نزلت مضامين خطاب الملك محمد السادس الأخير كالماء البارد على المراقبين والملاحظين. ودخل الملك في الموضوع مباشرة دون مقدمات، ومن زاوية "الجهوية المتقدمة" التي هيمنت على معظم الخطاب. وجاء موضوع "مراجعة الدستور" و"تكوين لجنة المراجعة" كالمفاجأة الكبرى. أما ضجيج السياسيين التقليديين حول الخطاب وكلمات المدح والإستبشار فهي غثاء لا قيمة له. وذلك لأن هؤلاء السياسيين لم يجرؤوا يوما على الجهر بمطالب إصلاح الدستور بالتفاصيل واختبأوا دائما وراء العموميات والكلام الفارغ. وسبب ذلك هو ليس نقص ذكائهم وإنما هو خوفهم من "تكحيل دوصياتهم" وتهديد احتمالية تعيينهم في المناصب. ثم إن معظمهم تبرأوا أو تجاهلوا حركات 20 فبراير الإحتجاجية، وهي احتجاجات تألقت في أكثر من 100 مدينة وساهمت في تسريع المبادرة الملكية بمراجعة الدستور. وبدون رغبة في التحذلق أو استباق الأمور، لا بأس في طرح بعض الأسئلة المشروعة والآراء المعقولة حول مواضيع الخطاب الملكي الأخير. هل "الجهوية المتقدمة" هي جواب كافي على مطالب الإطاحة بالفساد والإستبداد؟ من بين أهم ما ذكره الملك هو دسترة الجهوية الموسعة وانتخاب رؤساء المجالس الجهوية وتخويلهم سلطة تنفيذ سياسات الجهة بدل العمال والولاة المعينين. وهذا طبعا سيحول مجال التدبير الجهوي من طريقة الأوامر والتليفونات القادمة من الرباط إلى طريقة البرامج الإنتخابية التي يختارها الشعب. ولكن هل سيختفي العمال والولاة ليصبح تدبير الجهات ديموقراطيا 100% أم أنهم سيلعبون "دورا" ما؟! هل ستتوقف وزارة الداخلية عن التدخل في "الشادة والفادة" من شؤون الجهات أم أن الأمر لا يتجاوز إعادة توزيع بعض الصلاحيات مع الإحتفاظ بسلطة الداخلية؟ هل ستستمر الداخلية في السيطرة الكاملة على الجهاز الأمني أم أن الجهات ستتولى الأمن المحلي كما معمول به في الدول الديموقراطية؟ ماذا عن أموال الضرائب والمداخيل الأخرى؟ هل ستذهب إلى المجالس الجهوية لاستثمارها مباشرة في المشاريع المحلية؟ أم أن الوزارة الأولى ووزارة الداخلية ستستمران في سياسة توزيع الأوراق والأرزاق على الجهات والأقاليم كما يحلو لها؟ وما الذي سيمنع من إعادة إنتاج الأساليب والسلوكات المافيوزية المخزنية (شراء النخب والأصوات، الإقطاع، الترامي على الملك العام...) في الجهات؟ فالشياطين تختبئ في التفاصيل الدقيقة وليس في العبارات الرنانة. ماذا سيحدث لصلاحيات الملك الواسعة؟ نعلم أن جوهر أي إصلاح دستوري حقيقي يعني بالضرورة تحويل النظام إلى ملكية دستورية ديموقراطية حقيقية (كما هو الحال في بريطانيا أو إسبانيا مثلا). أي أنها يجب أن تكون ملكية يسود الملك فيها رمزيا ولا يحكم. ونعلم أن أي شيء أقل من ذلك لا يستحق أن نسميه "ملكية دستورية ديموقراطية" ولا "نظاما ديموقراطيا". والسؤال الصعب هو: كم من الصلاحيات والسلطات التي يقبل أو يستعد الملك محمد السادس للتخلي عنها لصالح البرلمان والحكومة والقضاء؟ مرة أخرى.. العبرة بالتفاصيل. ماذا سيحدث لحرية التعبير والصحافة؟ لاشك أن عملية الإصلاح لا بد أن تمر بالإمتحان الذي فيه يكرم المرء أو يهان: حرية التعبير والصحافة! حرية التعبير والصحافة هي الترمومتر والميزان الحقيقي والشفاف لمدى رغبة السلطة في التغيير والإصلاح والدمقرطة. إذا كانت السلطة لا تخاف من الكلمة ومستعدة لترك الناس يقولون ما يشاؤون بلا حدود ولا قيود ولا "قانون صحافة" فاعلموا أن نيتها في الإصلاح صادقة. لأن السلطة حينئذ لن يكون لديها مبرر للخوف من كلمات الصحافيين وانتقاداتهم ونكتهم وتعليقاتهم وتحقيقاتهم. أي أن السلطة لن يكون لديها ما تخفيه أو ما تخاف عليه. أما إذا سمعتم أحاديث السلطة عن "عدم المس بالمقدسات" و"قانون الصحافة" و"تقنين حرية التعبير" و"هيبة الدولة" فاعلموا أن "السوق خاوي"، وأنه ليس هناك إصلاح حقيقي ولا يحزنون، وأن الأمر لا يعدو كونه عملية تجميل وترقيع ستستخدمها السلطة لعبور هذه المرحلة الحساسة وتخدير الشعب ببعض الإصلاحات الشكلية. فلا قيمة لأي إصلاح إذا لم يتمكن المواطنون والصحفيون من التعبير عن آرائهم بحرية مطلقة قولا وكتابة. ولا خير في أي دستور لا يضمن حرية التعبير التامة والكاملة لكل مواطن. أما الحالات الشاذة من أشكال التعبير، التي تستدعي فرض غرامة أو عقوبة مناسبة، فيجب أن تنحصر في القذف بدون دليل والتهديد الإجرامي الصريح والتحريض على القتل أو الإرهاب والتعدي على الخصوصية وما شابه. الأمازيغية في صلب الهوية لا شك أن عبارة الملك محمد السادس: "التكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة الغنية بتنوع روافدها وفي صلبها الأمازيغية" هي أقوى ما قاله في المسألة على الإطلاق منذ اعتلائه العرش. وجعل ذلك المرتكز في صدارة المرتكزات السبعة التي سطرها لمشروع "التعديل الشامل للدستور". لقد تجاوز الملك محمد السادس ما ينص عليه الدستور الجزائري الذي اختصر الأمازيغية في "مكون" من "مكونات" الهوية الجزائرية. ولم يمنح الدستور الجزائري للأمازيغية حقها الكامل المنبثق من أسبقيتها التاريخية المطلقة. لقد خص الملك محمد السادس الأمازيغية في خطابه بموقع ريادي في "صلب" هوية المغرب. ولم يذكر "الروافد" الأخرى بالإسم (الإسلام، الثقافة العربية، الإنتماء الأفريقي، التراث اليهودي، التراث الأندلسي...) لأنها بكل بساطة روافد ومكونات ثقافية ولغوية ودينية، وليست صلبا للهوية. هذه "الروافد الثقافية" لا ننتقص من وجودها وقيمتها بل إننا كلنا نعترف بها وبمشروعيتها. ولكن لابد من تسمية الأشياء بمسمياتها. فالروافد روافد. والصلب صلب. وهذا هو ما قام به الملك محمد السادس حينما حدد صلب الهوية الوطنية (أي جوهرها) في الأمازيغية، وبمنتهى الوضوح. وهو موقف منسجم مع ما كانت تناضل فعاليات حقوقية عديدة من أجله. الأمازيغية هي بالفعل في صلب الهوية الوطنية لأسبقيتها التاريخية واستمراريتها وتجذرها وامتدادها إلى البلدان المجاورة إلى غاية أقاصي ليبيا وموريطانيا. إن الإعتراف بالهوية الوطنية بصلبها الأمازيغي وبروافدها العربية والإسلامية والأفريقية والأندلسية وغيرها في الدستور المرتقب لهو حركة عبقرية تاريخية، بسيطة في شكلها (لا تكلف الدولة درهما واحدا)، وهي في نفس الوقت سوف تغلق باب الجدل والفتن والحساسيات والإحتقانات والإحساس بالحكرة بشكل نهائي. وبذلك سيلتفت الشعب الموحد ومناضلوه إلى قضايا إبادة الفساد والتنمية والدمقرطة، بدون منغصات ولا معكرات. وأملنا كبير في أن يقوم أعضاء اللجنة الخاصة لمراجعة الدستور باعتماد العبارة الملكية، التي وردت في الخطاب، بأمانة ودقة في ديباجة الدستور حول موضوع الهوية الوطنية، وأن ينتبهوا إلى موقع الأمازيغية في صلب الهوية الوطنية، بجانب الروافد الثقافية المعلومة. ترسيم اللغتين الأمازيغية والعربية وبجانب حل مشكلة الإعتراف بالهوية الوطنية بصلبها وروافدها، تأتي المسألة اللغوية والتي لا مفر من معالجتها دستوريا أيضا. وهكذا لابد من التنصيص بوضوح على كون اللغتين الأمازيغية والعربية لغتين رسميتين. ويجب الإنتباه إلى أن الأمازيغية والعربية يجب أن تكون لهما نفس المكانة والقيمة القانونية والقضائية والتعاقدية. أي أن كل القوانين والظهائر والقرارات والبرامج الحكومية يجب أن تكتب باللغتين. وأن البرلمانيين سيحق لهم المرافعة والنقاش باللغتين (مع ضرورة توفير تسهيلات الترجمة الفورية والكتابية). كما أن المواطنين يحق لهم اختيار إحدى اللغتين في كتابة عقودهم وطلب وثائقهم والتعامل مع إداراتهم والتقاضي بها لدى المحاكم في كل جهات المملكة دون اعتبار لنسبة شيوع الأمازيغية أو العربية الدارجة في تلك الجهات. وبجانب ذلك فمن المهم الإعتراف بالأمازيغية والدارجة والحسانية كلغات وطنية لكونها لغات يتكلمها المواطنون في حياتهم اليومية. الدستور والجهوية ليسا كل شيء يجب أن نعلم أن المطالب الشعبية تتجاوز المبادئ الدستورية والقوانين المكتوبة إلى الإجراءات الملموسة. فهناك ضرورة محاكمة الجلادين. وهناك ضرورة التحقيق في مصير عشرات الملايير من الدراهم من المال العام التي اختفت. وهناك ضرورة إعادة الأراضي التي اغتصبها الإستعمار الفرنسي إلى القبائل. وهناك ضرورة إشراف البرلمان والحكومة المنتخبة على الأمن والمخابرات والجيش. وهناك مشكلة قيام المخابرات بالتجسس على المواطنين بدون إذن قضائي واعتقالهم خارج القانون. وهناك ضرورة تشكيل مؤسسة مستقلة ذات صلاحيات قوية لمكافحة الفساد والإختلاس. وكلها قضايا تحتاج إلى إجراءات عملية وليس إلى نصوص على الورق. معركة الإصلاح الجذري السلمي لم تبدأ بعد! لاشك أن الملك تجاوب مع المطالب الإصلاحية بقدر كبير من الجرأة والذكاء والإيجابية بتفويضه عملية "المراجعة الشاملة للدستور" لفريق من الأكاديميين القانونيين ومنحهم صلاحيات واسعة نسبيا على ما يبدو لنا. ورغم بعض الإنتقادات المشروعة لتعيينهم فوقيا وغياب ممثلين عن المنظمات الحقوقية المستقلة، إلا أن هذه المبادرة قد تفتح الباب على إصلاح جذري حقيقي لديه فرصة قوية في النجاح. وبما أن الملك دعا لجنة مراجعة الدستور إلى التشاور مع كل المنظمات والفعاليات المدنية. فإن كل المنظمات والحركات ومن بينها حركة 20 فبراير مدعوة إلى اقتراح صيغ مكتوبة للدستور الجديد، بدل الإكتفاء بالشعارات العامة التي ترفعها في الشوارع. إلا أنه أيضا لاشك في أن امبراطورية الفساد والإقطاع والزرواطة تتمتع بقوة هائلة وتتوفر على شبكة أخطبوطية من الموارد وأشكال النفوذ. وستعمل على تلغيم الحقل ومقاومة رياح التغيير من أجل حماية مصالحها في مزرعتها الكبيرة التي تسمى "المملكة المغربية". وإنها لقادرة كل القدرة على إفساد التغيير وتمييع الحوار وإفشال الإصلاح مثلما فعلت دائما في السابق. لهذا فإن الشباب والمناضلين يجب أن لا يركنوا للدعة والهدوء والتفرج. وإنما يجب على كل المنظمات والحركات الإحتجاجية السلمية أن تواصل التظاهر السلمي وتوصل صوت الشعب في الشارع بكل قوة إلى من يهمه الأمر، وأن تنتبه لحراس الفساد والإقطاع ولمحترفي التخريب. والأكثر خطورة من ذلك هو أهمية الإنتباه إلى التفاصيل الدقيقة للإصلاح الدستوري والجهوي.