بعد نزولنا مهرولين كعادتنا من الباخرة متخبطين في حقائبنا الثقيلة المتخمة بالزاد وبكل ما لذ طعمه وعز وجوده في القارة العجوز,انطلقنا مجددا من مدينة ألميريا على متن الحافلة التي ستقلنا إلى بروكسيل متأخرين جدا عن غيرنا . المسافرون متعبون, قلقون ومنفلتو الأعصاب, يتحدثون عن كل شيء وعن أي شيء وأحيانا عن لا شيء.الثرثرة من أهم أعراض القلق.هذا ما حاول شرحه لي مسافر يتابع دراسته بجامعة ليل ثم انصرف مشكورا. كان للسفر طعم المغامرة, فالدابة المعدنية التي أجبرنا على ركوبها صاغرين توحي بأن الأمور لن تمر دون عناء ومشقة.حافلة .قديمة ,مهترئة ,وسخة وبدون تهوية طبيعية ولا تكييف ولكي تكتمل العناصر الدرامية للمأساة,صدح فجأة صوت مطرب رديء من مسجلة السائق الذي أرغمنا بسادية باردة على الاستماع إليه و هو يتغزل ببنات المهجر ويلتمس من أمه بسذاجة أن تدعو له في صلواتها,لعل وعسى إحداهن تكون يوما من نصيبه,متعهدا بأنه مستعد لبيع قطيع الماعز الذي يرعاه في الجبل ليقدم ثمنه صداقا لها مقابل تأشيرة المرور إلى الإلدورادو.علق احد الركاب قائلا : _ هذا المطرب ذو الصوت الحميري يغني و كأنه يتسول. رد آخر: _.هذا الذي تنعته بالتسول كون ثروة هائلة بفضل السهرات التي يحييها في المهجر عندما تدعوه الجالية إلى هناك. أردف شيخ هرم من قدماء المهاجرين: _ أنا بصراحة لا أفهم شبان اليوم,إذا كانوا جميعا يحلمون بالزواج ببنات الخارج فمن سيتزوج بالجيش العرمرم من البنات اللواتي يحرثن جادة الكورنيش ليل نهار طمعا في اقتناص فرصة الهروب من المجهول في المدينة التي تركناها خلف البحر؟ أنا مثلا؟انفجرت الحافلة ضحكا.راقه رد الفعل فراح يثرثر و يثرثر حتى قيل ليته سكت. حافلة رهيبة تشخر بصخب ,تكاد تشبه_ إذا لم أبالغ_ تلك القاطرات التي استعملها النازيون لشحن أسرى الحرب نحو معتقلات أوشفيتز.لقد تم اختيارها بعناية الحارس الحريص على مصالحه,فصاحب وكالة السفر حسب ما أسر لي أحد مساعدي السائق لم يشأ أن يغامر بحافلة فخمة ,حديثة الطراز و الصنع لا سيما إذا كان من سيركبها مسافرون على شاكلتنا,فإذا فعل حسب زعمه ستكون فتنة وفساد عظيم وسيكون هو من الخاسرين كما كان دائما كلما أبدى بعض الاحترام لكرامة زبناء من فصيلتنا. بعد حوالي ثلاث ساعات من نقطة الانطلاق ,نزلنا لأجل الاستراحة بمحطة على الطريق السيار,احتسينا مشروبات باردة وتناولنا ساندويتشات على عجل...ولما دخلنا إلى دورات المياه للطهارة (سامحنا الله و أهل الدار كذلك) أحدثنا فيها من الخراب ما لا يجوز وصفه في هذا المقام لاعتبارات أخلاقية. قال لي أحد المسافرين مستنكرا و ساخر ا: _ لاحظ أننا دمرنا كل شيء هناك و ها نحن جئنا الآن للصلاة" خاشعين "لندعو الله أن يزلزل الأرض تحت أقدام من وفروا لنا هذه الصالة النظيفة للصلاة و تلك الأرائك الناعمة للتأمل و الاسترخاء. . حتى لا يتحول النقاش إلى" مونولوغ ثنائي" ,سألته محاولا تمثيل الرأي الآخر: _ أ لا ترى أنك تبالغ في السخرية من إخوتك في الدين إلى درجة إهانتهم.؟ _ أنا لا أهين أحدا و إنما سلوكنا هو الذي يهيننا.. _ ولكن ألا يجدر بك أن تدعو لهم و لنفسك بالهداية و الصلاح؟ _ منذ سنين طويلة و نحن ندعو بالهداية و لم يتغير شيء فينا.الدعاء يا صديقي لا يفيد في شيء إذا لم تصاحبه إرادة جدية في التغيير. _ أعتقد أنك من الذين لا يحلو لهم توجيه سهام النقد إلا إلى الطرف الضعيف المغلوب على أمره. لماذا لا تتحدث مثلا عن القهر و العنصرية اللذان نعاني منهما كمهاجرين أجانب في هذا الإلدورادو المزعوم؟ _ يا أخي الضعف حجة علينا لا لنا ثم إن القهر في بلادك أشد بكثير ناهيك عن الفساد بكل أشكاله أما العنصرية فهي ظاهرة كونية لا يكاد يستثنى منها مجتمع لكن هنا على الأقل قانون يحميك منها. _ يبدو أن انبهارك بحضارة الغرب الكافر يتحول لديك دون أن تشعر إلى سخط على ذويك المومنين . _لا يوجد شيء إسمه حضارة كافرة ولا إيمان متخلف. _ لا لا لا أنت تبالغ, هل تعني أيضا أننا لسنا مومنين لأننا في نظرك متخلفون؟ _طبعا. قلت مازحا: إذن أنت مشكك مهدور دمك. أجاب ضاحكا: _هذا مجرد رأي يا صديقي. ما دخل دمي بالموضوع !؟ [email protected]