كانت تنظر للتلفاز بانتباه شديد تحوّلت بذلك إلى تمثال رخامي يضاف إلى مجموعة أثاث البيت ، كلّمها الزوج المهموم و السعيد ظاهرا طالبا منها إحضار فنجان قهوة فنكهتها تُذهب عنه تعب اليوم ومعاناة الطريق التي يسلكها يوميا لكنها لم تجبه، فهي مذهولة منبهرة واجمة أمام الشاشة الصغيرة منخرطة في تغيير هذه الفضائيات اللعينة بالريموكنترول الذي بيدها ، ثم كلّمها عن اليوم الشاق وما حدث له مع موظفيه الذين حذروه من إضراب في الأفق، ثم بعد ذلك عن حاجز الدرك في الطريق السريع إلى عملية التفتيش التي تعرضت لها سيارته، وأكمل في سرد أحداث يومه بتشويق دون أن ترد عليه كأنها بها صمم: وصلتني اليوم مراسلة تطالبني باقتراح بعض الموظفين لترقيتهم. .......... على فكرة الخضار التي جلبتها معي اشتريتها من الحقل المحاذي للطريق السريع، تعلم ما معنى أن تشتري الخضار من البستان دون السوق. ............. حتى صديقي لحسن أشترى نفس النوع و نفس الكمية التي اشتريتها، قال لي بأن زوجته لا تقتصد في المعيشة و تسرف كثيرا ، و أشتكى لي أيضا فشلها في الطبخ، ولأنه يصبر عليها خوفا من مزاجها العصبي جراء عملها ، تأتي متعبة من المستشفى الذي تعمل فيه كطبيبة أطفال ، وقال لي أنها فرّطت في واجباتها، هو من أخبرني و دون أن أسأله. ........... سلمى ألا تسمعني؟ .............. كان يتكلم مع زوجته الخاشعة في تلك الإعلانات؛ هو لا يغضب فهذا يحدث معه كل يوم جديد، هو يتسلى من خلال هذا البوح و الفضفضة الفارغة لُينفس عن روحه الذي أصابها الملل والقلق، ولِيُنْزِل درجة الضغط الذي يكاد ينفجر من خلاله؛ لقد ألف زوجته ويعتبرها صورة ديكور متحركة، تظهر له الآن تمثال رخامي وهي تشاهد التلفاز، وإنسانة مملة حين تثرثر بطلباتها حول حاجات المنزل و الذي لابد منه من مستلزمات؛ أو حين تبدأ في نميمتها و غيبتها للجارات و الصديقات القريبات، حتى أنها لا تنسى أبدا ما يحدث لها في الأعراس و المآتم، لا تنسى أبدا الحلي و الجواهر والألبسة التي رأتها على أجسادهن. حين تبدأ هي بالثرثرة يسكت هو أو يصاب بالصمم و تثقل أذناه عن سماع كلامها وكأنه ينتقم و يُرجع المعاملة بالمثل، في الحقيقة هو يتحجج بكونه كلّمها و هي لا تأبه لكلامه ليهرب من قائمة جديدة من مطالبها التي لا تنتهي و التي أرهقت كاهله و جعلته يصرف أجره و يقرض المال من أصدقائه قبل نهاية الشهر. تتمكن الإعلانات من إقناع سلمى و مثيلاتها من النساء بشراء تلك المنتجات المعروضة على الفضائيات ، حوّلتهم إلى مستهلكين، سلمى تستطيع إقناع زوجها بشراء هذه المنتجات ولا شك، و كثيرات هن النساء شبيهاتها اللواتي يعرفن من أين يؤتى الرجال لو رفضوا الخضوع لذلك. كانت مقدمة برنامج الإعلانات فتاة فاتنة فائقة الجمال، استطاعت أن تستدرج سلمى وأدخلت في رأسها فكرة إمكانية العيش وفق هذه المثل و الأحلام ، بل تؤمن سلمى أنه بإمكانها الوصول لتحقيق صورة باهرة لمظهرها وأن تعمل على بقاء بعض جمالها الذي يذوب ويذوى. الزوج السعيد ظاهرا و المهموم باطنا لا يقوى على النقد و الانتقاد وما عساه يفعل المسكين في ظل هيمنة سلمى الزوجة التي تؤكد له فعالية المستحضرات التي تطبّقها على مظهرها ، على وجهها و بشرتها، تحكي له قصصا خيالية عن حسد الجارات لجمالها و أسئلتهن عن سر تلك الأدوية و العقارات والماكياج، وعن الأثواب التي سلبت عقولهن وأسئلتهن من أين أشترتها و عن الموديل الذي خاطته من كاتالوك فرنسي، مما أعطاها القدرة على اللعب بعقول جاراتها و الظهور أمامهن بالمثقفة التي تملك ثقافة اللباس والمظهر و العيش. سلمى الزوجة السعيدة تبحث في الفضائيات يوميا مهملة تقريبا كل واجباتها المنزلية و حقوق الزوج المهموم السعيد ظاهرا، تشاهد التلفاز أكثر مما تنام ، لقد تحوّل واقعها إلى حالة مرضية من خلال ما تعرضه على الزوج السعيد الذي طار عقله ، إنها تنصاع وراء الإعلانات لتحقق مثاليتها لتبقي وافر حظها من الجمال دون غيرها، يجب أن تحقق رغبتها في الحصول على كل هذه المستحضرات التي ظهرت حديثا. سلمى تعيش ضغطا نفسيا عصيبا بسبب هذه الفضائيات التي تحذّرها من نحول جسمها و سقوط أسنانها وانكماش بشرتها والبقع التي سوف تظهر على وجهها وتساقط شعرها و أهدابها، حالة الاستنفار هذه تجعلها ترفع مستوى الخطر في منزلها وأول الضحايا الزوج السعيد ظاهرا. ولأنها زوجة الرجل المهّم و المسئول الكبير وجب عليها أن تكون امرأة حداثية تلبي بحضورها الدائم دعوات أصدقائه و المقربين منه، ولأن الرجل المهموم و السعيد ظاهرا يمتهن السياسة أيضا فهي تذّكره بأن الجميع يبحث عن شيء يعيبه بخاصة الصحافة التي تهتم لأمر نساء الساسة و المسئولين الكبار أمثاله. يقول في نفسه: أيتها اللعينة تعرفين كيف تتلاعبين بالمشاعر، تعرفين مفاتيح الأبواب لتحقيق رغباتك، أيتها اللعينة. و الحقيقة فإن سلمى فاشلة في حياتها المهنية و الزوجية و المنزلية فقد عملت على إخفاء هذا الفشل من خلال التفنن في تجارب المستحضرات على جلدها و بشرتها؛ وفي ريجيم تغذيتها؛ المؤكد لم تكن سلمى وحدها فريسة هذه الظاهرة بل بعض جاراتها من مستواها أو ما دونها، و إن جو المنافسة بينهن يعرّضهن أحيانا كثيرة إلى مشاحنات ونظرات الاحتقار و النميمية و الغيبة و إقامة تحالفات و تكتلات و إخفاء أسرار مستحضراتهن، هذه الإعلانات التي تعرضهن للفرقة و الانقسام والمكائد و الكمائن. لا تغادرها المرآة التي تخفيها دائما في حقيبتها اليدوية الخاصة مع أحمر وبنفسجي الشفاه وكحل العيون وبعض المستحضرات الباهظة الثمن والعطور الباريسية، تحدّق كثيرا في صورتها؛ ولقد دهست يوما شيخا في الطريق حين راحت تنظر لحاجبيها شديدا السواد اللذان على هيئة هلال في مرآة السيارة العاكسة. في غرفتها مرآة كبيرة بجنب الكوافيز، في الصالون مرآة أكبر عاكسة، وفي الممر مرآة أخرى و بالقرب من الباب الرئيسي مرآة صغيرة ذات بعد ثلاثي بلون باهت، في الحمّام مرآة صغيرة مصقولة، كل هذه المرايا الجميلة و بالأحجام المختلفة تجعلها ترى نفسها كلما مشت أو جلست أو تحركت ومن خلالها تراقب نفسها وكأنها تعمل تمثيل حصري مستمر، لتتدرب على الأدوار التي يجب أن تتقنها خارج المنزل و بخاصة في الحفلات و المناسبات الكثيرة التي تدعى إليها و زوجها المسئول المهموم السعيد ظاهرا. أحبت قوامها و جسدها وبشرتها و أهملت زوجها وكل ما يدور من حولها من أمر العائلة ، بل إن العائلة لا تلتقي بها إلا في الأعياد الدينية والأفراح، لا يوجد لها أبناء و قد أقنعت زوجها بأنه من المبكر إنجاب الأولاد فأعبائهم يجعل شبابها يزول بسرعة و صدرها الجميل وحلمتاها المنتصبتان تتحولان إلى ضرع بقرة حلوب ؛ يصبر الزوج المهموم السعيد ظاهرا على أمل تغيير طبعها وهو الذي أمتثلّ لشروطها قبل الارتباط بها، طامعا في شرف نسبها وفي مركز أبيها المرموق ذو الحظوة . لقد قادته أحلامه إلى أن يصير مسئولا كبيرا بعد تدخل حماه وتوسطه له مع مسئوليه، تحقق الذي حلم به بالفعل، ورغم الذي حققه فهو أسير الخدمة الذي قيّد نفسه بها، لقد وجد كبريائه يصغر يوما بعد يوم وهو لا يقوى على مواجهة هذا الجحيم ، وهذه المطالب وهذه النرجسية التي تتفنن فيها زوجته العزيزة على قلبه ظاهرا و المقيتة باطنا. سلمى الزوجة لا تتوانى في إحراجه مع زملائه و معارفه و أصدقائه و حتى مع عائلته فلا تكاد يوما تتوقف عن الكلام و الافتخار بجمالها و شغف الناس و الشباب بها في زمن مضى ناسية أنها صارت في عصمة رجل. هي لا تحب أحدا إلا الإعلانات التي تحافظ بها على نمط معين من الحياة التي يبقيها كبيرة في عيون حاسديها من النساء العازبات و المتزوجات و حتى العوانس فهي تقي نفسها بكثير من التفاهات الموضوعة على صدرها من الذهب على هيئة العقرب و اليد بخمسة أصابع والمفتاح، ودبابيس على شكل إبر من الشوك. ولقد زاد تعلقها بما تهواه في نفسها، وطال حزن زوجها المهموم و السعيد ظاهرا وبدأ كرهه لها، رأى فيها غطرسة وتكبرا وخيلاء وتَفَرْعُنًا يمشي على الأرض يزداد، لكنه في شطر من قلبه يحل ويذوب في ذاتها فينسى كل تلك العيوب ، ويمنحها مزيدا من الفرص والأعذار أو هكذا يخيل إليه، أما هي فترى ذلك ضعفا فيه وعبودية لها وليس صبرا وهي سعيدة بذلك أشد السعادة ولا تخجل بالقول لصحيباتها: زوجي يتبعني في كل شيء إنه يدللني و هو المطيع. أقنعته أن يشتري لصالون البيت الكبير مرآة كبيرة تعلّقها في السقف حتى تزيد في رونقه ، وحتى تستأنس بصورتها الجميلة بدل صورة الخادمة اللعينة التي لا تكف عن شتمها و الإساءة لها والتفاخر عليها؛ فهي تكره كل من لا يملك بعض مميزات و خاصيات الحُسن والجمال، وكالعادة امتثل الزوج السعيد ظاهرا لطلبها وقدّم مواصفات المرآة التي اختارتها زوجته المبجّلة . الزوج السعيد ظاهرا كان راجعا كعادته من عمله بصحبة صديقه لحسن ، وهذه المرة كان سعيدا حقا و هو أول يوم في حياته يشعر بهذه السعادة و لا يدري سببها، ولأنه لا ينسى الفاكهة التي تشتهيها سلمى والتي تلّح عليه دائما حتى لا ينساها كلما هام بالخروج في الصباح إلى عمله، وهو يخاف أن تتحول العشية إلى صراخ وخناق داخل البيت، والحقيقة يمكن أن ينسى العالم إلا فاكهتها. قرع جرس الباب، انتظر قليلا، لم تفتح الخادمة كما العادة، و لا حتى سلمى، أخذ مفتاحه من عليقته التي كانت معلّقة بحلقة سرواله، أدخل المفتاح في ثقب الباب ، كان الباب الخشبي الكبير و المتين مغلقا من الداخل، أرتبك و ارتجف، ومن ثمة جالت أفكار غريبة خبيثة في رأسه، بعصبية و غضب كسّر الباب بركلة من رجله، اتجه صوب صالون البيت الكبير. كانت سلمى مستلقية على الأريكة الجلدية وشظايا الزجاج تملأ المكان وشظية كبيرة مغروزة في صدرها، رفع رأسه إلى السقف لم يرى إلا لون الدُهن الذي كانت المرآة قد أخفته زمنا ، المرايا التي نبتت في الجدران كلها مكسورة ، ولا أثر للخادمة، وبدا الزوج السعيد حقا اليوم ظاهرا مهموما؛ وهاتف الشرطة في الحال دالا على الشارع ورقم البيت.