سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الباحث بولعيون محمد يحاضر في مؤتمر دولي حول المنظومة الصحية المغربية بين تحديات نقص الموارد البشرية وضعف الخريطة الصحية في سياقات المخاطر الوبائية والبيئية
في مداخلته بعنوان "المنظومة الصحية المغربية بين تحديات نقص الموارد البشرية وضعف الخريطة الصحية في سياقات المخاطر الوبائية والبيئية" ضمن أشغال المؤتمر الدولي المنظم من قبل كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية جامعة مولاي إسماعيل بمكناس في موضوع التغييرات المناخية، نذرة المياه السياسات العمومية الصحية في المغرب وإفريقيا: رؤى متقاطعة". تحت الرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادس -حفظه الله- أكد الباحث في مجالات علم الإجتماع الطبي والبيئي والحضري محمد بولعيون في مقدمة مداخلته أن طبيعة التطور السوسيواقتصادي والحضري بالمغرب أفرزت مشكلات صحية مختلفة ومتناقضة، فمن جهة على الخدمات الصحية مواجهة أمراض التخلف، والوقاية منها (أمراض الفقر) ومن جهة أخرى مواجهة مشاكل النمو (أمراض التحضر). هاتان المجموعتان من الأمراض رغم تباعدهما المنطقي، فإنهما في حالة المغرب ومجموع الدول المسماة بالدول السائرة في طريق النمو تلتقيان في بيئة واحدة تجمع بين "التخلف" و"النمو"، "هي بيئة التحضر المرضي"، ومن هنا يصبح الارتباط بين التحضر والاشكالية الصحية ارتباطا وثيقا، وتصبح الصحة قضية حضرية بامتياز. يتجلى هذا الارتباط في تناسب الوضعين الحضري والصحي وتأثيرهما المتبادل. فكلما كان الوضع الحضري أفضل وإلا انعكس ذلك بالإيجاب على الوضع الصحي، وحين يكون الوضع الصحي متدهورا فإن ذلك يعبر كذلك عن خلل في الوضع الحضري. إن التحضر هنا نتناوله انطلاقا من معناه الشمولي، والذي يعني أيضا تناسب بين الازدياد العمراني والبشري والخدمات الصحية اللازمة، كما أن مفهوم الصحة نتناوله كذلك بمعناه العام: الصحة الجسدية والاجتماعية والنفسية والوقائية ثم البيئية. وفي المحور الأول الذي تناول فيه تشخيص المنظومة الصحية المغربية في ضوء الاستراتيجيات القطاعية الصحية أشار إلى أن البعد الصحي كان حاضرا في السياسات العمومية بالمغرب منذ الاستقلال، بقوة كإحدى القضايا الأساسية والمستعجلة المطروحة على المغرب المستقل، ولعل ما يؤكد هذا الاهتمام الذي أعطي لهذا القطاع هو انعقاد الندوة الوطنية يوم 18 من شهر أبريل 1959 تحت الرئاسة الفعلية للمغفور له محمد الخامس وبمشاركة كل الفعاليات المهتمة بالقطاع بما في ذلك الأحزاب السياسية وقد عملت تلك الندوة على رسم استراتيجية وطنية، حددت ثلاثة مبادئ كإطار مرجعي لهذه السياسة، وهي: - الوقاية (الخدمات الصحية الوقائية) وذلك بتنظيم حملات صحية ودعائية لتلقين الجماهير مبادئ العلاجات الأولية ومكافحة الأمراض المعدية... - العلاج (الخدمات الطبية) وذلك ببناء مستشفيات وتجهيزها مع إعطاء الأولوية للمجال القروي، وإعادة النظر في مجموع الجهاز الصحي وذلك بتكوين الأطر الطبية والشبه الطبية وفتح كلية الطب ومعهد لدراسة شؤون التغذية. - الدعم والمساعدة (الخدمات الاجتماعية). ولتحقيق تلك المبادئ اعتبرت الندوة أن: - الصحة حق من حقوق المواطنة؛ - الصحة من مسؤولية السلطة العمومية؛ ادماج استراتيجية الصحة ضمن سياسة عامة ومنسجمة كما يرجع ذلك الاهتمام كذلك الذي أعطي لهذا القطاع إلى حضور البعد الصحي في جميع مخططات التنمية التي عرفها المغرب وهي كالتالي: المخطط الثنائي 1958-1959 والمخطط الخماسي 1960-1964 والمخطط الثلاثي 1965-1967 والمخطط الخماسي 1968-1972 والمخطط الخماسي 1973-1977 والمخطط الثلاثي 1978-1980 والمخطط الخماسي 1981-1985 ثم المخطط الخماسي 1988-1992 وأخيرا المخطط الخماسي 2000-2004. حيث أكد أن تلك المخططات قد جاءت أساسا لتجاوز الاختلالات التي كانت تعتري القطاع الصحي بالمغرب ومنها تمركز أهم المؤسسات والتجهيزات الصحية والموارد البشرية في المدن كالدارالبيضاء والرباط والقنيطرة... وإعادة هيكلة وتنظيم القطاع الصحي ومحاربة الأوبئة وتجاوز النقص المسجل آنذاك في الموارد البشرية منها الأطر الطبية والشبه الطبية والإدارية. وتوسيع الخريطة الصحية وتوفير التجهيزات البيوطبية ودون سرد تفاصيل مخططات التنمية يمكن أن نستنتج أنه باستثناء برنامج التمنيع (التلقيح) لم تتمكن سياسة الوقاية أن تخفف من حدة المشاكل الصحية الناتجة عن تلوث البيئة وعن وضع حضري مختل وغير سليم. وهذا العجز ظل مستمرا نظرا لوتيرة النمو المرتفعة من جهة ولكثرة الطلب على الخدمات الصحية العصرية من جهة أخرى التي تعتبر مظهرا موازيا للنمو الحضري، إحدى تجليات الثقافة الحضرية التي لها امتدادات خارج المدارات الحضرية مثل باقي مظاهر التحضر. كما أنه لم تتمكن تلك المخططات من تحقيق أهدافها المسطرة خصوصا بعد ولوج السياسة الاقتصادية للدولة المرحلة التي سميت بمرحلة التقويم الهيكلي التي تميزت بالتقشف فيما يخص القطاعات الاجتماعية (التي وصفت بغير المنتجة) وسريان هذه السياسة على قطاع الصحة العمومية. والتي أدت إلى فوارق واضحة بين الأقاليم والجهات وإلى نقص كبير في جودة العلاجات المقدمة والموارد البشرية العاملة في المجال الصحي، ورغم هذه الاختلالات المرصودة فإنه يمكن لنا أن نسجل نجاح بعض البرامج الصحية خاصة منها البرنامج الوطني للتمنيع الذي مكن من وقاية الأطفال من بعض الأمراض الخطيرة والفتاكة كشلل الأطفال والدفتريا والسعال الديكي والتيتانوس... والقضاء على العديد من الأمراض والتحكم في أمراض أخرى إلا أن عددا أخر من الأمراض تواصل تسجيله في مناطق متفرقة بسبب الاختلالات المسجلة على مستوى الخدمات الصحية (النظافة، الماء الصالح للشرب، تطهير السوائل والمواد الصلبة...)، مما يؤدي إلى تفشي الأمراض المعدية. ونتيجة توالي النداءات بإصلاح القطاع الصحي وما عرفه المجتمع المغربي من تغيرات عميقة خلال السنوات الأخيرة، وما ترتب عنه من تحول جذري في المشهد الذي يعمل ويتفاعل في إطاره القطاع الصحي، ونظرا للعلاقة الوثيقة بين الاحتياجات الصحية بالمستوى الاجتماعي والثقافي والاقتصادي وبتقدم الطب وتطور وسائل الإعلام والاتصال المتوفرة، ولتزايد المتطلبات في هذا المجال لدى الساكنة التي تسعى دائما للوصول إلى خدمات صحية ذات أداء وجودة في المستوى المنشود ترقى إلى تطلعاتها، صدر دستور 2011 الذي جعل الحق في الولوج إلى العلاجات الصحية من بين الحقوق الأساسية، وعلى هذا الأساس سيتم رسم خريطة محكمة للقطاع الصحي وستسطر الحكومة أهدافا دقيقة للمنظومة الوطنية للصحة وترجمتها في الاستراتيجيات القطاعية للصحة، وهكذا انخرط المغرب في حركية سياسية صحية عميقة على غرار الأنظمة الصحية المتقدمة عبر العالم. وبعد أن عدد الاستراتيجيات القطاعية للصحة ابتداء من استراتيجية 2008-2012 إلى الاستراتيجية القطاعية للصحة 2017-2021 ومضامينها، والتي استطاعت أن تحقق مجموعة من الأهداف المتعلقة بتنزيل مقتضيات الخريطة الصحية، وذلك بإعداد دليل خاص بالمخططات الجهوية لعرض العلاجات ومواكبة وتأطير الجهات لإعداد مخططاتها الجهوية لعرض العلاجات مما سيساعدها على خلق دينامية جهوية جديدة في المجال الصحي. مع تقدم واضح في بعض المؤشرات التي تم تحقيقها، مثل ارتفاع متوسط الأعمار إلى حوالي 75 سنة وتقلص نسبة الوفيات عموما، وبالأخص نسبة وفيات الأمهات التي تراجعت ب 35% بين 2010-2016 إضافة إلى التحكم في الأمراض المتنقلة واستئصال بعضها ومن بينها مرض الرمد الحبيبي، كما عرفت مؤشرات الولوج إلى العلاجات في القطاع العام تحسنا ملحوظا رغم كونه مازال دون المستويات المرجوة، حيث أن ارتفاع نسبة التكفل عموما بالأمراض المزمنة (مرض السكري لم تتعدى نسبة التكفل به 40% و50% بالنسبة لمرض القصور الكلوي...). إلا أن ذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يحجب النقائص التي تشوبها والتحديات التي تعترضها، والتي من أبرزها: استمرار النقص في العلاجات الأولية بنسبة 0،6 استشارة طبية لكل مواطن سنويا مقابل 2،7 بتونس و6،4 بفرنسا، وضعف نسبة مراقبة الحمل ونسبة الولادة تحت إشراف طبي والتي لا تتجاوز 75% وضعف التأطير الطبي بالعالم القروي والمناطق الجبلية، الذي يعزى أساسا إلى النقص في الموارد البشرية وضعف تحفيزها، حيث كانت لا تتوفر آنذاك إلا على 1،51 مهني للصحة لكل 1000 مواطن في حين كان يجب الوصول إلى 4،45 لكل 1000 مواطن حسب منظمة الصحة العالمية، أو بصيغة أخرى 1389 من الساكنة لكل طبيب و1091 لكل ممرض، كما عرف عدد المهنيين الصحيين ركودا ملموسا لم يستطع مواكبة تطور عدد السكان، ومسايرة التحول الوبائي المتميز ببروز تحد الأمراض المزمنة، وتسجيل تباين كبير في توزيع مهنيي الصحة بين الجهات وبين الوسطين الحضري والقروي، وبالرجوع إلى معايير الخريطة الصحية يمكن تقدير الخصاص آنذاك ما بين 3817 و9195 وما بين 11562 و20537 ممرض. إضافة إلى تسجيل ضعف كبير على مستوى الموارد المالية واستمرار ارتفاع الانفاق المباشر للأسر إلى 50،7 في المائة وهو ما يجب خفضه إلى حدود 25% لاجتناب النفقات الكارثية، إضافة إلى أن الخدمات الصحية في حاجة إلى التجويد وتقريبها من المواطنين، خاصة في ظل التزايد المشروع لانتظارات المواطنين لحاجياتهم الصحية. نقد الاستراتيجية القطاعية لوزارة الصحة وفي المحور الثاني من مداخلته والذي كان تحت عنوان: ملاحظات نقدية حول الاستراتيجيات القطاعية لوزارة الصحة أكد أنه أنه رغم كل هذه المجودات المبذولة فقد تم تسجيل العديد من النواقص والاختلالات على مستوى السياسة الصحية وفي مقدمتها المفارقة الكبيرة بين مضامين المخططات والاستراتيجيات القطاعية للصحة وتنزيلها على مستوى الممارسة العملية، حيث من خلال تتبعنا لمختلف تلك المخططات والاستراتيجيات، نجد أن كل مخطط واستراتيجية ينتقد ما سبقه. كما أن تلك المخططات والاستراتيجيات لم تعمل على تكييف وملاءمة المنظومة القانونية لقطاع الصحة مع متطلبات المقاربة المبنية على حقوق الانسان سواء عبر التنصيص على الخدمات الصحية كحق من حقوق الانسان. وعدم استحضار المقاربة المتعددة القطاعات في إعداد مشاريع ومقترحات القوانين المتعلقة بقطاع الصحة من خلال جعلها مدخلا لتجاوز بعض صعوبات الولوج للحق في الصحة، وتغييبها للمحددات السوسيواقتصادية والثقافية للحق في الصحة، والتي تشمل سلامة الماء الصالح للشرب والمرافق الصحية وسلامة البيئة والغذاء السليم والسكن اللائق والتربية الصحية السليمة وإيجاد المساحات الخضراء والقضاء على النفايات المنزلية والصناعية والتجارية... كما ظلت السياسات المتبعة تفتقر إلى مبدأ العدالة والانصاف في الولوج إلى العلاجات ولم تحقق أهداف العملية الصحية والتنمية البشرية خاصة وأن المغرب يمر بمرحلة انتقالية ديموغرافيو ووبائية أفرزت أمراضا جديدة تتميز بظهور وانتشار أمراض مزمنة وأمراض الشيخوخة والأمراض الحديثة -كما أشرنا إلى ذلك سابقا- والتي تتطلب تكاليف باهظة مثل أمراض السكري والسرطان والقصور الكلوي وأمراض القلب والشريين وأمراض الصحة العقلية والنفسية... علاوة على عودة ظهور أمراض معدية وقاتلة وسريعة التنقل والاستشراء في عدد من المدن والقرى خاصة في صفوف الطبقات الفقيرة مثل: الجذام وارتفاع معدلات الإصابة بمرض التهاب السحايا (أزيد من 1000 حالة سنة 2012 ) وتزايد حالات مرض السل التي يتم اكتشافها سنويا (27 ألف حالة جديدة) وهي من الأمراض التي تدخل في استراتيجية أهداف الألفية للتنمية، كما يلاحظ تدهور وضعف الخدمات الصحية العلاجية وطول مواعيد إجراء العمليات البسيطة والتقليدية، رغم احتلالها للأولية في السياسة الصحية، إذ تستهلك تلك الخدمات المقدمة داخل المؤسسات الاستشفائية أزيد من 70% من الميزانية المخصصة لوزارة الصحة. كما أن الميزانية العامة لوزارة الصحة لازالت تتراوح بين 6%و%7 عوض 12 % الموصى بها من منظمة الصحة العالمية أو مقارنة مع دول أخرى عربية أخرى (10،7 في الجزائر، و12،4 في الأردن، و13،6 في تونس) كما أن الانفاق الصحي يبقى أقل من 6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أقل من المعدل العالمي الذي يبلغ 10% إضافة إلى نزيف هجرة الأطباء والأطر الصحية، حيث تم تسجيل ما بين 10000 و14000 طبيب مغربي يمارسون مهنتهم ببلاد المهجر، والتوزيع غير المتكافئ للأطر الطبية والشبه الطبية على التراب الوطني، حيث لا زال المغرب يحتاج إلى 32000 طبيب إضافي حسب المعايير الأساسية لمنظمة الصحة العالمية، إضافة إلى أنه في حاجة لأزيد 65000 مهني صحي؛ وحسب للمجلس الوطني لحقوق الانسان فإن هذه الحاجيات من الموارد البشرية ستزداد بشكل متسارع في المستقبل، بسبب مجموعة من العوامل ومنها: - تعميم التغطية الصحية وهو ما سيؤدي إلى الرفع من الضغط على الخدمات الصحية؛ - النمو الديموغرافي للساكنة مما يستدعي مرافقته بمزيد من الأطر الصحية؛ - شيخوخة المجتمع وحاجيات هذه الفئة العمرية إلى علاجات صحية متنوعة؛ - انتشار الأمراض المزمنة والطويلة الأمد مع ما تستلزمه من عناية طبية مكثفة وممتدة زمنيا؛ - شيخوخة الأطر الطبية نفسها وضرورة تعويضها؛ - متطلبات تنفيذ المقاربة الصحية القائمة على الوقاية عوض الاستشفاء. وفي نفس السياق كشف تقرير أعدته مؤسسة الوسيط من أجل الديمقراطية وحقوق الانسان عن ضعف كبير من حيث تقديم الخدمات الصحية بالمغرب وتفاوتا مجاليا ملحوظا وصارخا يتجلى في توفر ثماني جهات بالمملكة على مستشفى واحد لكل جهة، في حين تتوفر جهتان على مستشفيين لكل منهما، وجهتان على ثلاث مستشفيات لكل منهما، وأن وضعية توزيع الأطباء بين الجهات تتسم بسمتين بارزتين تعبران عن التباين واللاعدالة المجالية، إذ يتمركز أكثر من ثلث الأطباء في جهتي الدارالبيضاءسطات والرباط سلاالقنيطرة، وإذا أضفنا إليهما جهتي مراكش أسفي، وفاسمكناس، فإن هذه الجهات الأربعة تستحوذ على 8748 طبيب في حين يتواجد بباقي الجهات 3896 طبيب أي بنسبة استحواذ أربع جهات على 69،33 في المائة مقابل 30،66 في المائة لثماني جهات من العدد الإجمالي لأطباء القطاع العام على الصعيد الوطني. إضافة إلى عدم رضا المواطنين على الخدمات الصحية المقدمة نتيجة ضعف البنى التحتية وبنيات الاستقبال، وتقادم التجهيزات البيوطبية داخل المؤسسات الاستشفائية التي لا تتماشى مع التطور التقني الذي يعرفه المجال الطبي وارتفاع أثمنة الأدوية وتكاليف العلاج؛ وهذا ما أكدته المندوبية السامية للتخطيط في تقريرها حول تصورات المغاربة للخدمات الصحية العمومية وأنظمة التغطية الصحية، في استجوابها لمجموعة من المواطنين حول نوعية الخدمات التي يقدمها النظام الصحي المغربي، حيث أكد المستجوبون أن النظام الصحي يتميز بنوعية الخدمات الرديئة وفشل نظام الصحة العمومية بسبب ضعف البنى التحتية والموارد البشرية والمالية، والارتفاع المستمر في الانفاق الصحي من طرف الأسر، وقد عزا 50 في المائة من المستجوبين أن ضعف الوصول إلى الخدمات الصحية يرجع إلى سببين رئيسيين وهما ضعف جودة الخدمات الصحية وضعف الاشراف الطبي. كما تجدر الإشارة أيضا إلى أن حولي 52 من المستجوبين يصفون جودة التغطية الصحية بأنها منخفضة أو منخفضة جدا. وقد كشف ذلك التقرير السابق على أن التغطية الطبية وشبه الطبية بالنسبة لعدد السكان يصل إلى 3.18 طبيبا لكل 10000 فرد، وإلى 8.82 ممرضا وممرضة لكل 10000 مواطن. أما على المستوى الترابي فإن عددا من الجهات تتواجد تحت المعدل الوطني. ويكشف مؤشر عدد الفحوصات لكل 10.000 شخص عن جانب آخر من جوانب الضعف للولوج إلى الخدمات العلاجية بالمغرب؛ إذ لا يستفيد الفرد سنويا سوى مما يناهز 0.65 فحصا طبيا، و0.83 فحصا شبه طبي، باستثناء جهة كلميم واد نون التي يستفيد الفرد فيها من حوالي 1.09 من الفحوص الشبه طبية، وجهة فاس- مكناس بحوالي 1 فحص شبه طبي لكل فرد؛ وتبقى جميعها، وفي كل الأحوال، معدلات ضعيفة. أما نسبة الولوج إلى المستشفى فإنها لا تتعدى 1 سرير لكل 1000 نسمة بالمقارنة مع الدول الأوربية التي تصل فيها هذه النسبة إلى سبعة أسرة لكل 1000 نسمة، والحصول على الأدوية لا يتعدى 400 درهم لكل فرد بالمقارنة مع الدول الأوربية التي تصل فيها نسبة الحصول على الأدوية إلى 5000 درهم لكل فرد. في حين نجد أن 38 في المائة من المغاربة لا يتوفرون على تغطية صحية وأن 50 في المائة من النفقات الصحية تتحملها الأسر بسبب ضعف الموارد المالية ونسبة التأطير الطبي والشبه الطبي في القطاع العمومي، مما يشكل عائقا أمام المواطن للولوج إلى العلاجات. وفي نفس السياق يذهب المجلس الأعلى للحسابات في تقريره الصادر في ديسمبر 2022 فقد جاء فيه أنه رغم كون الموارد البشرية الصحية تشكل أساس أي منظومة صحية والمحرك الرئيسي لنجاعتها وتطويرها وإصلاحها فقد أبان تحليل معطيات القطاع الصحي في 2021 بشقيه العام والخاص تطورا طفيفا لكثافة العاملين الصحيين خلال العقد الماضي حيث ارتفع المعدل من 1،51 عامل صحي لكل 1000 نسمة سنة 2011 إلى 1،64 سنة 2020 (إلا أن هذا التحسن الطفيف في التغطية الصحية يرجع أساسا إلى زيادة كثافة الأطباء وخاصة أطباء القطاع الخاص، بينما تراجعت كثافة أطباء القطاع العام، وأن هذا التطور الطفيف لم يسجل بشكل متكافئ بين مختلف جهات المملكة). وفيما يتعلق بالاسقاطات وبالتوقعات المتعلقة بالموارد البشرية في القطاعين العام والخاص، وبالنظر إلى المنحى الحالي لتطور كثافة العاملين الصحيين وتوقعات نمو الساكنة فإن العجز في عدد الأطباء والممرضين وتقنيي الصحة سيستمر بصفة عامة في التزايد خلال السنوات القادمة وبناء على تنبؤات تدفق أعداد الخريجين من هذه الأطر فإن تحقيق تغطية ملائمة للساكنة ( 4،45 عاملا صحيا لكل 1000 نسمة كما حددته المنظمة العالمية للصحة) يبقى صعب التحقيق. كما تشير الوتيرة الحالية لتوظيف الأطباء وتوقعاتها المستقبلية مقارنة بتوقعات أعداد المغادرين لاسيما المتقاعدين منهم، إلى تراجع مستمر في أعداد العاملين الصحيين خلال السنوات القادمة مما يجعل استمرار الوتيرة الحالية للتوظيف لن يسمح بتغطية الحاجيات الناتجة عن توقعات المغادرة؛ وذلك اعتبارا من سنة 2028. أما فيما يخص السياسة الدوائية فرغم قيام الوزارة المكلفة بالصحة سنة 2012 بوضع أول سياسة دوائية وطنية شملت الفترة الممتدة ما بين 2015-2020. إلا أنه لم يتم إعداد المخططات التنفيذية الخاصة بها. وكذا مخطط تتبع وتقييم إنجازاتها ونتيجة لذلك لم تخضع هذه السياسة لأي تتبع دوري ولم يتم تنفيذ غالبية الإجراءات المسطرة بها. أما فيما يخص تقليص المخاطر ونظام المراقبة الصحية والانذار المبكر والسريع فقد لاحظ المجلس غياب القانون المتعلق بالصحة العامة، بالإضافة إلى أن بعض النصوص التنظيمية غير محينة وغير مكتملة، ولم يتم تفعيل العديد من التدابير التي تخص نظام الإنذار المبكر رغم أن مختلف استراتيجيات الوزارة المكلفة بالصحة أوصت بتنزيلها. كما تبقى قدرات مختبرات الوزارة المكلفة بالصحة غير كافية بسبب تحديد تخصصها في مجالات البرامج الصحية للوزارة. وتزداد حدة هذا الوضع بسبب غياب بنك للسلالات يسمح بإجراء فحوصات منتظمة ودورية لرصد الأمراض، إضافة إلى غياب مخزون وطني لبعض الكواشف، كما تواجه الأنشطة المتعلقة بتقليص المخاصر والمندرجة في إطار البرامج الصحية الوقائية تسجل مجموعة من النواقص ويتعلق الأمر أساسا بالتوزيع غير الملائم للموارد والتناقص المستمر لعدد تقنيي المختبرات. كما أن تلك المخططات والاستراتيجيات اختزلت الصحة غالبا في المفهوم البيوطبي، بينما الصحة مفهوم شامل ومتكامل ومركب يتداخل فيه ما هو بدني وعقلي ونفسي واجتماعي وبيئي وثقافي، وأن الشروط الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية التي يولد فيها الناس ويكبرون ويعيشون ويشيخون تحدد وضعهم الصحي بشكل كبير؛ حيث كلما كان الوضع السوسيو اقتصادي للأشخاص متدنيا كلما كانت أوضاعهم الصحية سيئة؛ حيث أصبح معلوما الإن أكثر من أي وقت مضى أن جانبا كبيرا من المشكلات الصحية يرجع إلى ظروف بيئية وأسباب اجتماعية بعيدا عن الظروف البيولوجيا والوراثية ومن هنا تظهر أهمية تحسين شروط الحياة اليومية للناس والتصدي للتوزيع غير العادل للسلطة والمال والموارد باعتبارها أهم المسببات للظروف السالفة الذكر وتظهر أهمية التوعية البيئية والصحية مع إعادة النظر في التخطيط العمراني للمدن المستقبلية التي نريدها كمدن ذكية وصحية قادرة على ضمان الصحة والبيئة السليمتين. مع تجاوز النظرة الضيقة للصحة بحصرها في مستويات تهم النظام الصحي فقط، وكأنه هو المسؤول وحده عن حفظ الصحة العامة. وأن الصحة والمرض مرتبطان بمحددات اجتماعية كثيرة لا يشكل النظام الصحي سوى عنصرا بسيطا من بين العناصر الأخرى، فالنظام الصحي مهما كانت جودته ومستواه متقدما لا يساهم إلا بشق قليل في حفظ الصحة العامة. وعلى هذا الأساس يصح لنا أن نتساءل حول ماهية المدن المستقبلية؟ وإلى أي مدى استطاعت المخططات والاستراتيجيات التي تبنتها الدولة في المجالات الصحية والبيئية والحضرية والعمرانية أن تساير وتيرة النمو الديموغرافي والحضري للمدن وتستوعب مختلف المشاكل البيئية والحضرية والصحية المصاحبة لظاهرة التحضر والتمدن والتطور العمراني المتزايد الذي عرفته المدينة المغربية. للختام استخلص أن عملية التشخيص النقدي لواقع المنظومة الصحية المغربية في ضوء الاستراتيجيات القطاعية تكتسي أهمية نظرا لدور التخطيط باستشراف المشاكل وتدبير التحديات الناتجة عن الأزمات التي تطفوا على السطح في سياقنا الراهن، ويتعلق الأمر بالأزمتين الوبائية والبيئية؛ ذلك أن جائحة كوفيد 19 قد وضعت المنظومة الصحية المغربية على المحك، كم أنها قد كشفت مظاهر الهشاشة ونقط الضعف التي تعاني منها هذه المنظومة، وذلك في سياق معروف بالتغيرات المناخية والاختلالات الايكولوجية الناتجة عن الاستغلال المفرط للبيئة الطبيعية. ويتطلب هذا الأمر استحضار العلاقة الجدلية بين الأمراض والبيئة، إذ تبين من خلال تجربتي المهنية التي امتدت لعقود وتم تعزيزها في السنوات الأخيرة ببحث ميداني يتناول هذه العلاقة من خلال حالة مدينة الناظور أن هناك مجموعة من الأمراض الناتجة عن العيش في أحياء تفتقد لشروط النظافة والصحة العامة وتعرف تفشيا للتلوث بكل أنواعه والذي أصبح يشكل مشكلة حقيقية تتضرر منها كل بلدان العالم نظرا لتهديدها لمستقبل البشرية وكوكب الأرض.