عند قراءتنا لنماذج ناجحة من الشعر الحديث، نصوص الشاعرة السورية المعاصرة رهف محمد خليل نموذجا، و قبل تبني، للضرورة المنهجية، آليات نظرية نقدية دون أخرى، لا بد من تمهيد يستقى من إشكالاته، أننا نصطدم حاليا بعالم قيم معاصر/ قديم، تتحكمه نظرتين فاسفيتين متوازيتين و متناقضتين: تقوم الأولى على أنساق النزعة الانسانية، و يروج الشعراء المتشبعين بمبادئها لمثل عليا على شكل قيم إنسانية رفيعة كالحق و الخير و الجمال و غيرهم، و ذلك لتكريس هذه القيم، أو للثورة علي بعض المتوارث منهن شكلا و مضمونا، لتكييفهن مع مستجدات العصر.. أما التوجه الفلسفي النقيض، فهو براغماتي نفعي بامتياز، يعتبر الشعر (أو بعض توجهاته) مجرد هروب إلى الأمام يجانب الصواب، و يبتعد عن الحقيقة و الواقع، يستعمل خطابا مشفرا « لا نفع منه يرجى »... و هو ما أوصل حسب الباحث خليل الموسى أفلاطون إلى رأي قاطع، و هو وجوب طرد الشعراء من « جمهوريته »، و حجته في ذلك، افتقار الشعر إلى الحقيقة... و نفس الرأي كرسه الخطاب الديني عندما قال بأن الشعراء يتبعهم الغاوون، ألا تراهم في كل واد يهيمون... هذا التوجه إلى ما هو نفعي آني ( وهو مادي بالأساس)، هو ما يبرر غالبا ظاهرة العزوف عن قراءة الإبداعات الأدبية عامة، و الشعرية خاصة... ناهيكم عن افتقاد القارئ العادي المعاصر لآليات ملائمة لاستيعاب أشكال و مضامين النصوص الشعرية المعاصرة باستنطاق الغياب، و المسكوت عنه، و فك ألغاز الانزياحات الجديدة، و اللوحات التشكيلية المخطوطة بحروفها... و هذا المعطى الأخير المتعلق بنفور بعض النخب المتعلمة من قراءة الشعر، هو دافعنا لطرح السؤال/ الاشكالية : ما هي آليات القراءة في الشعر العربي المعاصر؟ ( نصوص الشاعرة رهف محمد خليل نموذجا). 1 نصوص تومئ أكثر مما تقول، مقولة مفتاح في ميدان النقد التطبيقي: يقول الباحث فوزي سعد عيسى: « إذا كانت جهود كثير من النقاد قد انصرفت إلى التنظير، فإن الحاجة ماسة إلى جهود مماثلة بل مضاعفة في ميدان النقد التطبيقي لأن عجلة الإبداع تسير بمعدلات سريعة وتتسع في مساحات مكانية واسعة في مصر والعالم العربي كافة ». و إن تبنينا هذا الطرح، و اعتمدناه لمقاربة نصوص الشاعرة رهف محمد خليل ، تتأكد لنا ،كانطباع أولي، وجهة نظر الناقد خليل الموسى بأن القصيدة العربية المعاصرة بدأت تتشعبن و تتفرع في بنيتها عن الأنساب الشعرية، و الأجناس الأدبية المتجاورة، فلم تبق في حركيتها في خط وحيد، و إنما تسير على خطوط غنائية، درامية، ملحمية، سردية معا... ففي مطلع قصيدتها: » أنثى/ قصيدة توضأت كلماتها بعطر الأنوثة »، نقرأ: « على ناصيةِ المساءِ .. تنحني نافذةُ السماءِ~ لتولدَ أنثى من سحابة أنثى .. انتظارُها ينحرُ المسافاتِ تداعبُ ضفائرَ الماءِ بالماءِ. !~ تعاكسُ ما تبقى من قصائدِك! وتغفو على قوافٍ شاغبتْ عطرَها ذاتَ مساء.. » (...) قراءة أولية لعتبة النص، قد توحي بما نختزنه من قوالب جاهزة حول مطلع نص سردي قصصي، لكن سرعان ما نقرأ السطر الثاني، وبعده الثالث و الرابع، نواجه كقراء إغراءات أنثى تغاوينا و تماطلنا: هي القصيدة ساعة الولادة، ملاك وحيها سحابة ماطرة في صورة أنثى، و ملهمة نزولها شاعرة أنثى... و يمد النص كما يقال ألسنته ثائرا على القصيدة العمودية، يقطع أوتار آلات معزوفاته إلى أشلاء، رغم حنين مباح ل » قواف شاغبت عطرها ذات مساء »... و كأن الشاعرة لم تقطع صلتها بالقصيدة التقليدية و جمالية أوزانها و قوافيها (« شاغبت عطرها ذات مساء »)، بل ربما تستهدي بقيمه لتوظفها حسب ما يقتضيه العصر... و إذا كان البلاغيون و علماء الأسلوبية قد عرفوا الظاهرة المجازية بأنها: استعمال للكلمة في غير ما وضعت له للمبالغة والاتساع، فإن الشاعرة رهف محمد خليل قد تجاوزت ذلك الحد إلى صور متمنعة عن حدود المجاز وسياجه. و هو ما تؤكده ربما بتوظيفها، في المقطع من قصيدتها أعلاه، لتقنية تكرار نفس المفردة (« أنثى تولد من سحابة أنثى« ...و » ضفائر تداعب الماء بالماء« ).. و هذا ليس مجرد تلاعب بالكلمات للزخرفة و إثارة الفضول.. الشاعرة جد واعية بأن لكل رنة كلمة وظيفتها، و بالصور المتناغمة تصنع قصيدة/ قضية، و ربما يتلمس القارئ ذلك يشكل أكثر وضوحا في هذا المقطع من نصها « ألهو بطين الكلمات« : « ألهو بطين الكلمات .. ...... وأصنع... رغيفاً وشمساً ووطناً .. لايموت »... و كأنها بذلك » تتخطى المعاني الأصيلة للألفاظ العربية بتحريرها من معانيها، وغسلها وتطهيرها من طلاء التراث » كما يقول الناقد عدنان رضا النحوي في تقويم نظرية الحداثة.... و الأمثلة على ذلك كثيرة عبر نصوص الشاعرة رهف محمد خليل ، نسوق منها على سبيل المثال لا الحصر هذا التعبير الراقي و الجميل من نصها: من « ابنة شمس الضحى« ، حيث كتبت تقول: » أنثى معجونة بصلصال الكبرياء« .... هكذا نقرأ بمتعة لا تضاهى بعض من تجليات الحداثة... و للتذكير، « فالشاعر الحاثي، كما جاء في رسالة لنيل الدكتوراه للباحث العراقي سلام مهدي رضيوي الموسوي، لم ينطلق في وضعه لأفق الحداثة الشعرية من عالم جلي، و واضح، لذا جاءت محاكاته لهذا العالم غير منسجمة و تجسيداته المرئية، إذ أخذ الشاعر الحداثي يقرأ الوجود من خلال ما يكتنف ذاته، و ليس قراءة خارجية لهذا الكون، أي أن الحداثي يسقط ما يراه بمنظور رؤيته على هذا العالم، لذا حفلن نصوصه الشعرية بجملة من الجماليات، التي تشكل فرادة جديدة كالسؤال، و الكشف، و التجاوز، و الغموض، و الرؤية... » 1 الفرادة (أو التفرد distinction) : لما نقرأ هذا المقطع من« ألهو بطين الكلمات« : « أصنع رجل من أصص الورد أرسمه بنصف الحنين أزرعه سنابلا بين الضلوع » يتميز هذا المقطع بتوظيف أفعال الحركة و »الخلق » (Verbes d'action/ de création): « أصنع...أرسم...أزرع »...خلافا ما يتردد في نصوص كثيرة لجل الشعراء إناثا و ذكورا الذين يميلون أكثر لأفعال الوصف و الكينونة و التعبير عن الأحاسيس... و ماذا تصنع؟ « رجل من أصص الورد« ، و ماذا ترسم؟ الرجل « بنصف الحنين« ، و ماذا تزرع؟ « تزرعه سنابلا بين الضلوع« فلنبحث عن تشابه، أو اقتباس، أو تناص لهذه الجمالية لها علاقة بنصوص أخرى لغير الشاعرة ... البحث سيكون مضنيا و بدون نتيجة...هنا تكمن الفرادة... 2 السؤال: في نص تحت عنوان « بعد المساء بدمعة »، نقرأ السؤال: « صوت الحنين اعمى، لمحوه.. قيل يسعى نحو شام الياسمين، نحو يافا والجليل، نحو صنعاء البعيدة.. نحو بغداد العنيدة.. ماذا نسمي القصيدة ؟! »... أليس هو السؤال الذي نطرحه كلنا؟ سؤال مصير الربيع العربي؟ سؤال كل العرب؟ سؤال كل من لا زال يسكن بداخله إنسان؟... 3 الكشف: السؤال السابق له جواب في نصوص كثيرة، لكن أكثرهم وضوحا هو الذي تقول فيه: قصيدتي ليست مهمتها مضيفة طيران.. » رغم ابتسامتها الساحرة قصيدتي 0نثى ماكرة.. تخطط لخطف الكابتن والطائرة اربطوا الأحزمة » 4 التجاوز: قد يكون التجاوز بلاغيا قد وفى الجمالية حقها، لكن تجاوز الواقع المرير قد لا يتأتى إلا بالحلم، هكذا تقول: « كي أزهر ورداً في صمت عيونك أونجمة صبح تتألق فوق ازارك لعل نفك الحصار المضروب على الحلم ليتدفق بلا نهاية نور الحواس العشر« ... !! 5 الغموض و الرؤية: يقول عز الدين اسماعيل ( في الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية: » على القارئ أن يستمتع بالقصيدة كما يستمتع بقطعة موسيقية يستمعها فهو لا يستطيع ان يفسرها ولا أن يفهمها ولكنها تلمس عاطفته والشعر هو أقرب الفنون إلى الموسيقى، «لأن كليهما فن زماني».و»ان كل ضروب الفن تصبو إلى الوصول إلى مستوى التعبير الموسيقي »... لما نقرأ لها: » على جذع السماء مسكت قلمي وانحنيت أرسم وجهك أيقونة في جبين المساء وأشعل سفحاً من الياسمين ونهراً فاضت به ضفتاه .. !! ».. ليس علينا ان نتساءل إن كان للسماء جذع؟ أو للمساء جبين؟... الصورة لا تكتمل بمعاني المفردات الظاهر منها و الباطن...لأن القصيدة كالسمفونية لا تقفيم بنوتاتها و مقاماتها المختارة، بل بما تساهم به كل الأجزاء في تناغم لصناعة الكل، الكل الجميل.... و لنا عودة