شهدت بعض دول العالم العربي مؤخرا عدة ثورات شعبية، وكلها تقريبا ذات هدف واحد وهو إسقاط النظام الحاكم وتغيير الدستور.إلا أنني سأتحدث في هذا المقال عن الواقع الاقتصادي للعالم العربي، وعن الاحتياجات الأساسية لشعوبه. مما لا شك فيه، أن هناك نقاشا على مستوى المؤسسات والأفراد المهتمين بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي ،حول قضية التنمية وأهدافها.والجدل القائم يدور حول العلاقة بين الهدف العام للنمو الاقتصادي والذي يقاس بالمعدل السنوي لزيادة الدخل القومي، ومدى تحقيق ذلك النمو للهدف الأساسي للتنمية، وهو سد الاحتياجات الأساسية للناس.وبينما يكاد يتفق الكل،على أن هذه الأساسيات هي الغذاء والمسكن والشغل والصحة والتعليم،إلا أن الخلاف قائم على أشده حول أفضل السبل وأنجعها لتوفير تلك الاحتياجات الرئيسية للغالبية العظمى من المعوزين والمحتاجين في مجتمعاتنا العربية. إن الذين يدعون إلى ضرورة تبني فلسفة جديدة للتنمية يضعوننا أمام عدة حقائق لا يمكن إهمالها،والتي تبرهن على أن النمو الاقتصادي الذي حققته الدول العربية على مدى عدة سنوات، لم يف بالغرض الذي من أجله قدمت الإعانات والقروض في سبيل النهوض بالإنسان العربي ،وهي كالتالي:-نسبة كبيرة من السكان لا يحصلون اليوم على القدر الضروري من الغذاء-هناك زيادة حقيقية في نسبة السكان الذين لا يحصلون على الماء الشروب ولا على الخدمات الصحية الأساسية-عدد الأطفال غير المتمدرسين في زيادة مستمرة-وأخيرا مشكل الإسكان،فرغم أنه يصعب تحديد هذه المشكلة رقميا،إلا انه من السهل التعرف على مأساة الملايين من البشر الذين يأوون إلى الشوارع. إن مشكلة الإنسان،بصفة عامة،تكمن في الإجابة على السؤال الآتي:هل نحن بحاجة إلى تبني فلسفة تستهدف سد الاحتياجات الضرورية للإنسان في مأكله ومسكنه،وفي صحته وتعليمه؟وهل هذا يعني أن علينا كمجموعة عربية قاسمها المشترك هو الإنسان العربي، أو كدول مستقلة يعنيها رخاء ورفاهية مواطنيها أن تعيد ترتيب الأولويات التي تحكم أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية في خططنا،أم أن التفاوت الملحوظ في درجات النمو بين هذه الدول لم يعد يسمح بتعميم نظرية واحدة على مجتمعاتنا،لأن ما يطمح إليه المواطن في اليمن والبحرين أصبح يبعد كل البعد عما يحتاجه المواطن في المغرب وتونس ومصر؟ وتجدر الإشارة،إلى أن هناك تباينا شديدا في درجات النمو بين أجزاء العالم العربي بشكل عام،إلا أن الغالبية العظمى لا تزال تعيش تحت ظروف صحية وتعليمية وغذائية سيئة للغاية.فضلا عما نعرفه عن سوء الأحوال السكنية وانتشار ظاهرة البطالة.وأستغرب،وسط كل هذه الظروف القاسية،أن هناك من ينادي إلى سد الفجوة العلمية والتكنولوجية بيننا وبين العالم الغربي،وأن سدها يتطلب استيعاب التقنيات الحديثة،وذلك بالعمل على بناء العنصر الأساسي في عملية الاستيعاب وهو الإنسان نفسه.ولكن كيف يكون ذلك ونحن لم نضمن لهذا الإنسان حاجياته الأساسية والضرورية من غذاء وشغل ومسكن وصحة وتعليم؟ليس الغرض من هذه الفكرة الدعوة إلى إيقاف استيعاب التكنولوجيا والتقنيات الحديثة،ولكن اعتقد أن هناك خطأ في تطبيق مبدأ اقتصادي هام،وهو مبدأ الأولويات الاقتصادية،وهذا خطأ فرضته إرادات سياسية عن طريق التركيز على مشاريع مهمة من الجانب الاقتصادي ولكن منافعها الاجتماعية محدودة جدا.وعلى سبيل المثال،ماذا يعني بناء مشروع صناعي يعمل فيه مئات من العمال ولكن يحيط به مئات الآلاف من البشر الذين يعانون من سوء التغذية وانعدام الخدمات الصحية،وتنتشر فيهم نسبة الأمية بشكل كبير؟إذن فالمنافع السياسية في بعض هذه المشاريع وليس كلها،تفوق جدواها الاقتصادية والاجتماعية. نهاية،فلا يمكن أن نغض الطرف عن الحيرة التي يواجهها أي مخطط للتنمية في أية دولة عربية،حيث تفرض المعطيات الاقتصادية لذلك المجتمع حرمان أبناء اليوم مما يصبون إليه،من أجل ضمان مستقبل أحسن لأجيال قادمة.ولكن فالواجب أن نبحث عن التوازن بين تضحيات اليوم وفوائد المستقبل،وعندها سيتضح أن بناء مدرسة ابتدائية أو مستشفى محلي أو تزويد الجامعات بالمختبرات ومستلزمات التعليم للطلبة،ستحتل مكانا في الأولويات الاقتصادية والاجتماعية أكثر من إقامة مشروع أو مصنع لإنتاج الملابس المستوردة على سبيل المثال. ويبقى التساؤل المشروع،أليس من الواجب على الأنظمة والسياسات العربية التي شهدت دولها ثورات شعبية حاشدة،أن تعيد ترتيب الأولويات في خططها وبرامجها ليصبح التركيز الأساسي على بناء الإنسان وتوفير حاجياته الضرورية؟