نظم العشرات من المناضلين بمدينة الناظور، يومه الأربعاء 24 دجنبر 2014، وقفة احتجاجية، يمكن اعتبارها الفريدة من نوعها، لكونهم طالبوا بتدخل الدولة من أجل تزوير الانتخابات المقبلة، حيث أن "الديمقراطية" حسب زعمهم، لم تعد تفرز سوى أشخاص عديمي الكفاءة، ولا تخدم الصالح العام. صراحة، لم أستغرب مطالب المحتجين، بل على العكس، أعتقد أن ما ذهبوا إليه يعتبر حالة متقدمة، في مسار الاستقراء العميق، وفي استيعاب آلة صنع المآسي والبؤس، التي تكاد لا تستثني موضعا أو شيئا من حولنا، كي تعكس، بصورة محبطة، حالة التردي التي بات يعيش على إيقاعها الفعل السياسي المغربي، بعملة ذات وجهين : وجه الشعارات والخطب الرنانة، ووجه آخر تجسده ممارسات، ما خفي منها كان أعظم، ولا تقاطع بينهما، سوى أنهما ملتصقين التصاقا يكاد يكون مفزعا. لكن ما برره المحتجون في إبداء موقفهم هذا، مع احترامي لما ذهبوا إليه في نقدهم، لا يفي، حسب تقديري المتواضع، بما ينفذ إلى عمق الأزمة، في قراءة الممارسة السياسة التي نعيشها، لذلك، ألتمس تقديم قراءتي على النحو التالي : إن واقعنا السياسي، ليس وليد لحظة أو حدث، بل هو نتاج لتراكمات وترسبات، لعبت فيه أيادي متعددة، وحسابات متعددة، ومؤامرات متعددة ومتكررة، على طول زمن ليس بالقصير، وكرست عقلية عصية على الفهم في عمق الصخب السياسي، لذلك، وجب استقراء ظواهر الفعل السياسي بحذر وتركيز؛ لقد اكتشفنا أن المنعطفات، المتمثلة في الأحداث العظام، بالرغم من أهميتها وحيويتها، ليست وحدها تصنع التاريخ من خلال تجدد المجتمعات، عبر طريق المآسي والخراب، فيرقى بمعاني العيش والتعايش، بل حتى المسار الهادئ المنساب، الذي يعطي الانطباع بأن كل شيء على ما يرام، يصنع التاريخ، ويصبغ الجغرافيا بأوجاع مسترسلة، كمن بجسده علل، فيسعى إلى التخلص من الألم، عن طريق تناول مسكنات ومهدئات، إذا ما أذهبت الألم في حينه، إنما تؤجل الأسوأ إلى حين. لا يختلف إتنان كون الانتخابات في المغرب، ومنذ بدايتها، كانت موجهة، وكنا نسمي هذا التوجيه القسري تزويرا، إرادة الناخبين، لأن الحكم، كان يسعى، ببساطة، إلى مد جزء من سلطته، إن صح التعبير، بدل القول بتقاسمها، إلى فئة لا تجادله أو تنازعه في ثوابت الحكم والسلطة، بالمعنى التقليدي للكلمة، وقد يكون الدور الذي أنيط بها، لا يعدو أن يكون من جهة، تطبيلا ومماهاة لمن يصدر التعليمات، ومن جهة أخرى، تدبير أموال، سميت "ميزانية عمومبة"، بين مداخيل ومصاريف، وبين مهام التحصيل والتنفيذ. وفي ظل غياب أو ضعف العمل الرقابي الفعال، بل في ظل تواطؤه، أصبح العديد منهم كالمنشار، يكسب هبوطا ويكسب نزولا، حتى أضحى العمل السياسي موردا حقيقيا وفعليا للثروة وللإثراء، وأضحت معادلة المنظرين الاقتصاديين، التي تربط الدخل والثروة بعملية الإنتاج، أضحوكة ومسخرة، وقد نسايرهم في الطرح، إذا ما افترضنا النصب والاحتيال، و"التبنديق" والتزلف، والضحك على الدقون والمكر والخداع، في السياسة، وفي كل شيء، إنتاجا وافرا، وتجارة لا تبور، في هذا الزمكان المغربي الجميل. وحينما نتابع مسار تطور الفعل السياسي، الذي بني على هذا المنطق، والذي لا علاقة له أصلا بمفهوم تداول السلطة، أو خدمة المرفق العام، بل لا يعدو أن يكون تداولا في مهمة توزيع المصالح، فإنه من الطبيعي أن نجد أنفسنا أمام صناعة نخبة من السياسيين، ولا نعمم بطبيعة الحال، يعكس سلوكهم الشوفيني، ظاهرة تبخيس كل ذي قيمة أخلاقية وعلمية ومهارتية، والرفع من شأن كل سفاهة وابتذال وميوعة ورياء، فيستبد بهم عامل المصالح الشخصية، في تشبيك معقد، بين الاجتماعي والتجاري والسياسي، حتى إذا خلفوا أبناء، وجدنا أنفسنا أمام عقول تربت على منطق مافيوزي، فبلغوا من الثقة الزائدة في أنفسهم، ومن وقع النفوذ والجاه والمال على نفوسهم، ما جعلهم لا يأبهون بقيمة وبحجم المسؤولية، فيصدرون الأوامر بتماهي ونرجسية وعنجهية، دون الاكتراث بوقعها على الناس بمختلف مشاربهم، وعلى مستقبل أجيال، فإذا انتقدتهم، أخذتهم عزتهم ونرجسيتهم الفاسدة بالإثم، فصبوا سعار الدود عن كرامتهم، على البسطاء من الناس المقهورين المتذمرين، من خلال الدوس على كرامتهم، كما تجدهم يمنحون الناس قيمتهم، بمعيار ما يزنوه عندهم، مالا أو نفوذا أو ولاء، فلولي النعمة مكانة، وللخدوم مكانة، وللمتقاسم معهم مصالحهم في السر والعلانية مكانة، وللإمعي مكانة، في ترنيمة من النفاق المستتب، انفصامية بعيدة عن هموم المجتمع، لأن ما دون فئاتهم تلك، إنما يصلحون، وفق سلوكهم، لملء طوابير البهرجة والاستهلاك، بإسم "النضال" السياسي و"خدمة الوطن"، والنضال منهم براء، والوطن منهم براء. وهكذا، فكل عامل أو رجل أعمال أو تاجر أو ما إلى ذلك من المهن، إذا ما أراد أن يحافظ على أمواله ومجاري تدفقها بسلاسة ويسر، بل كل من أراد أن يصنع الثراء من لا شيئ، عليه بالانخراط في العمل السياسي بولاء قطعي الظاهر، وأن يتسلح بسلاح المكر، والتآمر الملفوف بالمظلومية، أو "بالتسنطيح الخطابي" والبيع والشراء في مزاد الحقل الحزبي، والسياسي بوجه عام، أو ينقل "الخبيرات" الثمينة، وهناك من نجح، بفعل هذه الممارسات، أن ينتقل من "تافه معدم"، لا يستطيع تأمين ثمن كأس شاي في مقهى الحي، إلى صاحب أفخم الفنادق وأرقى المقاهي، وأكبر المتنزهات، وإلى مالك كازينوهات القمار وصالونات التدليك، ليس داخل البلد فحسب، بل حتى خارجها، وهلم جرا، فلأن الفساد ملة واحدو، من المستحيل أن تراه منتجا في الاقتصاد الطبيعي، بل غالبا ما يروم نحو الأنشطة ذات التهييج الغرائزي، المدرة للأرباح بلا حدود، ولا داعي لسرد الأمثلة، فمن لا يقرأ هكذا واقع، لا حاجة لإقناعه أصلا. ومن ثمة، يكفي الاعتراف بأن هكذا آلة سياسية تشتغل بالمقلوب، فقد صنعت لنا شريحة من "الباندية والشلاهبية والنصابة" بحيث أصبحوا قادرون على جرجرة كل من سعى لانتقادهم أو فضحهم، أمام المحاكم، وربما "خليان دار بوه" بطرق شتى، لو اقتضى الأمر، بإرسال زمرة من الغوغاء الجهلة إلى عقر داره، و الأسوأ، أنه حتى لو كان الحق إلى جانبك، فالحق في معادلة الفساد لعبة نسبية، قد تجعل منك مذنبا، بجرة تكييف. هذا الوضع ليس حكرا علينا بطبيعة الحال، بل حالة منتشرة في كثير من البلدان والأمم، وترتبط ارتباطا عضويا بالاستبداد وبصناعة الفساد، لكن عندنا، فقد وصل السيل الزبى، وبتنا نتساءل جميعنا، حين نقرأ ببراءة واجتهاد المجدين، بين دفتي كتب علم السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع السياسي وخلاف ذلك، كيف أننا لم نجد من يرشدنا إلى أن هناك وضع آخر للسياسة، حيث بدل أن تكون السياسة في خدمة البلد، حيث نجد السياسي مناضلا، يضحي براحته وبماله وبوقته ويوقف كل مصالحه، لفترة من الزمن، من أجل خدمة الآخرين، تجد لعبتنا السياسية العجيبة، تجعل كل الشعب، بطاقاته وبقواه، وبآماله وتطلعاته وبمصيره، في خدمتها وفي خدمة المتحكمين والنافذين على إيقاعها، إنها أسطوانة عجيبة في هذا الزمن الرديئ حقا. ورجوعا إلى الديمقراطية المنبوذة، حسب إخواننا المحتجين بالناظور، فإن الأمر لا يتعلق بقيم الديمقراطية بحد ذاتها، لأن القيم والمبادئ عبارة عن أفكار، موجهة أو قناعات في أحسن الأحوال، لا تتطور إلى سلوك إلا إذا وجدت بيئة مناسبة، لأنها تتكون من واجهة ومن روح، فإذا كانت واجهتها خطب رنانة وشعارات للتداول، فإن روحها تحتاج إلى روح المجتمع كي تتناغم معها، حتى تعطينا وضعا ديمقراطيا داخل المجتمع، فإذا كانت روح المجتمع غير سليمة، تستبد بها العلل من كل جانب، فقدت الديمقراطية جوهرها وروحها، و"تسيفت" و"تقزدر" وجهها بما لا قبل للديمقراطية نفسها به، فيصبح كل دكتاتور صغير، في منطقة نائية، أو استبدادي بفضل نفوذه وسطوته، الذين كسبهما، عن طريق دعم من أوكلت إليهم مهام تمثيل السلطة، محليا أو إقليميا أو حتى مركزيا، مستعدا لفعل أي شيئ، للحفاظ على مكتسباته ونخوته الاستبدادية، حتى لو اضطره الأمر أن يسوق نفسه ملهما للديمقراطية، وحقوقيا حسب منطقه، الذي ترسخ في ذهنيته الفاسدة، فيوزع صكوك الوطنية حسب تصوره البئيس، ويصبح كل ذي مبدأ وكرامة وخلق، منبوذا، وجبت استمالته، أو يستهدف في حياته الخاصة وفي مورد رزقه، حتى إذا مارس معهم لعبة السياسية، عليه أن يختار بين أمرين، أحلاهما مر، أن يخضع لقواعد اللعبة، لأن لا مكانة "للمتطهرين" أو أن ينسحب، كي لا تشتغل سهام الضرب تحت الحزام في حقه. لذلك، أستحضر بكل تقدير كلمة القاضي الأمريكي تشارلز بيكيرنغ حين قال : تتطلب الديمقراطية الصحيحة مجتمعاً لائقاً، كما أنها تقتضي منا جميعا، وبدون استثناء، أن نكون شرفاء وكرماء ومتسامحين ومحترمين. وختاما أقول : لقد أثارت انتباهي مطالب الإخوة المحتجين بمدينة الناظور، وتذكرت أن المتلازمات في السلوك الفردي والجماعي، التي أضحت جزءا من العلوم، غالبا ما نجمت عن وضع شاد عن الطبيعة، ومناقض للمدارك والمفاهيم الموروثة، لذلك، أستطيع القول بأننا أمام متلازمة تنبذ الديمقراطية، ليس لجوهرها الذي نتطلع إليه جميعا، ولكن، على النحو الذي نعايشه الآن ونكابد بسببه معاناة مريرة، فاستحقت، حسب تقديري، صفة : "متلازمة الناظور، في نبذ الديمقراطية". رئيس المركز المغربي لحقوق الإنسان