تعتبر شخصية إبليس الأسطورية من بين الشخوص الأكثر حضورا في التخييل الإسلامي ، وإن كان لم يتمكن من الوصول إلى درجة إله الشر كما هو في بعض الأديان الأخرى . حيث دخل في أحايين كثيرة في بعض الثقافات الإنسانية إلى صراع مباشر أزلي مع إله الخير . ففي التخييل الإسلامي وإن كان هذا الصراع الخير / الشر لا يتم على مستوى عالي بين ممثل الخير أو الإله الطيب ضد ممثل الشر أو إبليس ، فالصراع هنا ، يمارس خارج جسد الممثلين في ساحة بعيدة عن ذواتهما . الساحة التي هي طبعا الإنسان . ربما ، تتعدى المعركة ساحة الإنسان إلى الوجود الكلي ، لكنها تبقى مشروطة دائمة ومربوطة إليه ، ولو كانت بخيوط دقيقة ... ورغم هذا الحضور المكثف لإبليس في المخيلة الإسلامية ، حيث هو مصدر كل أخطاء البشر وأوزارهم ، وهو سبب شقاء الإنسان وخروجه من الفردوس المفقود ، وهو المتمرد على إله الخير الطيب ... إلا أنه يبقى شخصية غامضة جدا ومتناقضة . وإن كانت قد ظهرت في الموروث والثرات الإسلامي آلاف الأساطير والخرافات المرتبطة بالموضوع ، فإننا سنحاول هنا الإعتماد على التصوير القرآني لملامسة بعض جوانب هذه الشخصية وتسليط الضوء عنها وتفكيك بعض تناقضاتها . "" - أوردت سورة البقرة : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ..." وستلحقها في نفس الفقرة الآية التي تشير إلى إبليس " وإذ قلنا للملائكة أسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس " - أوردت سورة الأعراف " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين ، قال ما منعك ألا تسجد إذا أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ، قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج أنك من الصاغرين ... " وستلحقها في آية : ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ، فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما من هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين .." وعندما ذاقا من الشجرة كما تورد الآيات اللاحقة طردهما الله من الجنة وهو ما جاء في الآية " قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ..." - أوردت سورة الإسراء " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا .." - أوردت سورة الكهف " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه " ثمة اختلال صارخ في التطرق لمسألة علاقة الإنسان والإله وإبليس من خلال هذه النماذج القرآنية . إذ ندخل في متاهة غير مفهومة تقول الشيء ونقيضه ، بالإضافة إلى الثغرات المنطقية . لأننا إن سلمنا أن الإله أخبر الملائكة بأنه سيخلق الإنسان كخليفه في الأرض ، فلماذا سيعتبر القرآن في أماكن أخرى أن نزول آدم من الجنة هو عقاب له بسبب مخالفته للأوامر الإلهية والأكل من الشجرة المحرمة !!! بمعنى ، إن وجود آدم على الأرض كان في حد ذاته هو الهدف الأساسي من خلق الإنسان وكان حتميا بشهادة الإله نفسه ، فلماذا استعمال الكاميرا الخفية وتصوير أمر نزول آدم على أنه نتيجة لمخالفة آدم للأوامر الإلهية ؟؟ وإذا سلمنا أن خروج آدم من الجنة كان عقابا من طرف الإله ، فكيف سنقبل الآية التي تقول أن خلق الإنسان كما قال الإله هي لخلافته على الأرض ... وبالتالي ، إن معرفة الإله بكل ما سيحدث بين آدم وإبليس قد سبقت خلق آدم ، بل سبقت خلق إبليس ، أي أن وجود آدم في الجنة كان حالة عابرة لأن الإله خلقه ليذهب إلى الأرض وليس للجلوس في الفردوس . إن خلق آدم أدى مباشرة إلى طرد إبليس إلى النار . بل بشكل صحيح إن خلق إبليس من طرف الإله هو سبب ذهاب إبليس إلى النار . فمجرد وجود إبليس بالخصائص التي خلقه الإله عليها ، ويعرفها الله جيدا هو العامل الأساسي لاقتياده إلى الجحيم . لكن السؤال الذي يبقى مطروحا ، إن إرادة الإله التي لا تفوقها أية إرادة هي التي حددت نزول آدم إلى الأرض قبل أن يطلب الله من الملائكة السجود ، ويبقى توريط إبليس في جريمة الشجرة التي قادت لنزول آدم هي مجرد تهمة ليحمل إبليس أخطاء العقل البشري . فالإنسان في التخييل الإسلامي لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يعتبر سبب نزوله إلى الأرض نتيجة لإبليس ، بل يجب أن ينسبها لدوافع خلقه من طرف الإله الطيب الذي أوجده ليكون خليفته على الأرض ، وليس خليفته في الفردوس كما صرح بذلك الإله لملائكته . تأتي مسألة أخرى مرتبكة قليلا ، وهي ألفاظ خطاب السجود الذي أمر الإله بها ملائكته . حيث يكون المستثنى منه هم الملائكة ، ويأتي المستتنى وراء إلا دائما هو إبليس الذي خرج من الإجماع . ونكون أمام إختيارين : الأول ، هو أن هنالك خللا في الإستعمال اللغوي في القرآن ، والثاني هو وجود هشاشة نظرية في بناء قصة السجود من الأصل . فهل نعتبر إبليس ملاكا أم لا ؟؟؟ فإذا أحلنا على الآيات التي تقول أن الملائكة لا تعصي لله أمرا ، بينما إبليس عصاها . وإذا أحلنا على أن الملائكة من نور ، بينما إبليس من مادة النار بشهادة القرآن نفسه ، فنكون بشكل قطعي للحفاظ على التوازن القصصي للقرآن هو اعتبار إبليس شخصية ليست من الملائكة ، وإلا سنكون أمام فوضى لا معنى لها ، حيث سنجد إبليس يعصى لله أمرا وهو من الملائكة بينما يقول الإله في القرآن أن ملائكته لا تعصى له أمرا ، ومن البديهي أن لا يسقط الإله في القرآن في هذا الخطأ ، خاصة مع تجربته التي لا زالت مستمرة مع إبليس . لذلك ، سنكون أمام شخصية إبليس اللاملائكي . خطاب الإله للسجود هو موجه للملائكة : " إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس " ، فمن الأدبيات الأولى للغة العربية أن تكون ثمة علاقة بين المستثنى والمستثنى منه ، إذ لا يمكنني أن أقول مثلا : " إذ قلنا للتلاميذ أدخلوا القسم فدخلوا إلا بقرة " . فهذه جملة خاطئة ولا معنى لها لأنني حددت مند البداية الجنس الذي أتحدث عنه وهو التلاميذ ، ويكون إقحام جنس آخر من فصيلة البقر ليكون كشبيه للتلاميذ شيء غير منطقي لغويا ... حاول بعض الفقهاء امتصاص هذا التناقض منذ القرون الأولى ، وقدموا أن إبليس هو ليس من فصيلة الملائكة ولكن كان يعيش في مرتبة الملائكة معهم . فإذا كان إبليس كما حاول تقديمه بعض الفقهاء لإنقاد القصة من الفضيحة المعرفية هو شخص من الجن عمل عملا صالحا في الدنيا فجازاه الإله بأن رفعه إليه كما هو حال المسيح في التخييل الإسلامي أيضا ، فإننا سنكون أمام إشكالية كبيرة ، وهي أن الواجبات الإلهية واحتمال الذهاب للجحيم رافقت إبليس الشخص العابد للإله حتى في الفردوس ، حيث ستلحقه اللعنة رغم أنه عمل صالحا قبل أن يرفعه الله إليه ، وسيكون رفع إبليس لمرتبة الملائكة مكيدة ضده وليس تشريفا له ، لأن الإله له العلم المسبق بما سيحدث طبعا . وهذا ما يتنافى مع العدالة الإلهية . العدالة الإلهية التي ستهتز كثيرا أيضا خاصة مع قبول الإله لتوبة آدم بعد تكسيره لأمر إلهي ، بينما كان الأمر مختلفا مع إبليس عند تكسيره له !!! طبعا ، لأن الإنسان هو المخلوق المدلل للإله . كما أننا – وهذا أمر غريب - لم نر أن إبليس يحتج على الإله بعدم السجود بدعوى أنه ليس من الملائكة وأن الخطاب لا يعنيه ، بل إبليس استمر في اعتبار نفسه من جنس المخاطبين وقام بتبرير عدم سجوده بأفضلية النار على الطين ، وهو ما يعني أن إبليس يعتبر نفسه ملاكا شرعيا أيضا . إن هذا الرفض الذي سيقود إلى الحرب الباردة بين الإله الطيب وإبليس هو الشرارة التي أطلقت معنى الوجود الإنساني وعلاقاته بقوى الخير والشر في التخييل الإسلامي . وهي الحرب التي لا بد منها في الفكر البشري البدائي المتجسدة في التناقض خير / شر ، والمرتكزة على مبدأ المكافآة أي الجنة أو الجحيم . بل ، سيصبح كل الوجود هو من أجل الإنسان . لكننا من جهة أخرى ، إذا اعتبرنا أن إبليس كان في مرتبة الملائكة ويعرف أكثر من الإنسان عظمة الإله وملكوته وغضبه وجناته ، أليس من بلادة الإنسان اعتبار إبليس شخصا بليدا جدا ليضحي بكل المجد الذي صنعه للوصول إلى مرتبة الملائكة والفردوس الذي كان فيه من أجل أن يرفض سجودا عابرا للإنسان وهو في حضرة الإله !!! إن العقل البشري الذي لم يستوعب بعد فكرة الموت الغامضة ، وكل ما هو غامض مرعب ، خاصة إذا ما التصق بفكرة الغياب الأبدي . لقد حاول هذا العقل البشري المحدود الإجابة عن هذا السؤال بشكل يعزيه ، ويجعل فكرة الموت أكثر قبولا وأنسا . من هناك ظهرت آلاف الأديان ارتبطت بالبدايات الأولى لاشتغال العقل الإنساني ، ومع مرور الوقت نضجت الأديان شيئا فشيئا حتى أصبح بعضها يشكل فلسفات قائمة، هذا العقل هو نفسه الذي سيتخفف من أخطائه بإلصاقها بشخص آخر هو إبليس طبعا . إذ لا يمكن العبور إلى الفردوس الإلهي إلا بالصراع مع الشر ، وطبعا إن مصدر الشر ليس هو الإنسان بل إبليس الشرير المعادي للإنسان . ربما لو استطاعت العصافير أو الأسماك أن تستعمل عقلها لخلقت فكرها الديني وإبليسها الخاص لتحمله أخطاءها ، ولكانت طرحت الآن نفس أفكار الإنسان عن الموت والجزاء والعقاب . لا يمكن لإنسان مملوء بالتخييل الإسلامي طبعا أن يتسائل عن مصير بقرة تتألم و تمرض وتجوع ، أو يتسائل عن جزاء ديك ينقر الديكة الأضعف منه ، أو يتسائل عن زنى خروف ، أو سرقة قط لطعام جاره ... إن الأخلاق والمنظومات الفكرية بما فيها الدينية هي مرتبطة بشكل أساسي بالعقل . كما أن إبليس هو لا يوجد إلا في عقولنا ، أما العدالة الإلهية فشيء مختلف تماما . لماذا من حق الإنسان وحده أن يحلم ، وهو الكائن الأكثر عداء للطبيعة ، أن تمتد حياته إلا الأبد في الفردوس ، بينما ملايين الكائنات الحيوانية يقبل الإنسان بشكل عادي جدا أنها ستتهي بعد موتها ؟؟؟ أليس الأمر يكتسي أنانية مفرطة ؟ أليس من اللاعدالة الإلهية أن تتألم نملة وتعيش وتموت بلا معنى ؟ بينما الكائن الأكثر عدائية للنملة والذي كسر رأسها سوف يذهب إلى الفردوس . بل إن التخييل الإسلامي يتحدث أحيانا عن الوعي الحاضر لدى الحيوانات بالإضافة إلى إيمانهم طبعا دون الحديث عن الجزاء والعقاب . في الحقيقة ، إن وجود الإنسان لا يختلف في وجوده عن النملة أو السمكة أو العصفور ، كما أن مصيرهم واحد ... أما إبليس فهو قطعة عالقة في المخيلة البشرية من الماضي ليس إلا . وقد حان الوقت للإنسان أن يتحمل بنفسه نتائج أخطائه وأخطاء العقل دونما حاجة لشماعة يعلق عليها حماقاته. في الأخير ، فأنا لا أتحمل مسؤولية المقال ، لأن إبليس هو من استعمل جهازي الشخصي لإرساله !!! [email protected]