلية، فانخلعت قلوبنا وبكينا حتى لم تبق دموع. (وإن منكم إلا واردها). فالجنة لا تدخلها إلا النفوس المطمئنة التي تطهرت. في طريقين نجدين إما بجهدها الخاص في الدنيا، أو بالحريق الكبير في الآخرة!! من هنا كان الصيام ليس فقط الصيام البيولوجي، بل عن العادات النفسية في دورة سنوية، لتنظيف البوصلة الداخلية كي تمارس نشاطها الصحي، وتؤدي وظيفتها التي خلقت لها، كي تقود إلى تحقيق السلام الداخلي الذي منه سوف ينتشر السلام الدائم والحقيقي للعالم كله. وكانت ليلى سعيد من هذا الطراز الذي يلمح فيه المرء عظمة الإنسان وأين تصل قبل الوصول إلى درك السلام عند رب رحيم كتب على نفسه الرحمة وألزمها، فما أعظمه من خالق له نسجد ونحفد ونعبد ونهرع. وعن السلام الحقيقي والشامل والدائم مع الصيام حديث لا ينتهي.