قال لي صديقي: ذات صيف قررت أن أهاجر من القرية إلى المدينة جهرا وليس سرا للبحث عن أفق جديد، لأن الجفاف لم يعد ضيفا غريبا على القرية ورؤوس الغنم بدأت تنفق، في ذلك الصيف من 2004 وصلت إلى العاصمة الاقتصادية، لم تكن أول مرة أزور فيها البيضاء كنت أزورها منذ كان عمري 12 سنة، لكن هذه الزيارة اختلفت لأن الغاية منها ليس الاستجمام أو قضاء أيام في ضيافة أبناء القرية ولكن الغاية هي البحت عن أفق، وأي أفق! بحث بحثا مضنيا، ووقف وقوفا طويلا أمام البوابات بوابات المصانع الكبرى وبعض الشركات، شركات اللصوص الذين يسرقون الناس ليل نهار، التقيت أشخاصا أتت بهم الظروف ورمتهم تحت رحمة جشع رجال المال الأغبياء، قياسا على مرشحي جماعتنا الأغنياء! كان يجد صعوبة مع حارس المعمل أو العساس، بمجرد ما يأخذ نهج السيرة يرميه حين يودعه،عندما تتجول لساعات في الحي الصناعي وفي الصيف تحس أنك أفريقي بدون إقامة في دولة تدعي الصرامة!! أنت للتو متخرج من الجامعة ولديك شهادة عليا لا علاقة لها بما يقال في نشرة الأخبار المسائية، لديك أفكار لها علاقة بسن الطفولة وربما المراهقة، لديك أحلام لها علاقة بالنوم ليلا وربما حتى اليقظة، لديك حقد لديه علاقة بدخول الغزاة إلى بلاد الرافدين وقتل الأطفال في فلسطين، لديك قلب يخفق لمباراة كرة بين فريقين، أحدهما تحبه جدا والآخر حزين، لديك أحاسيس مجروحة لم يسعفها الزمن لكي تخرج إلى حيز الوجود، أحاسيس مردومة في دروب العمر، لديك طموح كبير يحجبه حراس الأمن ونجمات خمس كتبت على باب الفندق في شارع المقاومة، قصائد لم تنشر بعد، وكتب لم تطبع وكلام كثير، ولديك عائلة تنتظر منك أن تعوضهم ما خسروا من أجلك وأنت في سنوات التحصيل الذي تحصل عادة قبل سن الثلاثين. لديك ولديك ولديهم أيضا ما لديهم، لكن ليس لديهم أدنى فكرة عن الكلام الجميل والشعر والأدب، وعن رغبتك الغير مؤكدة في الترشح لانتخابات الجماعة هذا العام قيل ستكون شفافة هذا العام لكن منافسيك الأغبياء لا يرغبون في أن تنافسهم هذا العام، لذلك شطبوا على إسمك من لائحة الجماعة خافوا لمجرد خبر أن تصبح رئيسا للجماعة رغم أنك لا تملك مالا لتشتري رئاسة الجماعة، كيف ستقنع أصدقاءك إذا سمعوا خبر ترشحك، أنك فعلا ستدخل السياسة عن قناعة؟ أمر غريب أن يقنعك شخص أمي أنك لا تفهم في السياسة ولن تستطيع تسيير الجماعة. لماذا نمشي أميالا من أجل البحث عن عمل؟ لماذا تركونا ندرس في الجامعة إذا الشغل غير متوفر أصلا؟ ولماذا يهاجر الإنسان إلى بلد آخر تاركا بلده الذي يحبه بعنف مضطرا؟ فهل تهجر السمكة الماء مكرهة؟ لا أدري، يا صديقي.. لم يسمعه هذا الشيخ أي أحد ولم يكن يدري أنه سيتم نشله في أول صعود غير موفق إلى الحافلة الشمطاء، صاح ويصيح لكن لم يسمعه أحد من يجرأ على اتهام اللص الذي نزل في المحطة السالفة على غفلة من الركاب، أبناء المدينة، لم يكن يعلم بوشعيب أن المدينة الكبيرة صعبة بكل المقاييس وأن أحلامه التي قالوا له عنها تحولت إلى كوابيس كان أولها الحافلة، من سرق له محفظته التي اختفت في لحظة إعجابه بأول زيارة لمدينة كبيرة، وهو المسكين الذي كان يجهر في القرية بموعد هجرته وأنه سيصبح رجل أعمال ناجح وسيعود للقرية ليترشح للانتخابات ويصبح رئيسا للجماعة وبعد ذلك يصلح حال جميع السكان بما في ذلك حاله، إذ يتلقى دروس الدعم والتقوية ومحو الأمية في كل الفنون بما في ذلك فن الدعاية في الحملات جهرا واختلاس أموال الجماعة سرا، كيف؟ ولماذا وهل؟ أسئلة كثيرة تطرح لكن الاستفهام لا يثار عادة بعد حلول الظلام ....... ربما.