يقتضي منا الموقف الأخلاقي الأصيل الوقوفَ احتراما وإجلالا للنموذج الاحتجاجي الراقي والسلمي الذي سطره المشاركون في الحراك الشعبي في الريف، وإصرارهم على السلمية رغم الحملة القمعية الشرسة التي وُوجهوا بها من قبل السلطة باعتقالها لقياداتهم المصرة على السلمية وعسكرة مدينتهم الحسيمة. ولو وُجدت وسائل أخرى لتحقيق مطالب الناس غير الاحتجاج والضغط الشعبي لأصررنا على أن تكون المطالب من داخل المؤسسات وأن يكون الضغط الشعبي عبر صناديق الاقتراع. لكن للأسف، أُفرغت المؤسسات من أدوارها وصارت الانتخابات مجرد سوق موسمي تفتح فيها "الدكاكين السياسية" أبوابها لبيع وشراء الذمم. وتتفن بعدها في الضحك على ذقون المواطنين البسطاء والعمل على تكريس سلطوية المركز بكراكيز سلطوية صغيرة. ولأن الثقة صارت مفقودة في المؤسسات والانتخابات و"الدكاكين السياسية" إلى إشعار آخر، فإن الوسيلة الوحيدة التي بقيت للناس لإيصال أصواتهم ومطالبه وتظلماتهم وآلامهم هي الخروج إلى الشارع احتجاجا ومطالبة، حاديهم في ذلك الشعار القائل: "إن ما لا يتحقق بالنضال يتحقق بمزيد من النضال". وهذا ما حصل ويحصل في الريف، فالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية فرضت على الناس الخروج للمطالبة بحقوقهم والتعبير عن يأسهم من المتاجرين بآلامهم ووطنهم الذي ضحى لأجله أجدادهم وآباءهم. ولأن عقل السلطة في المغرب هو عقل أمني بامتياز، يفكر في كل الأمور بذهنية حارس الأمن المراقب لكل خروج على الطاعة، فقد كان القمع هو الجواب على مطالب الناس. مع أن المحتجين عبروا عن انفتاحهم واستعدادهم للحوار، لكن السلطة تجاهلتهم وكأنها لا تعرفهم، وذهبت، في خطوة مستفزة فعلا، تحاور الذين دخلوا بيوت الطاعة المؤسساتية باعتبارهم نشطاء الحراك. السلطة لم تستطع التعرف على قيادات الحراك أثناء الحوار، لكنها استطاعت التعرف عليهم بسهولة أثناء الحملة الأمنية القمعية. إننا الآن أمام أزمة متفاقمة في الريف، من حقنا كمناضلين سلميين ألّا نعترف بها كما أن من حق مدبري الشأن أّلا يعترفوا بها. لكن علينا أن نتحلى بقليل من الحكمة لنقول إن هذه "الجولة" يجب أن تنتهي، أو على الأقل أن تكون فرصة لإعادة رسم قواعد اللعبة. للمحتجين أقول إن هذه "جولة" في مسار طويل من الضغط السلمي لتحقيق مطالب الناس في العدالة والكرامة والعدالة الاجتماعية وليست نهاية، ولمدبري الشأن أقول إن المنهجية خاطئة ويجب إعادة النظر فيها لأن ضررها على البلد أكثر من نفعها، ولأن "الحزم" الآني حتى لو حقق غرضكم منه فإنه فاشل لأن آثاره كارثية على المدى المتوسط والبعيد (وربما حتى القريب). لهذا، لو كان لصوتي أن يسمع عند هؤلاء وهؤلاء لاقترحت الأفكار التالية كأساس لحل المعضلة في الريف بدل التصعيد الميداني الذي لا نعرف منتهاه وكبادرة "حسن نية" للخروج منها. وهي تأخذ بعين الاعتبار ما يلي: أنها صادرة ممن ينتمي قلبا وقالبا إلى هذا الحراك السلمي الحضاري (وليس من دكان سياسي)، مع حرصه الشديد على أن يكون لهذا الحراك أثرا طيبا في حياة الناس ولا يكون وبالا عليهم. أنها ترى أن السبب الحقيقي للأزمة هي السياسات العامة التي تبنتها السلطة إزاء الريف وإزاء الوطن بشكل عام، وأنها وحدها تتحمل نتائجها. أن المقاربة الأمنية الاستباقية أثبتت أنها غير قادرة على إسكات المحتجين، وأن المقاربة الأمنية الشاملة إن طبقت قد تكون كارثة ليس على الريف فقط، بل على البلد كله، لا قدر الله. أن المتوقع أن يكون الاحتجاج بعد شهر رمضان أقوى، لظروف هذا الشهر الكريم، ولأن احتجاجات رمضان لم تكن إلا رد فعل على اعتقال واختطاف النشطاء وتلفيق التهم لهم. وبالتالي، فإن خروج هذا الشهر الكريم وعودة المهاجرين المغاربة بالخارج ستعيد الاحتجاج إلى حالة أقوى. كما أن هناك دعوة إلى مظاهرة كبيرة يوم 20 يوليوز صدرت من "ناصر الزفزافي" قبل اعتقاله وهناك إصرار من جانب فعاليات الاحتجاج على تنفيذها. لكل هذا أرى أن الأفضل تجنب مزيد من الاحتقان لأنه ليس في صالح أحد، ولن يستفيد منه إلا من يحبون الاصطياد في الماء العكر، خاصة بعض الرؤوس السياسية والأمنية المتكلسة وبعض المتطرفين الفوضويين. وفي نظري، فإن المطلوب الآن هو مبادرات واعية لإعطاء فرصة لتصحيح الوضع: من جانب المحتجين: "تعليق" الاحتجاجات قبل موعد المظاهرة المقررة يوم 20 يوليوز. والاعتراض على هذا الأمر متوقع وكذلك اتهام نية صاحبه، لأن التظاهر السلمي حق مشروع بل وواجب حينما يكون هناك انتهاكات صارخة كالتي ارتكبها المخزن باعتقال واختطاف النشطاء وعسكرة المدينة. لكن الجواب عليه في نظري من جهات متعددة: أن هذا التعليق هي فكرة أصلية للحراك أعلنها الناشط البارز "ناصر الزفزافي" نفسه قبل اعتقاله، كما أن المطلوب هو تعليق الاحتجاج وليس توقيفه، وأنه فرصة لأخذ النفس واستراحة محارب إذا لم تبدي السلطة نية إيجابية بالاستجابة للحد الأدنى من المطالب، وهو مناسبة للاستعداد والتعبئة للدعوة المنتشرة بين الناس إلى مظاهرة 20 يوليوز. وهذا أفضل من استنزاف الطاقات في مظاهرات صغيرة وبومية رغم أثرها الجيد. وهذا الاستعداد سيكون أثره أقوى من هذه المظاهرات، لأن صعوبة توقع حجم فعالية 20 يوليوز ستجعل الجميع يفكر في حل سريع للمشكلة قبل تفاقمها. من جانب السلطة: إطلاق مسار حل الملف بالإفراج عن المعتقلين بإسقاط التهم عليهم ورفع حالة العسكرة الأمنية لمدينة الحسيمة والشروع في مسار لتنفيذ المطالب العاجلة وبرمجة تنفيذ المطالب الأخرى. والاعتراض على هذا الأمر أو تجاهله من جانب السلطة هو التوقع الأقرب إلى طبيعتها الاستعلائية كما يبينها التاريخ، لكننا نتمنى أن يغلب صوت العقل فيها على صوت الاغترار بالسلطة. ومما يوفره لها هذا الاقتراح: أنها ستجد فيه فرصة لتعديل مسار معالجتها للأزمة بدون ضغط ميداني: وذلك بالإفراج عن المعتقلين وإطلاق مسار لتنفيذ أهم المطالب التي يطالب بها المحتجون إما بعد حوار مباشر مع المعتقلين المفرج عنهم (وهو الأفضل) أو بدونه (وهو الأقرب إلى طريقة تفكيرها). وأن السلطة ستتجنب مزيدا من التصعيد الميداني، الذي لا يمكن التكهن بمداه، ومزيدا من تشويه صورتها أمام العالم وتصفير المجهودات التي قامت بها إزاء الجالية المغربية بالخارج وإزاء الريف. تشكيل لجنة أو هيئة من شخصيات تحظى بقبول نشطاء الحراك، للتواصل ومتابعة الحوار والإنجاز، بعدما فقد شباب الحراك الثقة في الوساطات التقليدية و"الدكاكين السياسية". في كل الأحوال، تبقى هذه مبادرة من أحد أبناء الريف الغيورين المصرين على أن يعيشوا في حرية وكرامة وعدالة. لا أنتظر منها أكثر من أن تكون أساسا لنقاش، لكنها على الأقل إبراء للذمة وحجة على من استعلى. كما أنها متعلقة بالمنطلق لا بالغاية، لأن هذه الأخيرة تحتاج إلى إرادة سياسية وحلول جذرية مبنية على رؤية استراتيجية وهذا أمر آخر. عاش الريف وعاش الوطن ولا عاش من خانهما. *أستاذ المنطق والفلسفة بجامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء