كان الفيلسوف إقبال يناجي ربه حزينا: يا رب هذا الكون لا يعجبني؟؟ فيأتيه الجواب من الرب: اهدمه وابن أفضل منه. ولكن هل يمكن ذلك؟ والجواب من جهتين، فنحن نولد للفناء، ونحن نولد ومعنا ميكروشيبس إلهي نفخ فينا الرب من روحه ووعدنا دار الخلد جزاء ومصيرا. نحن تراب وغبار وحلقة دخان.. نحن نطفة من ماء مهين.. نحن سر التاريخ ومعمودية الكون.. نحن كون مضغوط، معنا وكالة عامة عن الخالق.. نحن غائط ودماغ، ومخاط وفكر، وبصاق وروح، ومني ومنى، فكيف نفهم وجودنا في الوجود؟ نحن نولد مسجونين بحكم مؤبد في قفص البيولوجيا، مربوطين إلى سلاسل النسبية للبعد الرابع (الزمن)، أسرى في أغلال الثقافة وإكراهات المجتمع. نحن خلقناهم وشددنا أسرهم، وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا. ندخل أجسادنا فنتسربل فيها محكومين بالجينات، تشكل قدرنا من صحة ومرض وجمال وعرض وتشوه واستقامة. هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم. فأما (الجينات) فهي الشيفرة السرية للخلق، تعطينا لون العينين وطول القامة وقسمات الوجه ولحن الصوت والزمرة الدموية والاستعداد لمرض السكري والزهايمر والعته الشيخوخي والميل إلى التسرطن وخلل فقر الدم المنجلي، كما تحدد طول العمر من خلال ساعة مبرمجة على رنين منبه الموت مع كل انقسام كرموسومي. خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير. نحن سجناء عالم بيولوجي بقفل أثقل من نجم نتروني في قدر لا فكاك منه. علينا أن نتنفس وإلا اختنقنا، أن نأكل ونشرب وإلا هلكنا، وأن نمارس الجنس وإلا انقرضنا. يطحننا المرض وتفترسنا الشيخوخة، نحيا ونموت، نتألم ونسعد، نخاف ونغضب في عواطف سيطرت على قدرنا. علينا أن نمشي على الأرض كي تبنى عظامنا وتترمم فتقسو، محكومون بقانون الجاذبية فلا نستطيع الانتقال بسرعة الضوء، في استحالة رباعية يفرضها قانون النسبية، باستهلاك طاقة لانهائية، وتوقف كامل في مربع الزمن وانضغاطنا إلى الصفر وزيادة وزننا بقدر الكون وأكثر. نحن نرزح تحت ثقل قوانين الفيزياء، تحكم بقبضتها على رقابنا في أغلال إلى الأذقان فهم مقمحون. نحن نأتي إلى الحياة بدون إرادتنا، ونخرج منها بدون إرادتنا ورغبتنا، بعد أن ذقنا حلاوتها، في نقطة ضعف تسلل منها الجبارون لمسك رقاب العباد بالخوف من الموت والتهديد بفقدان الحياة. نحن نولد في (عصر) نعيش ثقافته، لا نتحكم في وقت المجيء إليه ولا في ثانية واحدة منه تقديما وتأخيرا، تدفعنا يد جبارة إلى مسرح الأحداث الدوارة، فنشارك على خشبة مسرح عظيم غير مرئي، ثم ينتهي دورنا فنمضي وندلف إلى مستودعات النسيان، فلا تسمع لهم ركزا. اعتبر الفيلسوف الفرنسي «باسكال» أن الإنسان يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية، فهو كل شيء إذا قيس بالعدم، كما أنه لا شيء إذا قيس باللانهاية، وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين، فنهاية الأشياء وأصلها يلفهما سر لا سبيل إلى استكناهه، فأحدنا عاجز عن رؤية العدم الذي خرج منه وهو أعمى عن اللانهائي الذي يغمره وإليه المصير؟ نحن لا نستطيع ركوب آلة الزمن فنعود إلى زمن الأنبياء، كما لا يمكن القفز فوق حاجز الزمن فنعيش بعد ألف سنة. نحن محكومون بأجل لا فكاك منه، وزمن نعيشه مفروض علينا، لا يخترق إلا بطريقة واحدة: الخيال. هكذا تصور دافنشي الطائرة، وكتب جول فيرن قصة عشرين ألف فرسخ تحت الماء، وفكر الفارابي في المدينة الفاضلة، وتصور ابن طفيل حي بن يقظان، ورفض المسيح عليه السلام مملكة بيلاطس بقوله: مملكتي ليست من هذا العالم. نحن أسرى (ثقافة) تبرمجنا، وننتسب إلى حوض معرفي يشكل عقليتنا ويمنحنا الدين الذي نمارس طقوسه ويشكل شجرة المعرفة عندنا، محروسة بلهيب نار وسيف يتقلب. نحن نستحم فنخلع كل ملابسنا، ولكننا في الشارع نلبس كل الملابس. تحت مفهوم اجتماعي هو ستر العورة. المجتمع يمنحنا الدين فنعتنقه، فمن يولد في بافاريا في جنوبألمانيا قد يخرج كاثوليكا، ومن يولد في طوكيو قد يكون من جماعة سوجو جاكا البوذية، ومن يولد في جنوب العراق قد يكون شيعيا من أنصار مقتدى الصدر، ومن يولد في نجد السعودية قد يكون سلفيا وهابيا. كذلك كان الانتساب إلى منطقة ما قدرا ندفع فيه الثمن من مصائرنا، فمن يولد في رواندا في تسعينيات القرن العشرين يهرس كموزة في حقل ويطير حلقه بضربة ساطور ومنجل أو يمشي بساق خشبية وذراع معدنية وعين صناعية، ومن ولد في أفغانستان مع كارثة السوفيات والأمريكان ومن كان ألبانيا في كوسوفو يخسر كل شيء ليقرر مصيره أساطين السياسة في لوكسمبورغ أو لاحقا بمحكمة لاهاي في عام 2010 للميلاد، أو يعتلي صهوة سيارة جيمس في الخليج، ترجع رفاهيته إلى صدفة جيولوجية بحتة أكثر من عرق الجبين والكفاءة والتحصيل العلمي؟ ومن يحالفه سوء الحظ فيولد في بعض مناطق العالم العربي من الجملوكيات قد يكون رهين الاعتقال، مهان الجنان، مكسور الأسنان، مطحون العظام، يعس في الحبوس ويرفع على الفلق... وقل أعوذ برب الفلق؟ لا يرى خروجا من ظلماتٍ بعضها فوق بعض، في حالة استعصاء ثقافية بدون أمل في الخروج من النفق المسدود إلا بيد الأمريكان والشيطان؟ لا يستطيع فتح فمه إلا عند طبيب الأسنان، أو هاربا خارج وطنه بجواز سفر من الأرجنتين أو الدومينيكان، أو لاجئا سياسيا في السويد وفرنسا وبلاد الجرمان، أو مهاجرا كنديا إذا أسعفه الحظ والمال، أو قد يكون من السعداء النجباء من شريحة ال5 في المائة من المافيا والعصابة، له كل البلد، له كل المال، وكل الامتيازات، في جمهورية الرفاق الثورية، يساق له رزقه رغدا بالعشي والإبكار، في بلد أضحت مزرعة له ولعائلته وذراريه من بعده إلى يوم الدين... بكلمة أدق إلى يوم الزلزلة؟؟ مع هذا، فإن هامش الحركة في (المكان) و(الفكر) و(اللغة) أفضل من البيولوجيا، فقد يفر عراقي إلى بريطانيا مبدلا وطنه كما حصل مع أبو كمران، وقد يعتنق فنان بريطاني الإسلام مغيرا عقيدته كما في كات ستيفن، كما قد يتعلم طبيب أردني يختص في الغرب اللغة الألمانية كما مع الدكتور شريعة، ويرتفع الإنسان بالعلم بدون حدود، فيتخلص من الطبقة والفقر، كما حصل مع عمو خاروف (حمادة)، كما كانت تسميه ابنتي، وهو يجرب على الخرفان في مدينة جيسن الألمانية، ثم يضرب ضربته مع أبحاث الاستنساخ فيصبح أستاذا جامعيا في الزارلاند.. نحن نظن أننا أحرار في المجتمع، وهذا أكبر من هلوسة، فنحن في الواقع مكبلون بأشد من أصفاد اليدين والرجلين، فالوسط ينحت لغة الطفل في تلافيف الدماغ. وآباؤنا يحددون لنا القدر البيولوجي لأجسادنا، ومعه المجال مفتوحا لكل الاحتمالات والاستعدادات. والمجتمع يهبنا المعادلة الاجتماعية بعد البيولوجية، فيجعل من الفرد بشرا سويا، أو قردا خاسئا كما في جملوكيات الرعب والبطالة؟ كما يفرض علينا المجتمع السلوك السوي، ويعاقبنا إذا خرجنا عن القانون بأشد من معاملة الدجاج، وهي تبصر الدم في دجاجة مجروحة فتنقرها حتى الموت؟! وعندما يشذ الفرد عن القطيع يعامل بالسخرية والأذى والاتهام بالجنون والنفي على ثلاثة أشكال: فإما نفاه من ظهر الأرض إلى قبر السجن كما حصل معي أربع مرات، ومن دفء الجماعة إلى برد العزلة، أو من شاطئ الحياة إلى سفينة الأموات مع أنوبيس في العالم السفلي. إذن هامش الحرية، كما نرى، كالصراط يوم القيامة أرفع من الشعرة وأحدّ من السيف، ونحن نعيش إكراهات متتالية من المهد حتى اللحد، في قبضة الجينات، وزنزانة الزمن، وقفص الثقافة، ومعتقل المجتمع. إنه كلام محبط، أليس كذلك؟؟ تمهل قليلا فالصورة ما زال فيها بعض الإضاءة، ولكنها واقعية جدا.. مع هذا، فلا يتقدم المجتمع إلا بهامش الحرية الضئيل هذا من خيال الأفراد المبدعين، يتجاوزون بخيال مجنح إشكاليات القضبان والمعتقلات، فيتنسم في حديقة الدماغ رؤى المستقبل في إمكانيات جديدة واختراعات مبتكرة ونشأة محدثة في تطور سفر الإنسان. وعند هذه الزاوية الضيقة تتشكل جدلية الحركة بين ثبات المجتمع وتطوره كعلاقات تشريحية وحركته كفيزيولوجيا نامية قلوبة. العقارب تعيش على ظهر البسيطة بدون تغير يذكر في نمط حياتها منذ 400 مليون سنة، ولكن الحيوانات محكومة بنسيج فولاذي آسر للتصرفات، تعيد دورة إنتاج نفسها بدون أي تقدم، مثل القطار المحكوم بالمشي على القضبان لا يخرج منها إلا لمواجهة حادث مروع. وحيوان العجل يمشي بعد الولادة بساعات، والأرانب تنضج في شهر فتسعى، والقطط تبقى على حليب أمها زمنا قصيرا. ويبقى الإنسان الكائن الوحيد الأضعف طرا في مملكة الحيوان، ولكن الفرد يمتص خلال سنوات قليلة خبرة كل الجنس البشري المتراكمة في ثلاثة ملايين من السنين، فينطق ويحمل الكراهيات وأخطاء الثقافة من خلال ثلاث لغات متتالية (سيميائية) من تكشيرة الوجوه وحركات اليدين و(صوتية) بالصراخ أو الاستحسان، وثالثة ب(الكتابة) وهي القشرة السطحية لنقل النظام المعرفي، وتبقى الطبقات الكتيمة العفوية من التشكل الأركيولوجي الثقافي خلف الكثير من سلوكنا اليومي. نحن والحيوانات نعيش على ظهر الأرض منذ ملايين السنين، ولكن الإنسان وضع قدمه على القمر، وفتت الزمن إلى الفيمتو ثانية، وبرد المادة حتى قاربت الصفر المطلق 273,15 تحت صفر الثلج، وفهم منظومة النطق بعلم الألسنيات، ويعرف عن تاريخ الفراعنة وزمن بناء الأهرامات أكثر من كهنة خوفو وخفرع ومنقرع، ويعرف عمر الأرض بتقنية النظائر المشعة أنها 4,6 ملايير سنة، وامتلك أعتى الأسلحة بما يمكن أن يفني نسله ويمحو أثره، ويتكلم مع أخيه بالصورة والصوت بسرعة الضوء في المعمورة المضاءة بالنت والكمبيوتر، ونزلت مراكبه على سطح المريخ، ويرسو اليوم على ظهر الكروموسومات، فيكتشف أسرار الشيفرة السرية للوراثة وتصرفاته الحافلة بالأسرار، ويعرف أن 95 في المائة من حركة الإنسان يقودها (لاوعي) أعمى. ثقب العين صغير ومنه يرى الإنسان العالم، ومن هذا الثقب لا يرى إلا الضوء العادي في شق ضيق من عالم فسيح من طيف الموجات، ما يرى منه عشر معشار ما لا يرى. لم يكن غريبا أن أقسم القرآن على ما تبصرون وما لا تبصرون. مع كل هذه المحدودية للرؤية، فإنه يفهم قوانين الكون ويطور ببصيرته بصره، فيرى توهجا لامعا للنجوم من عمق محيط الكون على مسافة تسعة مليارات سنة ضوئية. الإنسان كمبيوتر مختزل لكل الوجود في داخله، يحمل إمكانيات تطور بدون توقف، فيه شريحة كمبيوترية من روح الله تهبه الخلود، مزود بوثيقة وكالة عامة من الخالق لاستخلاف الكون، فالكون كله مسخر له بسنة لا تحيد ولا تبيد.