غابت جريدة "أخبار اليوم" عن قرائها مجبرة لثلاثين يوما.. شهر كامل من المعاناة والظلم انطلق بهجوم أمني عنيف على مقر الجريدة وطرد طاقمها إلى الشارع وانتهى بثماني سنوات سجنا موقوف التنفيذ وغرامات خيالية ضد مديرها ورسامها الكاريكاتوري، وبين البداية والنهاية تسارعت الأحداث ما بين مخافر التحقيق ومقهى "الزجاج" والمحاكم والوقفات التضامنية والبلاغات والندوات الصحفية... إنها قصة 30 يوما من محاولة إعدام جريدة. "تش تش تش.. فرقوهم بأية طريقة".. "تش تش تش.. علم وينفذ".. هكذا كانت الأوامر تنبعث من أجهزة "الطولكي وولكي" البوليسية.. "يجب أن ترحلوا من هنا الآن، أخلوا المكان وإلا سآمر رجال السيمي بالتدخل لتفريقكم"، الكلام هذه المرة لوالي أمن الدارالبيضاء، "لكن آسي الوالي.. من اتخذ القرار بطردنا من العمل؟" الجواب: "أنا من قررت أن أطردكم".. إنها محادثة ثاني أيام إغلاق مقر "أخبار اليوم"، الأربعاء 29 شتنبر.. توفيق بوعشرين وخالد كدار يخضعان للتحقيق بولاية الأمن بالدارالبيضاء، مقر الجريدة مقفل منذ يومين تحت حراسة أمنية مشددة.. أكثر من 80 رجل أمن يرابطون بمحيط مقر الجريدة ورجال "السيمي" ينتظرون أمرا بهجوم يأتي على الأخضر واليابس.. رواد المكان يتفرجون على مشهد بوليسي قريب من أفلام "الآكشن" الأمريكية.. يسود الصمت في لحظة غريبة أرجاء المكان وحدها رنات الهواتف النقالة وأصوات "الطولكي وولكي" لم تتوقف، في تلك الأثناء سيتدخل مسؤول أمني بيضاوي كبير يصطنع اللطف ويدعي حبه ل"أخبار اليوم" قائلا: "شوفوا هاد الشي كبير بزاف، وهناك أوامر من جهات عليا لإخلاء المكان بأية طريقة".. يدير رأسه يمنة ويسرة ليتأكد أن لا أحد من زملائه سيستمع إلى كلامه ويهمس بالكلمات التالية: "لن تعملوا إلا بعد مرور شهر من الآن". الليلة رقم واحد تخمين رجل الأمن الكبير كان صائبا.. الرجل كان يعرف ما يقول، بينما حدة الصمت كانت تزيد مع كل أوامر عليا جديدة، وبين طاقم الجريدة ورجال البوليس كان هناك صحافي مشاغب يبحث عن تفاصيل هجوم كتيبة أمنية على مقر جريدة مغربية ليلة الاثنين 27 شتنبر في حدود الساعة السابعة مساء.. وتحت عيون المخبرين الكثر في ذلك الصباح بدأ يدون: كان كل الصحافيين قد غادروا في ذلك المساء، بعد أن تأكدوا أن ما كتبوه قد وصل إلى المطبعة.. المقر شبه فارغ إلا من مسؤولة إدارية وعاملين اثنين.. طلبوا من السيدة أن تحمل مفاتحها وحقيبتها النسائية الشخصية وتغادر .. البوليس لم يقدم أية مذكرة قانونية لإغلاق الجريدة.. البوليس يستولي على الأرشيف الخاص بعدد السبت/الأحد ويحجز عدد الثلاثاء ويجمعه من الأكشاك بالدارالبيضاء والرباط و ما تبقى من عدد الاثنين.. صدور بلاغ لوزارة الداخلية يقول إن الوزارة قررت متابعة الجريدة بسبب كاريكاتير صادر في عدد السبت/الأحد 26 و27 شتنبر 2009 بدعوى الإساءة إلى الأمير مولاي إسماعيل والعلم الوطني... يلتقط الصحافي المشاغب بعض الصور، يدس مذكرته الصغيرة في حقيبته ويغادر المكان، يتلقفه رجل أمن فيسأله عن هويته وجريدته.. يعتقد المشاغب أن الرجل صحافي من "أخبار اليوم" ويقرر أن يعود إلى مكان مشهد "الآكشن" ويسأل: "هل فلان معكم في الجريدة"، الجواب: "لا إنه مخبر"، هذا الأخير كان قد اختفى في تلك الأثناء فيما تذكر الصحافي المشاغب أنه تنقصه معطيات اليوم الثاني من الهجوم الأمني، الثلاثاء 29 شتنبر، فأخرج مذكرته الصغيرة من جديد وبدأ يدون: رجال الأمن يمنعون طاقم الجريدة من الالتحاق بالمقر، الجريدة تقوم باستدعاء مفوض قضائي لتسجيل واقعة المنع، استدعاء مدير النشر توفيق بوعشرين والكاريكاتوريست خالد كدار للتحقيق معهما في مقر ولاية الأمن من منتصف نهار يوم الثلاثاء، واستمرار التحقيق إلى الساعة الثالثة والنصف من صباح الأربعاء، جريدة "أخبار اليوم" تنظم ندوة صحفية بأحد فنادق الدارالبيضاء على الساعة الرابعة بعد الزوال لإخبار الرأي العام بما حدث.. ثم يلتقط المشاغب صورا أخرى بكاميراته الصغيرة، يدس مذكرته الصحافية في حقيبته من جديد ويغادر دون أن يكلم أي أحد هذه المرة. يبدأ رجال الأمن السري والعلني في دخول مقهى "الزجاج" القريب من مقر جريدة "أخبار اليوم" بالدارالبيضاء.. المكان صار غريبا على أصحابه، فبعد أن كان رواده من عمال الميناء وبعض سائقي الشاحنات الكبيرة تحول بين ليلة وضحاها إلى مقر مراقبة أمنية مشددة، ليترك عمال الميناء كراسيهم مجبرين لرجال البوليس والمقدمية والديستي والاستعلامات.. هؤلاء يحضرون كل يوم في الساعات الأولى للصباح وينتظرون وصول طاقم الجريدة: عشرة داخل المقهى، وعشرة أمام مدخل مقر الجريدة، وسيارتان للتدخل السريع مملوءتان برجال "السيمي".. يرصدون كل شيء: من أول الواصلين ومن آخرهم، من يشرب القهوة، ومن يشرب الأفوكا، من يتحدث في الهاتف النقال ومن يلتقط الصور، من يملك حاسوبا نقالا واتصالا بالإنترنت ومن يطالع الجرائد أو يكتب.. رادارات بشرية مبرمجة تلتقط صورا ذهنية دون استعمال الفلاش. لقد شوه "المخزن" معالم المكان وكسر هدوءه.. حتى إن العديد ممن يعملون بالمنطقة غيروا "مقهى الزجاج" الذي اعتادوا تناول فطورهم به قبل الالتحاق بأعمالهم بمقاه أخرى أبعد، والبعض الآخر صار يتفادى ركن سيارته في فضاءات المكان خوفا من تدخل أمني قد يودي بسياراتهم.. المقهى صار منقسما إلى فضاءين: فضاء المخبرين وفضاء الصحافيين، ولتفادي إحراج "وجودي" بين الفضاءين صار رواد المكان الحقيقيون من رجال الميناء والسائقين يختارون الابتعاد إلى فضاءات أخرى مفتوحة وخارج المراقبة والتوتر، حتى إن كانوا أصحاب المكان في الأصل. في المقابل اعتاد طاقم الجريدة الأكل والشرب تحت عيون المخبرين الذين صاروا يعرفون الجميع.. فردا فردا بالأسماء والألقاب وعدد جرعات القهوة وعدد "الأومليطات" المقلية وعدد السجائر المشتعلة... الأحداث السريعة الجمعة 2 أكتوبر تستمر جلسات الاستماع الماراطونية لبوعشرين وكدار بخصوص الشكاية التي قدمها الأمير مولاي إسماعيل صباحا، وفي المساء تنظم النقابة الوطنية للصحافة وقفة احتجاجية تضامنا مع "أخبار اليوم" أمام مقرها بحضور مجموعة من الفاعلين الجمعويين والصحافيين والمناصرين، وبين الصبح والعشية كان عدد المخبرين يزداد، هؤلاء الذين جن جنونهم في ثالث أيام الحجز والمنع والطرد، بعدما ظهر والي أمنهم في الدارالبيضاء على موقع "اليوتوب" و"الدايلي موشن" و"الفايس بوك" وهو يهدد الصحافيين بتدخل أمني عنيف لتفريقهم من أمام مقر عملهم دون مذكرة إغلاق ودون شمع أحمر، وبعدما علموا أن كل ما يفعلونه بالجريدة وطاقمها يصل بسرعة البرق إلى الملايين عبر ربوع المملكة ويتابعه أناس في الصين والولايات المتحدةالأمريكية وإسبانيا... ليكتشف كوادر البوليس البيضاوي أن العيون البشرية لن تفي بالغرض، قرروا الشروع في إرسال دعوات استضافة وصداقة على "الفايس بوك" و"التويتر" ليتتبعوا ما يكتبه صحافيو"أخبار اليوم" في صفحة التضامن التي أقاموها على الموقع الاجتماعي العالمي، لكن الفايس بوك كان "رجلا" وكان يكشفهم في كل مرة. تسارعت الأحداث في الأيام الموالية، وصارت مهمة الصحافي المشاغب هي متابعة أخبار "أخبار اليوم" فكان يدون كل شيء على مذكرته الصحافية: أحد المحققين يسب توفيق بوعشرين قائلا: "غادي نخلي دار بوك"، وهذا الأخير يعلن عبر وكالة الأنباء الفرنسية استعداده للاعتذار للأمير مولاي إسماعيل إذا اعتبر الكاريكاتور مسيئا إلى صورته، صحافيو "أخبار اليوم" يقتحمون ندوة لوزير الاتصال بعد اجتماع للمجلس الحكومي، إدارة «أخبار اليوم» تتقدم بشكوى لاستئناف صدورها، تأجيل محاكمة "أخبار اليوم" إلى غاية يوم 19 أكتوبر، الصحافة الإسبانية تستنكر المقاربة الأمنية ضد جريدة "أخبار اليوم" قبل صدور أحكام قضائية، النقابة الوطنية للصحافة المغربية تناشد السلطات لطي صفحة المتابعات ووقف إغلاق "أخبار اليوم"، عباس الفاسي يصدر قرارا "سريا" بإعدام "أخبار اليوم"، المحكمة الإدارية ترفض طلب جريدة "أخبار اليوم" بتوقيف قرار إغلاق مقرها، جريدة "أخبار اليوم" تعوض غيابها الاضطراري بإطلاق موقع إلكتروني على الإنترنت، تجمع تضامني في فرنسا مع "أخبار اليوم" أمام مقر السفارة المغربية بباريس... ظل الصحافي المشاغب يدون كل شيء وكل التطورات طيلة 30 يوما.. لم يفته تصريح ولم تفته معلومة، فيما رجال البوليس والسيمي لم يبرحوا مكانهم بمحيط مقر الجريدة، لقد صار فضاء الجريدة ثكنتهم الجديدة. في المحكمة قررت المحكمة الابتدائية بالدارالبيضاء النطق بالحكم في قضية "أخبار اليوم"، بتهمتي إهانة العلم الوطني وإهانة أمير مغربي، يوم الجمعة 30 أكتوبر. وعرفت أطوار المحاكمة التي جرت قبل ذلك بثلاثة أيام مساء الاثنين الماضي، واستمرت لأزيد من ثلاث ساعات، سجالا بين القاضي ووكيل الملك من جهة ودفاع كل من توفيق بوعشرين، مدير نشر "أخبار اليوم"، وخالد كدار، الكاريكاتوريست بنفس الجريدة، وكان الصحافي المشاغب يدون نقاطه الصحافية هناك أيضا، وفي بداية الجلسة التي انطلقت على الساعة الخامسة مساء وجه القاضي أسئلة إلى خالد كدار حول العلم الوطني، وسأله عما إذا كان قد رسم العلم الوطني في الكاريكاتور، فكان الجواب هو أنه رسم العلم المغربي بنجمته الخماسية، وهنا طلب القاضي من الرسام الساخر إكمال الرسم الذي يوجد على الكاريكاتور ليثبت أنه رسم العلم الوطني. وهنا تدخل الدفاع، ممثلا في المحامي عبد اللطيف وهبي، لينبه القاضي إلى أن عليه أن يسأل المتهم حول ما هو مرسوم في الكاريكاتور، وليس ما ليس مرسوما، كما اعترض المحامي عبد الرحيم الجامعي على استشهاد وكيل الملك بمحضر للشرطة القضائية، واتهم الجامعي جهاز المخابرات الديستي بالإشراف على التحقيق مع المتهمين ضد القانون، وأن شخصا يدعى حامي الدين هو الذي أشرف على التحقيق مع أنه لا علاقة له بالشرطة القضائية. من جهته، اتهم توفيق بوعشرين، في كلمته أمام القاضي، وزير العدل الذي هو في نفس الوقت الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي بالتدخل في هذه القضية، وقال: "لقد أصدر الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي ووزير العدل بيانا أداننا قبل أن تقول المحكمة كلمتها". وشدد بوعشرين على أنه ليس لديه أي مشكل مع العلم الوطني، معتبرا أنه "رمز الأمة". أما وكيل الملك فأشار في مرافعته إلى أن مجرد وضع العلم الوطني في رسم كاريكاتوري يعتبر في حد ذاته إهانة، وتساءل: "كيف نسخر فنا يعتمد على النقد والسخرية لوضع العلم فيه؟"، معتبرا أن ذلك "إهانة حقيقية للعلم الوطني". وذكر وكيل الملك بسياق وضع نص القانون الذي يعاقب على إهانة العلم، مشيرا إلى أن ذلك تم سنة 2005 عندما تعرض العلم الوطني للإحراق من طرف من وصفهم ب"الطلبة الصحراويين"، وأشار الوكيل إلى أن علم المملكة وشعارها "الله، الوطن، الملك" أصبح محميا بهذا القانون من الإهانة وأن من يسب الله يدخل تحت طائلة العقاب، لأن الله من شعار المملكة. والتمس المدعي العام إدانة المتهمين وفق فصول المتابعة في القانون الجنائي.. في المحكمة كانت أجهزة "الطولكي وولكي" البوليسية مشغلة أيضا، كما كانت الهواتف المحمولة ترن، والصحافي المشاغب استمر في خط تدويناته الصحافية.. وفي آخر جلسة انقطعت كل الاتصالات السلكية واللاسلكية وحكمت المحكمة بثماني سنوات سجنا في حق مدير نشر جريدة "أخبار اليوم"، توفيق بوعشرين، والكاريكاتوريست المنتمي إلى نفس المنبر الإعلامي خالد كدّار، وإغلاق مقر الجريدة وغرامة ثلاثة ملايين درهم... وظل الصحافي المشاغب يكتب نقاطه على المذكرة الصغيرة. إطار أمهات ومتضامنون و"فايس بوك" الأمهات كائنات غريبة إلى أبعد الحدود: يبكين بسرعة، يضحكن بسرعة ويغضبن بأقصى سرعة، وفي الحالة الأخيرة تأخذ ملامح "الواليدة" نفس السمات عند معظم أمهات المملكة، خصوصا في لحظات الإحساس بالظلم.. ملامح شبيهة بتلك التي ظهرت على وجوه أمهات سيدي إفني أو أمهات الأراضي السلالية في القنيطرة أو أمهات المعتقلين السياسيين في مراكش.. فيصرخن ويصرخن، وفي النهاية يبدأن بالدعاء على الظالم، هكذا كان الأمر مع أمهات العديد من صحافيي يومية جريدة "أخبار اليوم"، عندما علمن بأن أبناءهن وبناتهن قد صاروا في الشارع بلا عمل، لتعود معالم الغضب إلى وجوههن وأصواتهن، وكعادتهن صرخن وصرخن وفي النهاية أطلقن دعوات "آيام ويذ يو.. غود لاك" (أنا معكم حظا موفقا)، هكذا قال متحدث من الصين الشعبية في مكالمة غير متوقعة، من مواطن بعيد جدا، "سوموس كون فوسوتروس" (نحن معكم) قالت الإسبانية "مونتسي" غير البعيدة عن رياح المغرب العاتية في وجه الصحافة، ومكالمات وإمايلات وتعليقات على "الفايس بوك" من كل بلدان العالم، تخطت كل الحدود، أناس لم يقرؤوا "أخبار اليوم"، ولا يعرفون العربية، ولا يهمهم ثمن المكالمة يتضامنون بكلمات مقتضبة لكنها تنسي الجميع وقع المقالات المسمومة لبعض "الزملاء" الذين شمتوا وفرحوا لما حدث، ومغاربة شرفاء من اليسار واليمين حضروا إلى مقهى "الزجاج" القريب من مقر الجريدة للتضامن والمساندة، ومن لم يستطع الحضور كان يتصل ويشارك الجميع لحظات الهم والحسرة لدقائق. أما أصحاب الحال فقد علموا أن كل ما يفعلونه بالجريدة وطاقمها يصل بسرعة البرق إلى الملايين عبر ربوع المملكة، ويتابعه أناس في الصين والولايات المتحدةالأمريكية وإسبانيا عبر موقعي "فايس بوك" و"تويتر"... ليكتشف كوادر البوليس البيضاوي أن العيون البشرية لن تفي بالغرض فقرروا أن يبدؤوا في إرسال دعوات استضافة مقر الجريدة، لكن الموقع الاجتماعي العالمي كان "رجلا" ولم يتردد في فضحهم مع كل اختراق. ¤ صحفي بجريدة "أخبار اليوم" الممنوعة ظلما وعدوانا