الفكر هو منظومة متسلسلة من الأفكار ، كل فكرة مبنية على فكرة سابقة لها ، وهي أساس لفكرة ستبنى فوقها ، والغرب أنشأ منظومته الفكرية : فيلسوف بعد فيلسوف ، وعالم بعد عالم ، وأديب بعد أديب ، وهكذا بني القالب الفكري الغربي ، وهو قالب متطور جدا احتل الصدارة في الفكر الإنساني منذ أن كان هذا الإنسان ، وهو قالب ما زال يرتفع ويعلو ، ولكن أهله يخافون أن يكون قالبا خاطئا من الأساس ، يعلنون مخاوفهم حين يدرسون علوم ورياضيات الفراعنة التي كانت وحيا لهندسة الأهرام التي لا يفهمون الكثير من ألغازها ، فيخشون أن يكون الفكر الفرعوني صائبا وهم مخطئون ، أو على الأقل أن تكون هناك رياضيات لم يكتشفوها بعد ، وهي مجرد مخاوف ما زالت تفتقر إلى برهان . لكن يكفي أن نعلم بأنه قالب مقتبس من قالب الشرك اليوناني والفرعوني لنعيد نظرنا فيه ، فالشرك عندنا هو تفسير خاطئ للحقيقة ، ولست أدري ما مدى تأثير الأفكار المسيحية والإسلامية التي طعموا بها هذا القالب المشرك ، فعلى البحث أن يتجه إلى هذه النقطة ليقول كلمته فيها . وللقرآن منظومته الفكرية الخاصة به ، هي شبيهة بالمنظومة الغربية في كثير من الأشياء ، لكن لكل منظومة قالبها الخاص بها : للقرآن قالبه وللغرب قالبه ، وهذا التمييز ما زال خافيا عنا فجعل جل نتاجاتنا الفكرية خليطا بين القالبين ، أو فكرا اسلاميا في قالب غربي ، فلا تتضح الأفكار فيه. قالب الغرب فيه شيء من الشبه بقالب القرآن ، لأن الغرب حين بدأ يفكر بدأ يفكر بعقولنا ، وترجم كل ما قدر عليه من فكرنا ، وهضم ما استطاع أن يهضمه منه ، هو في الحقيقة استعار قالبنا الفكري ليبني فكره ، لكن المشكلة أن فلاسفة الإسلام هم بدورهم استعاروا القالب الفكري اليوناني ليبنوا فكرهم ، واليونان استعاروا القالب الفكري الفرعوني حين استيقظوا وشرعوا في التفكير ، ثم القالب الفكري اليهودي والمسيحي لما اختلط اليونان بمصر والشام ، وسكنوا هناك بعد فتوحات الإسكندر المقدوني ، فكان الفكر اليوناني بحق خليطا عجيبا من أفكار الشرك وأفكار السماء ، وهكذا إن فتشنا عن أصل القالب الفكري الغربي نجده ضاربا في القدم ، مستمدا من مبادئ وثنية ، وينتقل من حضارة مشركة إلى أخرى ، ومن ديانة إلى أخرى ، ويطعم بأشياء جديدة ، طعمه المصريون ثم الفنيقيون ثم اليونان ثم اليهود والمسيحيون ثم الفلاسفة المسلمون ، فأصبح قالبا هجينا مستقلا بنفسه يشبه القوالب الأخرى في أشياء ، ويتميز عنها في أشياء أخرى . وللقرآن قالبه الخاص ، مستقل بمناهجه ومصطلحاته ، هو قالب وضعه الله عز وجل ، هو كتاب يفسر الله فيه ما خلق ، وهو ضارب في القدم لأنه امتداد للكتب السماوية الأخرى السابقة عنه من آدم عبورا بموسى وعيسى إلى محمد عليهم السلام جميعا ، وهو قالب مهجور من قبل الناس وحتى من قبل المسلمين :"يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " ( الفرقان : 30 )، ما زال ينتظر من يكتشفه ويهتم به ويتناوله ، هو يحمل أسرار الحياة ويوضح حقيقتها ، لكن الناس هجروه ، ويستحيل أن نفهم ما في القرآن إن أصررنا على التشبث بالقالب الفكري الغربي ، ولا مناص من إبراز القالب الإسلامي واعتماده ، فهو يقبل التطعيم من القوالب الأخرى لكن لا يقبل استبداله بقالب آخر ، وحين نكتشف هذا القالب ، ونبرزه إلى الظاهر ، سيتبين لنا آنئذ أن كثيرا مما كتبنا قديما وحديثا هو ليس من الإسلام في شيء ، بل هو مساهمة في تشييد القوالب الأخرى . ولا أكون مبالغا إذا قلت بأن المسلمين ، ومعهم أهل الكتاب ، محرومون من قالبهم الفكري ، وأنهم منذ أن كانوا وإلى الآن هم يكتبون وفق القوالب المشركة الوثنية ، أما رأيت أنبياء بني إسرائيل ينعون هرع اليهود وراء صنم بعل وأفكاره ؟ وأساطير بعل وأفكاره ضاربة في القدم ، وكانت كثيرة الإنتشار بين حضارات الشرق الأوسط من أشورية وبابلية وفنيقية ، فحاول اليهود منذ ما بعد داود عليه السلام في القرن العاشر قبل الميلاد إلى أن أبادهم نبوخذ نصر في القرن السابع قبل الميلاد أن يستبدلوا فكر الله بفكر بعل ، أي بفكر مشركي أشور وبابل وفنيقيا . ثم أما رأيت كيف أتى "بولس" - ثاني أهم رجل في المسيحية بعد عيسى عليه السلام - إلى إسرائيل من تركيا اليونانية ، فدرس علم بني إسرائيل ، وعلم المسيحيين الأوائل ، فمزج بين ما حصل عليه من فكر السماء وبين ما كان عنده من فكر اليونان ، فاختار للمسيح شخصية إلهية يونانية هي "ديونيسوس" ، فمزجه بها ، فجعل المسيح يقدس الخمر ، ويضحي بحياته من أجل خلاص الناس ، وجعله ابن إله ، فكان هذا فكرا دخيلا على فلسطين ، لم يقل به الأنبياء من قبل ، ولكن تقوله اليونان على إلههم "ديونيسوس" ، ثم تقوله "بولس" على عيسى عليه السلام ، ونصرت سلطة الرومان تعاليم "بولس" على تعاليم المسيحيين الموحدين المتقوقعين في فلسطين ، الذين اضطهدوا واتهموا بالهرطقة حتى أبيدوا ، وهكذا لبست المسيحية لباس الوثنية وهي ما زالت في مهدها ، وأخذ المسيحيون يبنون قالبا فكريا وثنيا يونانيا وهم يبنون ديانة المسيح . ثم أما رأيت المسلمين وقد فتحوا العالم بأفكار القرآن الساحرة في ظرف خاطف ، ثم سرعان ما ترجموا كتب الهند واليونان ، وافتتنوا بها ، فهجروا القرآن فجأة ، وحاولوا أن يقنعونا بأن فلاسفة اليونان مِؤمنون ، واقتبسوا قالبهم جملة وتفصيلا وبدون أي تمحيص متعقل ، حتى بات لدينا ركام من المصطلحات المختلطة الغير المفهومة . من يستطيع أن يميز لي بين هذه المصطلحات ؟: اللغة ، واللوجوس ، والمنطق : logique ، وعلم الكلام ، وكلمة الله ؟ إن دققت فيها وجدتها كلها تعابيرا لفكرة واحدة ، هي الكلام الذي يخرج من الفم ، لكن المسلم يأخذها على أنها خمسة علوم . ومن يستطيع أن يحدد لي مصطلحي الوجود والعدم ، أهما يعنيان الحضور والغياب : présence et absence ، كما هو عند الغرب ، أم يعنيان الشهادة والغيب كما في القرآن ، أم شيء آخر يظنه الدهريون الذين لا يرون لهذه الحياة إله ، ويقولون :" ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى وما يهلكنا إلا الدهر " ( الجاثية : 24 ) ، وأن هذه الحياة وجدوها هنا فقط ، فهي وجود مقابل عدم . وأتى فلاسفة الإسلام وأخذوا بهذين المصطلحين بعشوائية ، وبنوا عليهما ركاما غامضا من فلسفة لا ينسجم بأي حال من الأحوال مع فكر الإسلام . ومن يستطيع أن يقول لي أين يقطن العقل ، هل في المخ - كما يرى الغرب - أم في القلب الذي في الصدر كما يرى القرآن ، وترى المسلمين يتبنون مذهب الغرب مع أن القرآن لا يذكر لفظتي المخ والدماغ بتاتا . وهذا خلط رهيب يقوض أركان العقل ، وجهل مطبق بحقائق الأمور ، يدل على أن أسلافنا كانوا حفاظا بامتياز ، يحشون في كتبهم كل ما وجدوه، وتكاد تكون ملكة التحقيق ميتة فيهم ، فبنوا لنا فكرا سموه إسلاميا ، لكن قالبه كان يونانيا ، ومصطلحاته كانت يونانية وخليطا من الفارسية والهندية . والغرب ما زال مصمما على شركه الذي رضعه من فلسفة اليونان ، فها هو يكتشف كواكب جديدة فيلقي عليها أسماء لأصنام كانت عند اليونان والرومان ، أمثال بلوتو ، وأورانوس ، ونبتون وغيرها ، " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس " ( النجم : 23 ) ، وهذا ليس سوى تمهيدا لأساطير سوف ينسجها أحفاد الغرب حول هذه الأسماء ، كما نسجها آباؤهم من قبل حولها ، ولا أرى هذه التسميات المشركة التي تظهر مع كل اكتشاف لأجرام السماء إلا عملية إحياء صامتة للشرك الذي هوت عليه المسيحية بضربتها القاسية ، ثم تلقفه الإسلام بضربة أخرى أخمد بها أنفاسه . إني أرى هذا الشرك ينتفض من جديد في قبره وتعود الحياة إليه شيئا فشيئا ، والشرك من طبعه أنه يحيى ويتغذى على أساطير تنسج حول الكواكب . إني أرى الفكر الغربي يبتعد أكثر فأكثر عن تعاليم السماء : عن اليهودية والمسيحية والإسلام ، إني أراه يتغربل رويدا رويدا ويتميز حتى يصير يونانيا مشركا محضا . ونحن الآن ، مسيحيون ويهود ومسلمون ، مضطرون أكثر من أي وقت آخر من أن نبحث لنا عن قالب خاص بنا ، قالب فكري سطره لنا رب السماوات والأرض ، ليكون مقابلا لقالب اليونان الوثني .