وتنطلق الرحلة إلى ورزازات… من باب دكالة بمراكش انطلقت الحافلة صوب مدينة ورزازات. لا تدع خيالك يسبح بك إلى عوالم ساحرة، فمهما بلغت درجة إبداعك في التخيل فلن تتغلب على عمق التاريخ وتضاريس الجغرافية وجمال الإنسان في ورزازات. أول الغيث “تيشكا”، ممر بين الجبال، والطريق الإسمنتي الأسود الممتد كثعبان منقط ولا نهاية له يخترق الجبال الوعرة كما تخترق الأوعية الدموية جسم الإنسان صعود وهبوط، بحدة أحيانا، حتى تخال الحافلة مهددة بالسقوط من على جرف هار، وحده “الكريسون” الممنع يوزع أكياس البلاستيك ومعها قدر غير يسير من الشفقة على المسافرين. سيدة أمازيغية تحتل مقعدا بالقرب من النافذة، تستمتع بسحر التضاريس وعظمة الخالق، مرددة أدعية وتراتيل أو أشعارا من كتاب مقدس، تلمس بعينيها الجبال كمن تمارس طقوس التيمم في دار عبادة قديمة. وحده التيليفون القابع في “العبون” يمتلك الوقاحة لمقاطعة هذا الطقس، ووحده “الكريسون” يملك الجرأة على اقتراح كيس بلاستيكي على هذه السيدة، ويدور بينهما حوار بلغتين مختلفتين أمازيغية وعربية، فيمتزجان معا في تناغم تام ويخترعان لغة ثالثة تحقق وظيفة التواصل وتنتصر للإنسان. دعوات المساهمة في بناء وترميم المساجد تستعطي المحسنين من المسافرين، ولوحات جمعيات التنمية المحلية هي الأخرى تحتل جوانب من الطريق الممتدة ، تعوض علامات التشوير، وتنعي لنا غياب الدولة في المغرب العميق. الإنسان في ورزازات: الله يعمرها دار قديما كانت ورزازات عبارة عن مداشر متباعدة، وكانت الفلاحة تعتمد أساسا على تربية بعض أنواع الحيوانات كالإبل وبعض الزراعات القائمة على ضفاف نهر ورزازات هي النشاط الإقتصادي الرئيسي. ثم بدأ الرجال الورزازيون في إطلاق لحاهم حتى تظن المدينة قلعة للإسلاميين، بينما الحقيقة أن أصحاب اللحى كانوا مطلوبين للاشتغال في السينما، هذا النشاط المتنامي يوما بعد يوم. ولمزيد من المعلومات يمكنكم زيارة الاستوديوهات الضخمة المقامة هناك والمتحف السينمائي الذي يضم ديكورات أهم الأفلام العالمية التي صورت هناك مثل هيدالغو وغلادياتور وبابل والاسكندر وغيرها. ورزازات هي أيضا مدينة العسكر، ففيها 9 قشالي وطبعا متى تواجد العسكر وجد ما يرفه عن جنودنا الأشاوس: الدعارة بالخصوص. في حي تاوريرت تجد ممتهنات الجنس تشرئب رؤوسهن من النوافذ، يشجعنك على الدخول ويعدنك بأن تعيش كهارون الرشيد محاطا بالجواري الحسان (أجي راه غادي نتهلا فيك). وإذا وقعت في الغواية فستقترب وستتفاوضان (الطريفة 20 درهم، وبالجلابة 25، وإيلا بغيتي تعاود خاصك تزيد 10 دراهم). توزع عليهم ابتسامتك الماكرة، ثم تظهر كاميرا هاتف نقال وتشرع في التقاط الصور من هنا وهناك، فيختفين بسرعة ويبدأن في توزيع اللعنات دون مراعاة لأي قواعد اجتماعية وضعها الإنسان في زمن مضى وسماها أخلاقا. يحكي عبد الصمد، وهو ناشط جمعوي في مدينة ورزازات، أن بعض الجمعيات حاولت العمل مع هذه الفئة الاجتماعية أي ممتهنات الجنس من أجل خفض نسبة الأمراض المتنقلة جنسيا، لكنهم ووجهوا باتهامات مجانية من طرف المجتمع تدعي أن مثل هذه الأعمال تشجع على ممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج، لذلك اضطروا إلى تقييم عملهم واستبدال الفئة المستهدفة، وهم الآن يعملون مع السائقين الذين يتنقلون كثيرا بين المدن. عبد الصمد لم يفوت الفرصة لانتقاد المقاربة الأمنية التي يتم اللجوء إليها لمواجهة الظاهرة في أوقات متقطعة، فلا يكفي الحبس وإقفال الحي، بل يجب إعطاء حلول جذرية عبر توفير فرص العمل لممتهنات الجنس بما يضمن لهن العيش الكريم. كما أشار إلى ظاهرة الزواج غير الشرعي بين السلطة والدعارة، حيث يتواطأ بعض أعيان الانتخابات أمام مرأى ومسمع السلطة مع بعض ممتهنات الجنس اللواتي يتم تشغيلهن بخمسين درهم كمقابل في اليوم من اجل الدعاية الانتخابية والتصويت وتوجيه السلوك الانتخابي. أطفال القصبة: قاش قاش في الواد الحار تتوفر منطقة ورزازات على مؤهلات طبيعية وتاريخية كبيرة، فهي بلاد الألف قصبة، لغة السكان الأصلية هي الأمازيغية، لكنها أمازيغية بهجاوية كما يقال للإشارة إلى خفة الدم القريبة من الروح المراكشية. كما تعتبر نقطة ترانزيت للسياح، كما يساهم النشاط السينمائي كذلك في ازدهار النشاط السياحي. قصبة تاوريرت، هنا يرقد الكلاوي غير مرتاح البال، وهناك لافتة تطالب جلالة الملك بالتدخل لإنصاف الساكنة من السلطة المحلية التي تحاول ترحيلهم من حي”السطارة” لأن البيوت آيلة للسقوط. سمحمد، طفل لم يتجاوز بعد الثانية عشر من العمر، يأتي كل يوم على ظهر “عود الريح” إلى القصبة ليرثي الأطلال. يحكي بمرارة قائلا: هنا قرب السطارة كنا نلعب الكرة، وكثيرا ما كان الأجانب يأتون ويرمون لنا بضع دريهمات، وهناك كنا ندخل من فتحة الواد الحار، نمر عبر النفق المظلم وفي أيدينا شموع تنطفئ وسط الطريق، لا نخاف “الحناش” ولا “الجران” لنصل بعد ربع ساعة إلى مكان يدعى “البحيرة”. وهذا النفق المظلم مكان جيد للاختباء عندما نلعب “قاش قاش”. كما قد نذهب إلى “الباراج” من أجل السباحة، لكن يجب الانتباه من رمال “إيليكم” التي تلتصق بالأرجل وتسحبها إلى الأسفل متسببة بالغرق، ويجب الحذر أيضا من ثعبان “بوكرينات” المميت الذي يتربص بالأقدام في الرمال. أما من لا يعرف السباحة فيكتفي بصيد أسماك البيرش والبلاك والطون والميرنا… بجانب سمحمد، يجلس صديقه عبد اللطيف الذي يرفض أن ينعت بالطفل، ربما في هذا احتجاج من نوع ما على طفولته التي يغتالها الفقر والتهميش كل لحظة. عبد اللطيف يرى في أناشيد دار الشباب مجرد “تبرهيش”، ويقول لنا (غادي ندي 10 دراهم و extrait باش نلعب مع الاتحاد الرياضي ديال ورزازات، راه ربحنا إنزكان في الماتش الأخير بثلاثة لصفر والدخلة فابور). عبد اللطيف يبدو تصوره لمستقبله جد بسيط ( القراية ساليت معاها من شحال هادي، دابا كنخدم في البناء والسيكليس وكنبيع الديطاي واللي جاب الله، حتى السينما خدمت فيها، عطاوني 6 آلاف ريال في النهار في 10 أيام، هي 60 ألف ريال، عطيتهم للدار باش نعاونهوم، راه الواليد ما خدامش.