يستمع 'بدر' الى هذه الأغنية الكرتونية "أبرقي أرعدي أبطالا... وعدوك أنبل ... هزيم الرعد"، وهو يحاول تحضير درسه ليشحذ عزيمته، ويقوي همته، ويلهب حماسه، لأنه وبدون سابق إنذار، أصبح يعاني من مقت النفس، و ضيق الصدر، وخواء الروح، و النفرة عن الصالحين و الطالحين. لقد أصبح يكلم نفسه كثيرا، ويلومها مرارا، و لا يتحكم في أخطائه وهفواته وشهواته... هنا وسط هذا الركام الرمادي النفسي الباهت، والذي لا يسر الناظرين، ولا ينصح به من طرف العارفين الأخصائيين النفسيين، يريد أن يطير بعيدا بنفسيته الذابلة الهزيلة، و المبللة ببراثيين الانهيار والانكسار و الاستسلام و الانفلات من الذات و الحياة... لقد أصبح واجما، عابسا، حزينا، شاجنا، مضطربا، مكتئبا، يتلذذ بوحدته، ويعشق انعزاله ، يرتوي من دموع عينيه أمام مرآة حمامه ، التي اكتساها الضباب الدخاني، وبقع الصابون رديء الجودة، ومعجون الأسنان مشكلة بذلك صورة ضبابية و حقيقية لنفسيته و مكنوناته... مرآة حمامه أصبحت عينيه التي يرى بهما واقعه ويفحص بهما جموحه وخنوعه، ليرى ضعفه، ثم يستعيد قوته، ويصلح عفويته. يهمس بصوت ممزوج بنحيب البكاء، وسقوط الكبرياء "حبيبتي لن نتوب...ليس في الحب ذنوبا...بيننا وعد وعهد علام الغيوب، الذي لا ينتهي بالشهور و الدهور". عاد الى مائدة حاسوبه ، جلس بعد أن شعر بإحساس غامض ، عنوانه الشك و الإرتياب ، تعجز الكتب عن شرحه، والقوامس عن تفسيره.... أخذ رشفات حاذرة من كأس شايه البارد برودة نفسيته الرافضة للخضوع، والخنوع التي تحارب الضياع و الاتضاع. حاول جاهدا ان يتابع تحضيره للدرس، وسط ثقل أحاسيسه، وشلل حركاته، وتنمل أفكاره. إنه الدرس الأول في حياته كأستاذ زائر جديد في الكلية ، ويريد أن يكون جسورا مغوارا، شديدا صنديدا بمظهر المثقف الدقيق اللبق...اوغرت الوحدانية صدره وكسرت كينوناته، وحطمت قلبه، وعقله خصوصا في هذا الليل الحار، وسط طنين البعوض والذباب...بكاء طفل أحد الجيران زاد قيح صدره وأحبط نفسيته المرهفة الفتية . في هذه الأثناء، قرقرت بطنه التي لا يعصى لها أمرا ، ولا يفشي لها سرا ، فنهض متوجها الى مطبخه الذي وجد فيه بيضة، و بعض الطماطم التي أعد بها عشاء سريعا خاطفا، وسط أحاسيس، حوصرت بالأوهام ، والوساوس والقلق والمخاوف. ينتظر الآن بنهم كبير و شغف جامح مرير، الاتصال الليلي الروتيني من فتاة، لا يعرف إن كان يحبها حب المخلصين ، أو يعشق جسدها عشق الشهوانيين، إنه يجدها فرصة سانحة، و نافذة مناسبة لاكتشاف أعماق محيط الفتيات، والغوص في بحور العازبات. مكالمات ليلية طويلة مكنته من تجاوز حدوده، وفك عقده التي شكلها الدهر و نوائبه. يتحدث مع فتاته بلغة منثورة بصيغة مسرودة مفهومة، تحدث بها الأمازيغ و العرب و العجم. مكالمات طويلة تمتد من منتصف الليل، حتى صيح الديكة، يجيب فيها عن أسئلة بلهاء، ومسائل خرقاء، ومكامن الأرزاق في الأرجاء. يصبر على غمزها ولمزها، وعلى أفراحها وجرحها، حتى يجني عسل جسدها، دون أن يكسر خلية جسمها. اللحظة أصوات كثيرة تتردد على مسمعه: كلاب قلبه الحقيرة، وذئاب فؤاده الكثيرة ... يعرف في طيات نفسه، و قرارات عقله أن هذه المكالمات تثقل ميزان سيئاته و تخفف ميزان حسانته... أستطاع أن يقنعها في ليل بهيم بمساعدة الشيطان الرجيم أن الكلام المأثور، والوعد المستور، خير من عقد نكاح في أروقة المحاكم منشور... يدرك في نفسه أن الدنيا ممر وليست مستقرا، ربما يعاقب فيه يوم تشخص الأبصار وتنكشف فيه الأسرار، لكن حلو كلامها وبريق عينيها يجعلانها الأنثى النجلاء، الوطفاء، الشهلاء، لم تسعفه أن يتمسك بقارب الصبر ...يشعر برجفة مفاجئة ، وهلع زلزلا قلبه، وحركا سريرته، فأصبح فؤاده يتلظى نارا، شعاره الآن "الحب للشجعان أما الجبناء تزوجهم أمهاتهم' ... كان عفيفا نقيا، طاهرا وتقيا مؤمنا بارا، حتى تلون بألف لون بأكاذيب وحبائل حبها المشؤوم، ووعدها المزعوم... فجأة أحس بالتيه و الضياع، وازداد ارتباكا و اضطرابا عندما أخبرته بأنها قادمة إليه لزيارته غدا في مدينة دراسته، خاصة أنه يملك دراهم معدودات لا تكفي لغذاء واحد... تفقد بعينيه أرجاء غرفته ، فرأى كتبا مبعثرة وأوراقا منشورة، ونصف كأس شاي زاد احمراراه، ونقص مستواه ... أمامه يوم عسير غير يسير، عليه أن يثبت رجولته، ويعدل سلوكه ويوقف انفعاله، ويصوب نطقه ، ويظهر بمظهر الشاب المثقف الوسيم والرجل الشهم، ذي العقلية المتفتحة ليخفي ثقافته الريفية، الذكورية الرجولية. وسط محطة موقف الحافلات، ينتظر وصول حافلة 'نجم الشمال'، حيث هدير المحركات يصم الأسماع ويربك آذان الجميع ، ويجبر الناس على رفع الإيقاع. وصلت الحافلة، وازدادت نفسه ارتباكا واحتباسا... تترنح أفكاره الآن كأمواج البحر بين مد وجزر، وبين فرح وقرح... لقد تسممت أفكاره الآن، فازداد سماجة ولجاجة ... يجب الآن أن يكون جالسا على كرسيه، لينبش في نواقر بطون الأفكار، والعلم بدل التسكع وهدر الوقت في كلام حلو لا ينفع في الدنيا، ولا يشفع في الآخرة... اتصال داخلي من أعماق نفسه، وغياهب كينوناته، يخبره أنه بدأ يهتك الأستار، ويخالف فيها الأنوار، وسيعاقب يوم تشخص فيه الأبصار... يخبره هذا الاتصال أن الأيام تدور، والأماني قد تفور، وربما الدور الآتي في ابنته المستقبلية مستقر ... بدأ لمسافرون ينزلون من الحافلة، جلهم طلبة و طالبات عمال و عاملات... أخيرا، وقعت عيناه على وجهها الدائري الشكل، وقصر رموش عينيها، التي زادها قلم تكثيف الرموش سوادا وطولا...حاجبين هلاليين، زادا من تحديد وجهها وإبراز جمال عيونها...حبة خال أسفل فمها مع أسنان بيضاء بسلك التقويم... قصيرة محجبة بحجاب أسود، سود أفكاره وعتمة نفسيته... يمسك بيده وردة حمراء، بدأت في الذبول، أهدتها له فتاة حسناء مع اخت شقراء ...كان في استطاعته أن يشم رائحة عطرها، وسائل غسيل ملابسها، وصرير حذائها. ابتسما ابتسامتين خفيفتين، لايعلم يقينا أن كانتا مصطنعتين ،أم حقيقتين...أحس برطوبة ونعومة يدها ، بعد مصافحة مصطنعة، رغم علمه بتحريمها من طرف فقهاء المذاهب الأربعة... بدأ يتصنع كلامه ويزيف مشيته ويلجم نظراته، التي أضحت تواقة لفحص، واكتشاف معالم وتضاريس جسدها، ليظهر بمظهر الرجل العفيف والإنسان اللطيف...يبحث الآن في دفتر أفكاره، وسجل أفكاره عن شيء مضحك ليلهب ابتسامتها، ويصطنع سعادة فورية ومجانية، مع مراعاة مبدأ الكلام المباح. يمشيان في اتجاه حديقة عامة قرب الجامعة، ليتهرب من أماكن المطاعم الفخمة والأطباق القيمة .... قدم لها نصف درهم من بذور حب الشمس، مع إبتسامة حذرة وماكرة، متحدثا عن منافعها ودورها في الحفاظ على ليونة الجلد، ومنح البشرة الإشراق والنضارة، والوقاية من أشعة الشمس الضارة...يرمقها بين الفينة و الأخرى بنظرات خاطفة سريعة، ليرى تضاريس حمالة صدرها وطريقة شد شعرها... . عاودا المشي في أزقة ودروب الحي، بعد أن قدم لها وجبة رخيصة الثمن، كثيرة الدسم، و سيئة الطعم، بعد أن رفض أن يأخذ وجبته متعللا أنه يتبع حمية صارمة، و نظاما غذائيا مضبوطا، ليبدو حميد الفعال، طيب الخصال، كثير الجمال... يحاول جاهدا أن يبعد نفسه عن الذين أدمنوا النميمة، ونسج الإشاعات، ونشر الترهات... بدأت الشمس تختفي بين الأفق، وتتلون الأزقة بلون واحد وهو لون الغروب، وبدأت خيوط الظلام بالتسلل، والستار الأسود بالانسدال. يعلمه الغروب الآن أنه لا بد من الرحيل، سيرحل عنا من نحب، وسنرحل يوماً عن من نحب...لكل بداية نهاية، وأن فرصته قد لن تكرر...حاول سرقة قبلة خاطفة، لكن صوت القرآن يتلى من أحد المنازل ووليمة طعام لإحدى الجنائز أوقفه، فأنهاها بلطف و بضحكة مهذبة...تذكر صلواته التي فتاته هذا اليوم فقال له الشيطان الرجيم : لا تخف على الفريضة فإن الأوقات عريضة. يحيي الناس، ومعارفه بإبتسامة صفراء أشد من ألف لعنة، و سط نظرات الطلبة و الطالبات التي أضحت عليه أثقل من ألف شتائم... لم يعد قادرا على سماع أراجيفها فسرق قبلة ثانية أوقفه آذان المؤذن بواسطة الميكرفون... "الله أكبر". تيقن الآن أن سهاما غيبية توقف مغامراته الشهوانية، وتقلباته العدوانية... هل تزوجته جنية عاشقة ساحرة قوية؟ لا يعرف إن كان وهما وخيالا، أو حقيقة جالية... كره أصله وفصله، فتعلل الآن، فكره و قدمه. رغبتها في الذهاب فلق ظهره، وكسر رجل ناقته العرجاء، ففقد لباقته في الأرجاء، فقال لها بصوت قوي شديد: "أحبك". كلمة خرجت كالرصاصة، فجرحت إحساسه، و قتلت عفويته و أدمت قلبه، وألهبت فكره ، و أيقظت بصره و بصيرته. كان احمرار خدها حديقة، وخجلها سياجها فسكتت و ألجمت عن الكلام المباح حتى الصباح... عاد الى منزله واجما عابسا، لم يكترث لكلام المارة، وضجيج الولدان، ولا لتهانئ صاحب الدكان على الفتاة الجميلة التي كان بصحبتها. كغير عادته، اشترى بيضتان وخبزة، دون أن يدفع ثمن مشترياته طالبا أن يضيف ذلك الى دفتر ديونه، دونما ترديد عباراته الروتينية "النور و العتمة " و " البحر كويس يا ريس". ذهب الى غرفته الواقعة في سطح المنزل فوق الدكان، فارتمى فوق سريره الأرضي غير المرتب، ووسادته العالية الرطوبة... نظر إلى كأس شايه، الذي ازداد احمرارا مائلا الى السواد فوق مائدة حاسوبه وكتبه ... رمق بنظراته سقف غرفته الرطب المليء ببقع سوداء أحدثتها الرطوبة وزيارات الشمس المحتشمة، مشكلة شاشة لعرض ذكرياته، و دفترا لكتابة أفكاره... يتكاسل الآن عن صلواته المفروضة، حيث ثقل جسمه ، وخارت قوة جسده واضمحل إيمانه...ينظر إلى شاشة هاتفه فيرى رسالة حبيبته "شكرا على كل شيىء وعلى كرم الضيافة "... ابتسم ابتسامة مرة، فضيافته هاته ستزيد في دفتر ديونه، وتنقص دراهمه، وتجبره على التقشف، وقد يسوء حاله ويضيق عيشه، ويتقشف في مطعمه وملبسه ... يبدأ الآن مسلسل المكالمات الطويلة الليلية و النهارية معها، فتحدث وأبدع، وكذب وصدق، ورواغ وزين الواقع، معبرا لها عن حبه الكبير و وقته المرير دونها... يخبرها أنها شريكة روحه لا حياته، وأنها قريبة من قلبه، تناغمه بحروف اسمها، وأن قلبه كلما نبض ينطق باسمها، ويشعر بوجودها. هذه المكالمات الهاتفية، أفرزت، وعدا مشتركا بينهما، وأن يكونا معا في حال وترحال هذه الدنيا، ونصب نفسهما زوجين... تنطلق عدادات الأيام والشهور والساعات، و الارتباط العاطفي بينهما يزداد قوة و متانة، و حدة وصلابة، حتى أحس ببرودة اتصالاتها، وتراجع انفعالاته، أو اختفاء رسائلها. لم يهتم بذلك، و قال في طيات نفسه، إنها فقط تشنجات عاطفية، و تقلبات مزاجية نسوية. في إحدى الأيام الموالية وفي فترة الاستراحة بين الحصتين، يتلقى مكالمة منها طقطقت أسنانه، وزلزلت أعصابه، وكسرت نفسه، وأسقطت دموعه "لقد تزوجت" يهرول مسرعا، نحو إحدى دورات مياه الكلية، ليطلق العنان لدمعه، و بكائه. تنتظره حصة أخرى، حاول استرجاع عافيته وكبح آلامه ... يغمض تاج جفنتيه فوق عينيه العسلتين المنكسرتين، ويكتم صرخا محرقا في قلبه. في غمرة تخبطاته العصبية ، عقد تاج حاجبيه مغمغما بصدمته. لقد احتبس لهاثه وازدادت دماء وجهه هروبا من مجرد تخيلها متزوجة ... يغمض عينيه بوجع داخلي مضني، انعكس على تعكر ملامحه. حرج مسرعا متوجها إلى بيته، فرغم الانتفاضات العنيفة التي تضرب جسده كزلازل متتالية، وما إن اختفى على الناس حتى عجزت ساقاه عن حمله، فارتمى ساقطا على الأرض... هاجمته بقايا صور لها في ذاكراته، و خرج من حلقه تأوه مكتوم، وصوت محموم وعيناه تذرفان دمعا قليلا شحيحا مالحا، على استحياء، وعقله يحاوطه بخيالات مرة وذكريات مريرة... يسند رأسه على حائط غرفته مطالعا سواد السقف في غرفته التي عمها الظلام، إلا من ضوء خفيف قادم من نافذة صغيرة، إنه الآن أسير ركام أفكاره المتناحرة بسكاكين الغدر... أصبح قلبه مغلولا وعقله مشلولا. أصابعه لازلت على عادتها تعبث متحسسة شاشة هاتفه، لعله يجد رسالة او مكالمة منها، فحرر نفسا ساخنا كأنه دخان ناتج عن لهيب مؤذ. أصبح حبها ممزوجا بحقد دفين، لقد قتلت الحب، و الود بمقص الغدر و الخيانة. يعلم يقينا أنها ستعاقب في محكمة غيبية قضاتها الأيام و الشهور، تحت قوانين شريعة عدالة السماء.