ها هي وجبة "الإحتفالات" قد انتهت...وأجدني مضطرا لأعيد نفس الخلاصة وبنفس التساؤل:ماذا بعد ؟ . عشنا ما يقارب الشهر نجتمع نرقص نغني ونتناقش أحيانا وبعد ذلك نفترق...دون نتائج أو تعمق يقودنا نحو توجه ما. نفترق ونكون قد إتفقنا (فقط) على ان نقول "أسكاس أماينو" آخر في العام المقبل وكفى! بل دون حتى أي مشاعر حقيقية. اعتراف الكثير من المؤسسات كما الجمعيات بل و كذلك الأشخاص نراها تتشدق برعايتها للأمازيغية والدفاع عنها وعن كل المكتسبات، وعكس ذلك تبين الوقائع أنها لا تختلف تحركاتها كثيرا عن مسرحيات كل الحكومات المتعاقبة ، مهما كانت المبررات. بل ان الكل يتخندق في خندق واحد. بحيث لا قطيعة مع الماضي في ما يخص السياسة المتبعة في تدبير ملف القضية الأمازيغية،امتداد لنفس السياسة وهي أمور ملموسة عبر الكثير من الأحداث والوقائع التي تعرفها وتعيشها القضية. من عاداتنا أن نحتفل بهذا الحدث كل سنة (في 13 يناير الذي يوافق الأول من السنة الأمازيغية.) نغني نرقص نأكل "الكُسْكُسْ الأمازيغي" أو على الأقل هذا ما يقولون عنه ،ولا نجدد العهد بعد ذلك لخدمة القضية. نحتفل ،نتذكر...نصنع "كفاحا" نقول عنه أننا "خضناه" طوال سنوات مضت ،لتحقيق الأمن والرخاء والحرية والكرامة والتقدم على كل تراب ثامزغا.ولا نتذكر ونعترف أن قبل هذه الأعوام ،بدأ الكثيرون مسيرتهم في الإحتفال على ذلك الطريق الطويل والشاق .لم يكن لديهم ما لنا اليوم ،لم يكن لديهم ما يدعمهم ويؤازرهم سوى الايمان بالقضية. كانوا فقراء ،لكن أقوياء بعزمهم وإصرارهم على الإحتفال رغم كل العراقيل والعقبات التي كانت تعترضهم .يحتفلون بالبوادي والقرى والمداشر...لم يغفلوا أبدا عن الإحتفال،ومنذ سنوات بل ولقرون. نأتي نحن اليوم ونجهر وأمام القنوات وكل الملأ ،أننا نحن فقط المحتفلون.!أو أننا نحن من أحيا هذا الإحتفال. وجميعنا يؤمن (ولو في داخله) أنه ليس فقط بالموسيقى...نخلد الذكرى أو نحتفل. فهل نحن فعلا نحتفل أم أننا فقط بصدد تخليد ذكرى حدث ؟ وإن كنا نحتفل ! فعن أي احتفال نتحدث.. وماذا اضفنا اليه ! ما أعرفه ان "الإحتفال" كان دائما ولا زال كائنا . الإحتفال اتذكر قبل سنتين كنت بالعطله الصيفية صادفني موقف رغم غرابته إلا انه يحمل رسالة جميلة جدا..موقفا احسسته حزيناً شيئاً ما، رغم تلقائيته،وربما كان قد يبدو للكثير أمرا مضحكاً ولو بحزن. وبكل أمانة كان صدفة، كنت متواجدًا مع بعض الأصدقاء في قرية من قُرانا الجميلة بالمغرب .بعدما نزلنا ضيوفا على إحدى العائلات بالمنطقة...تجمع بعض الأطفال حولنا،وبينما نحن نشرب الشاي ،وُضع على الطاولة بعض الفواكه الجافة من" كاوكاو وفسدق /بيستاش..وما شابه ذلك من فواكه جافة حملها أصدقائي "اصحاب الخارج" معهم. سمعت الأطفال حولنا يتهامسون فرحين يشيرون إلى الأشياء فوق الطاولة. سألنا الأطفال عن أمرهم...أجاب الأب بعد أن همس الأطفال بالجواب في أذنه : " إن مثل هذه الأشياء من الفواكه الجافة أو بعض المقبلات هي غائبة تماما عندنا، و لا يرونها إلا في مناسبات "ناير"( أسكاس أماينو) "..."وهذه ضرورة لا بد منها و تستدعي أحيانا أن "نتكلف ونتسلف" حتى نوفيها...". سألت الأب عن شكل الإحتفال هناك .قال انه احتفال يعتبره الكثيرون فرصة لتجمع الأسر حول مائدة واحدة، وإحياء للتقاليد، خاصة النسوة اللواتي يفضلن تحضير أطباق عديدة من المأكولات وتحضيرات أخرى ،من تنظيف المنازل وتزيينها من الداخل والخارج ،يشعلن الشموع ويضعنها في كل أرجاء المنزل، تتكلف الفتيات بتنظيم مائدة العشاء وهناك الكثير من العائلات التي لازالت تشتري أوانٍ خاصة بالمناسبة من صينيات الفخار وملاعق خشبية وغيرها من الأدوات التي تبرز وجود يوم خاص يجب الاحتفال به .تغمر الفرحة الجميع خاصة منهم الصغار الذين يلبسون ملابس جديدة وتتزين النسوة أيضا بملابس تقليدية، يحضرن الكسكس بالدجاج في العشاء لتتوجهن بدعوة العائلات والأحباب إليه ، لتبادل الزيارات ، وبعد العشاء ،تتوج المأدبة بسهرة عائلية توزع فيها انواع مختلفة من الفواكه الجافة من اللوز والجوز والفسدق ... ومن النساء من يفضّلن التجمع في المنزل للغناء ووضع الحنة للأطفال الصغار وشرب الشاي والقهوة بالمكسرات والحلويات المتنوعة الأخرى . وما شابه ذلك من عادات وتقاليد أصيلة لا زالت راسخة في حياة أهل مثل هذه المناطق . هذا هو الوفاء... وهذا هو الإحتفال. و ليس (كما نحن هنا) فقط بالموسيقى ...نخلد الذكرى أونحتفل .هؤلاء هم (فعلا) من يصنعون الإحتفال والحياة معا على الأرض...أن تغرس في قلب الطفل مثل هذه الأشياء فالأمر ليس فقط مناسبة مميزة لإحياء التقاليد والعادات والطقوس المتوارثة أبا عن جد بل انك بذلك تغرس فيه أيضا....روح الانتماء .ولأن شكل الإحتفال عندنا يختلف فروح الانتماء كذلك يختلف!. كلٌّ يغني على ليلاه. نحتفل نحن اليوم وكأننا حققنا كل شيء, ولم يبقى لنا غير الإحتفال. نتباهى ونعتز بما "حققناه" ونحن لم نحقق شيئا،على الأقل...بعد!. إحتفالاتنا تقام أحيانا في نفس التوقيت.. كل يحتفل على طريقته وكلٌّ يغني على ولِ:"ليلاه". رغم أن هذه الإحتفالات تحفل في شكلها الحقيقي بكم كبير من العادات والأمثلة التي تحث على التكتل والتجمع والالتزام وما شابه ذلك..بل قد أجزم القول ان ما تحفل به هذه الإحتفالات أكثر بكثير مما تحفل به أي إحتفالات أخرى...ومع ذلك فإن ما نشهده اليوم ونعيشه على امر الواقع بعيدا(على الأقل نسبيا) عن هذه الحقيقة. مسافة شاسعة بين المبادئ الحافلة بها هذه "الإحتفالات" وبين الممارسات السائدة على صعيد الواقع. فمن الذي يخلق هذا التباين بين المبادئ والممارسة؟ قد يكون نوعا من "النفاق" لدى بعض الأشخاص أو بعض المؤسسات والجمعيات..." نفاق سياسي" يتغذى بفساد سياسي أو لعلهما معاً... يتفاعلان و يشاركان بل و يكملان بعضها البعض ،مؤثران ومتأثران في إطار يجمعهما "لأهداف ومآرب أخرى" مشتركة. إفرازات: ولهذا فليس غريبا أن نشهد إفرازات غير طبيعية لحالة من الفوضى والالتباس..تدفع البعض أحيانا الى البوح بمعطيات مغلوطة..تراه يؤطر ويصرح:"نحن من أحيا الإحتفال ونحن من اعاد له شرعيته ". ليشكل بذلك فجوات صادمة للمتلقي ، الذي يظل يحاصره سؤال يؤرق تفكيره :"مَن هذا ال:"نحن" الذي يزعم انه هو من شرع أو أحيا الإحتفال!!؟".يحدث هذا عند هؤلاء ، سواء لِجهلهم للأشياء والتاريخ أو ناسِيين او حتى متناسين ، ان في بعض الأحيان ،عندما تصدر قرارات عاجلة للجواب على أسئلة ما أجوبة سريعة أو وقتية.فإن ذلك قد ينجم عنه خلط كبير للأشياء والمفاهيم ،وقد يعوق فهم الأمور أكثر مما يسهلها. كما قد تدفع (هذه الإفرازات) أيضا،البعض الآخر يرقص على نغمات أغنية أو أنشودة "هابطة" حاملا "علما أمازيغيا" أو حتى علم "جمهورية الريف" متناسيا ( عن قصد او جهل ) أن "الأعلام" هذه لها هيبتها واحترامها وثقلها وأنها أعز وأشرف من أن تدنس بنغمات أغاني نجسة ، هابطة. لتُثار حول ذلك الخلافات و الزوابع وتساؤلات كثيرة حول ما لذلك فعلا موقفا معينا..أم ان ذلك فقط "شطحة" وانعكاس لاضطراب ما ، قد يدل من جهة ،على رؤية خاطئة للعلاقة بين الحرية والتعبير، أوعلى نفاق مجتمعي وسياسي انتشر بدرجة ما , فى أجواء ما...أو قد يكون كذلك (ربما) عدوى من تلك التي أصابت بعض "الساسة" في بلدنا الحبيب من الذين تحدثوا لنا يوما ما عن ديمقراطية الإنتخالات (وكأننا لم نراقبها). ديمقراطية "البلطجة".أو كما قيل وقرأت يوما :" أزيحت قوى..من الواجهة .. بقي النظام والإسلاميون . ديمقراطية رداء ميني جيب والأكمام طويلة .. لامانع من قفازين .. وليبقى الفخذين مكشوفين ". "بلطجة" جديدة إذن لهؤلاء الهستيريون الجدد ،الذين ملأوا" الأماكن" فجأة بعد أن غادرو "الشوارع".في وقت تؤكد فيه حقيقة الأشياء والتجارب مرة أخرى ومرات وللمرة الألف أن من رسموا لهم وخططوا... ليس هم ، بل ...هم "آخرون".بينهم مسافة من الزمن.. ويجمعهم طلاق ما بين الأقوال والأفعال .ولكن ولأنّ معظم الناس لم تنس بعد مأساتهم مع من سبق هؤلاء ، وأدركوا بالتالي أنهم هم من أعطوا لممارساتهم،الحياة ليستمروا في السير فوق ظهورهم... يلهثون وراء المواقع والمغانم على حساب معاناتهم وشقائهم، بل وأحيانا على حساب الأوطان كذلك.فهم لم يعودوا اليوم يثقون بأحد من هؤلاء ولا بالعبارات الرنانة والحديث المعسول ،يرون بأم العين ما يجري على ارض الواقع . فالكثيرمن هؤلاء ،ورغم "ألسنتهم الطويلة" فقاماتهم في صناعة القرار لا تتجاوز طول ألسنتهم. صورة وذكرى بطل جميل أن نحتفل نرقص ،نغني ونحمل صورالأبطال والأعلام وأيادٍ ترفع السبابة والوسطى /إشارات للنصر. وقد لا نختلف كذلك على ان "الأبطال" الذين تملأ صورهم بعض الإحتفالات والتظاهرات الفنية ، رجال الثورات والسلام والتحريرعلى مر العصور, وشخصيات عظيمة لا يمكن نسيانها بسهولة.ولكن (أتسائل فقط وحيث التساؤل مشروع )"لماذا أحمل صورة بطل إذا كنت غير قادرا على اتخاذه (دون نفاق) قدوة لي في القول و...العمل ؟!".إن أردت فعلا ان تخلد ذكرى "بطل " فليس فقط بحمل صوره بل بالسيرعلى....خطاه. لنتفق إذن على أن هناك من الخبايا والأسرار الكثير الذي لم يكشف عنه بعد. بماذا ولماذا نحتفل؟ وأنا أعرف أن الاحتفاء والاحتفال يكون على إنجاز تحقق وحدث محدد تم. وإن كنا نحتفل بحدث تاريخي، انتصار الأمازيغ بزعامة القائد الأمازيغي شيشونغ على الفراعنة إبان فترة حكم رمسيس الثاني ،فالنقل إذن أننا نحتفل بانتصار شيشونغ ... أما وأن نقول أننا نحتفل "بالسنة الأمازيغية" وبالرقص والموسيقى (فقط).. أوحتى في بعدها كما كان في السابق، بعيدا عن كل مغزى اجتماعي أو سياسي أو تاريخي أو حتى "هوياتي" فهذا سابق لأوانه . لأن قبل الإحتفال ،وجب أن يسبق ذلك صحوة وحركية تمس جوانب أخرى من القضية كالهوية والتاريخ والدفع في أفق الاعتراف الرسمي الجاد والحقيقي بهذا اليوم وتجاوز بعده التقليدي حتى يصبح حدثا تاريخيا لشعب برمته. يدونه الأطفال في مدوناتهم , يرسمون حروفه على كراساتهم ويكتبونها سنةً أمازيغية كما يكتبون الميلادية (المرتبط تقويمها بميلاد المسيح عيسى عليه السلام ) والهجرية (المرتبط تقويمها بهجرة الرسول محمد (ص) ). وأما إن كنا نحتفل فقط حتى نؤكد وجودنا ( أنا أحتفل إذن أنا موجود)على غرار الكوجيطو الديكارتي، فالنتيجة هنا يؤكدها الواقع..انقسامات ، تناحرات ، خلافات ثم جماعات وحركات "اجتماعية" وسياسية ,منها من تبحث لنفسها فقط عن مكان أو وضع على سطح الحياة السياسية..ومنها من تبحث عن مبادئ "ثابتة" لها أوحتى عن شعار تعمل تحته. احلام الأطفال لا تموت فارفعوا أياديكم عن احلام أطفالنا لتضيئ الطريق ، وتجعله يحكي لنا الحكاية منذ أن كان لهم اول الأحلام في الإحتفال ، قبل أن يدركه الدخلاء ومن معهم مِن مَن حرفوا فيها مراكب الأمان عن مسارها. ولكن ولأن أحلام الأطفال بريئة مقدسة ،فلا الأيام قادرة أن تحرقها ، ولا حيل كل الدخلاء قادرة أن تخفي معالمها. هي أحلام تسكن فينا،ألما لا يهدأ وجع لا يموت.