في مِثل هَذا اليومِ، السّبت 15 نونبر 2003، توَقّفَ الكاتبُ الدولي مُحمّد شُكري سَليلُ الرّيف، وتَحدِيداً مِن البَلدة الضَاحَوية لاِقليم النّاظور بنِي شيكَر، عَن "الاِزعَاج الجمِيل"، بالمُستشفَى العَسكَري بالرّباط. لقد ماتَ شُكري وقيلَ عنهُ الكثير، "كانَ مُتَوّحشاً" قالُوا، "كانَ يَتعّمد رَميَ القَاذُورات فِي وَجهِ النّاس" اِدّعُوا، وكَان قَصداً "يَتلفظ بمَا لاَ يَتلفظ بهِ الآخرونَ لِكي يَلفتَ الاِنتباهَ اِليهِ" زعمُواْ، أمّا الرّاحل فقَد أجابَ يومًا، وَهو على قيدِ الحيَاة، خلالَ حوارٍ جمَعهُ الصّحافِي المعرُوف الزبير بُوشتَى ضِمن اِصدَار، أنّهُ "لا يعرفُ صَراحةً عمّا يتحَدثُون". الاِغترابُ الدّاخلي، الكِتابَة.. والاِحتِراق رسَمَ مُحمد شُكري وُجوهاً وتحدّثَ عَن عَلاقَات اِنسَانيةٍ في غرابَة مَصيرها، وتعقيدَات تَفَاصيل حيَاتها الكَارثية، ولعّل هذا مَا يُوّحد كلّ الوُجوه المُتعبَة مِثلهُ في الحيَاة بالصدّف، والمُفاجآت، والقَسوة والعَذاب، حَياةٌ مَليئة بالمَوتِ المُنتظر وَقفَ خلالهَا شُكري نفسهُ على حَافة الجُنون المُتكرّر بشتّى أشكالِه. وحِيداً جَاء، ووَحيداً عاشَ، كمَا مضَى اِلى مَجهُولِه الّذي آتَى منهُ وَحيداً، وَكأنه سَخرَ ليسَ فَقط منَ الدّنيا، بَل وحتّى من أناسِها الذينَ يتقلبُونَ تقلبّات جمّة، وَمن ثمّ مَضى مثلمَا تَمضِي الرّيح حَاملةً الغُبار اِلى الآمَاد السّحيقة.. سَحابة سَوداء من الكآبة غطّتْ على وَاقعِه العَاثر، وحَيرة ذاتَ هجيرٍ تلظّى في جُمجُمة شكري المتّرهلة بعوامِل تَعرية زَمن الأخطَاء. كومةٌ من الأورَاق مُبعثرة هُنَا وَهُناك، ونظراتٌ خاطفة سَاهمَة، وَلفَافة سَجائرٍ جافّة مَغروسَة في جيبِ البنطالِ على الدّوام، وتهيمُ به الأفكار في كلّ وادٍ سَحيق. دوّنَ الشُّحرور الأبيض اِضَاءات هاربَة لمَشاهدَ كانَت جَميلة، ومَشاهِد قيل عَنها تَعبقُ برائحَة الفضيحَة ونَتانة الأمعَاء المبيتَة. لَحظة الكتابَة عندَهُ، لَحظة شَاردة تآخذ فوقَ رمضاءٍ حَارقة مَلعونة، قطعَ حَافي القدمينِ مَسَافات تلوَ المسَافات في حُلمٍ لَم تأتِ لهُ نهاية. داهَمتهُ رؤىً ضبابية عن مُستقبلٍ رافضٍ أن يتشيأ، بَعدما تطّلّع اِلى كلّ الأبوَاب فألفاهَا مسدُودة، ليُعانقَ بَعد ذلك التّيهَ والغيابَ، تاركاً الحُضور، فاراً يتلوّى اِلى عَوالم غيَاهبِ الكلمَة الثملَى، اِذ لم يَحضر كامِل الحُضور اِلاّ مَع الكلمَة، فتحوّل حَديثه الدّاخلي المَعجُون بترسُّبات لهجَة البيئة الرّيفية اِلى صَرخاتٍ تكشِف واقعاً آخرَ، خلافاً للمعهُود وفوقَ المُعتاد، واُعتبر تَغريدهُ نشازاً عن صوتِ تغاريدِ السّرب. شهادات كتّاب ناظوريون اِرتأت "ناظورسيتي" بمناسبة حُلول ذِكرى رَحيل مُحمّد شكري، اِستِقاء شَهادات كتّاب وأدباء يَنحدَرُون من حَاضِرة النّاظور ذاتِهَا التي ينتَمِي اِليها الرّاحِل: عبد الله شارق: محمد شكري كاتب ملأ الدنيا و شغل الناس، بكتاباته ومواقفه وسلوكاته المتميزة.. ثار ضدّ النّفاق والخوف والصمت، وكشف حقيقة الإنسان وضعفه وتناقضاته، خاصة في روايته "الخبز الحافي"، التي تُرجمت إلى عدة لغات.. فرغم أحداثها المحلية المرتبطة بأحداث غريبة ومثيرة في حياة شكري، فإنها تنطوي على أبعاد اِجتماعيةٍ وإنسانيةٍ وثقافية هامّة، مَا جعلها تحظى باهتمام وإعجاب عددٍ كبير جداً من القرّاء و النقّاد في العالم. فريد أمعضشو: حينما نتحدّثُ عنِ الكاتِبِ العالَمِيّ محمد شُكْري؛ ابْنِ الرّيفِ، فإنّنا نَتحدّث – في الواقِع – عَنْ تَجْربة إنْسانِيّة وإبْداعِيّةٍ مُتمَيِّزة. فهُو قدْ عانَى مَرارَةَ العَيْش في صِبَاه، في فَضاءَي الأسْرَة والمُجْتَمَع، مِمّا اضْطَرّهُ إلى العَمَل في كَثيرٍ مِنَ المِهَن والأنْشِطة التِّجاريّة الوَضِيعَة، والاحْتِكاكِ بأصْنافٍ مِنَ البَشَر، ولاسِيما مِنَ الفِئات الهَشَّة والمَسْحُوقة. ولَمْ يَتعَلّمْ – بسَبَبِ ذلك – أصُولَ القِراءَة والكِتابَةِ إلا لدَى بُلُوغِه سِنَّ العِشْرين. وقَدِ اخْتارَ شُكْري، مُنذ أوّل نَصٍّ يَنْشُره، في أواسِطِ السِّتّينِيّات، أنْ يَنْحازَ إلى صَفِّ المُهَمَّشين والبُؤساءِ، وأنْ يُعبّرَ عَنْ واقِعِه بكُلّ ما كانَ يُمَيِّزُه مِنْ حِرْمان وقَسْوَة وتَفاوُتاتٍ صارِخَة تَعْبيراً صادِقاً كانَ صادِماً – في أحايِينَ كَثيرَةٍ – للقارِئ؛ لِمَا اتَّصَفَ بهِ مِنْ جُرْأةٍ نادِرَة في التّناوُل والفَضْح. ورغْمَ الْتِصاقِ إبْداعِ شُكري بالمَحَلّي وبالمَعِيشِ اليَوْمِيّ، في طَنْجَة خصُوصاً، إلا أنّه اسْتَطاعَ أنْ يَخْتَرِقَ الحُدُودَ، ويَعْبُرَ الثّقافاتِ، لِيَصْطَفَّ إلى جَنْبِ إبْداعاتٍ عالَمِيّةٍ ذائِعَةِ الصَّيْت؛ بفَضْلِ كاتِبٍ أمْريكِيّ عَشِقَ طنجَةَ، وسَكَنَها زَمَناً .. إنّه بُول بُولزْ. الخضر الورياشي: (محمد شكري) كاتب استثنائي، لا يشبه أحداً، ولا يشبهه أحدٌ.. إنه "ماركة مسجّلة" في الأدب المغربي خاصة، والأدب العربي عامةً.. وقد استطاع بكتابه السيرة الذاتية: "الخبز الحافي" وحده أن يكون أشهر كاتب في العالم، فقد ترجم هذا الكتاب إلى 16 لغة أجنبيةٍ، وبيعت منه نسخٌ عديدةٌ، وفي طبعات متتالية.. وله أعمال سردية أخرى، نالت إقبالاً واسعاً لدى القراء، والشباب منهم خاصةً، وعلى الرغم مما قيل عنه، أحياناً، من كلام سلبي، ونقدٍ قاسٍ، إلا أنه فرض نفسه، وأسلوبه، وأدبه، في الساحة الأدبية، وهو نفسه يقول في "حوار" له: إنه لوْ لم يكن في كتبي ما يهمُّ القراءَ لما اشتروها حتى بأبخس ثمن. باخْتصارٍ: نجح (محمد شكري) أن يكون اسماً أساسياً في السرد المغربي والعربي، وإنْ اختارَ بإرادته أن يكون شيطاناً !! بوزيان حجوط: محمد شكري من العلامات الفارقة في الأدب المغربي الحديث، حيث استطاع بعصاميته المتناهية، وموهبته الفذة أن يركب صهوة شغبه القصصي العاري والواقعي جدا. ويحقق مجده الفني دون غذن أو وصاية من أحد. هكذا عاش دائما مغرداً خارج السرب.. بعيداً عن منطق القبيلة، والولاءات الضيقة، ومنطق النفس الضيق .. محمد شكري عانق حريته باِخلاص شديد لمبدأ ( أنا مبدع حرّ الى آخر رمق ) لم يستسلم يوما، لرصاصات ذوي القربى.. كونه مبدعا بصيغة المفرد.. وأنه ليس تحت رحمة أحدٍ من مبدعيينا وقصاصينا ومفكرينا الكبار بين قوسين. هذا الكائن الخرافي في واقعيته الشديدة في الكتابة، ربّما هي مصدر إلهامه الوحيد أن يجدد ويبدع في إنتاجاته القصصية ذات الصيت الواسع وطنيا ودوليا. باختصار، يبقى مبدعاً وبصمة واضحة في المشهد القصصي المغربي والعربي، وكذلك يبقى محمد شكري عملاقاً في كتاباته، مخلصاً لنهجهِ الفلسفي في الحياة سلوكا وإبداعاً. النهاية يُنهي مُحمّد شُكري اِحْدى رَسائِله المُوّجهَة اِلى الكاتِب المَغربي مُحمّد برّادة، المُدرجَة ضِمنَ كتَاب رسَائلهمَا المُتبادلة "وَردٌ ورَمَاد"، بعبَارة درَامَاتيكية ذاتَ دلالةٍ عَميقة، وهيَ العبَارة التي تصلحُ لكَي تُوضع كنِهاية لائِقة لِكلّ حيَاتِه التّي اِنطفأت وأسدِل عنهَا السّتار، لتطلعَ حِينها العبارة كنهايةٍ في المَشهدِ الأخير: "سلامي اِلى ليلى، قُلْ لها بأني ملعُون، اِلاَّ اِذا كانت متسامحةً مع الملاعين، لم يعُد لي ما هو أجمل من الصّمت"، محمد شكري 13 / 02 / 1977 الرباط.