قد لا يُرضي هذا العنوان الكثير من الأطباء المحترمين ويرون فيه تجنيا على المهنة الإنسانية النبيلة، التي كفاها شرفاً وكفى أهلها فخراً أن جعلها الله إحدى معجزات عيسى عليه السلام ،حيث قال تعالى على لسان المسيح :"وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله" . ولذلك، ارجو من شرفاء أنبل المنهن، وأتمنى ألا ينزعجوا من مثل هذا العنوان، لأنه ليس حكما شاملا، أو قاعدة عامة تشمل كل من أأتمنه الله على أرواح عباده، ولأن هناك استثناءات تبعد الغالبية العظمى من الأطباء المخلصين لقسم المهنة، من تهمة "تحويل الطب من مهنة إنسانية إلى اخرى تجارية بحتة، تفقد المريض كرامته وثقبت جيوبه" ، وأن هناك الكثير ممن أفنوا زهرة شبابهم في تقديم الخدمات الطبية للمرضى ، وتفانوا في تضميد الجراح وعلاج الأدواء، متغلبين على قساوة ظروف العمل، ونقص الإمكانات، بالصبر والأناة والروية والرفق والحكمة، المرتكزة على ثقافة وتجربة مشفوعة بعقيدة راسخة، تنبع عنها أخلاق حميدة، أبرز ما فيها، الرحمة والشفقة والتعاون مع من حولهم لإشفاء على الأدواء ، يدفعهم إيمانهم صادق بأنهم يمارسون مهنة نبيلة، إلى النجاح في تقديم رسالتهم الإنسانية الحقيقية التي لا ترتهن للماديات. مناسبة هذه المقدمة الطللية هو، أن تلك الاستثناءات، مع الأسف الشديد، هي في حد ذاتها، تثبيت لوجود من يخرج من الأطباء عن أخلاقيات المهنة، وتحويلها إلى أرقام في قائمة حساباتهم المالية، التي تغرف من جيوب الكتل البشرية التي تؤم عياداتهم، وتمتلئ بها قاعات انتظارها، التي أصبحت كأسواق "الدلالة" التي - لا هم للتجار بها ، سوى جمع المال في آخر كل نهار- لا يسمع بها إلا تلك النداءات الروتينية المتوالية والمتكررة، على أرقام ترتيب تحملها كائنات شاحبة الوجوه ، يهرع منها من يسمع رقمه، بعد طول إنتظار، الى قاعة الفحص، حيث يجلس طبيب بوزرته البيضاء الناصعة، الى مكتب عريض، ويعبث بسماعتيه، أو يداعب قلمه الفاخر -المهدى غالبا، من إحدى شركات الأدوية التي يروج لمنتوجاتها- ويتحدث الى المريض باقتضاب ممل، ودون أن ينظر إليه، ويحدث أن ينظر ، من تحت نظاراته ال"سينيي"، نظرة تقزيم - وربما على اعتبار أن الطبيب أرفع منزلة من المريض بما له من معرفة وشهادات ودراية بأوضاع المريض المحدود القدرة على التعافي بالاعتماد على ذاته- ثم يشرع في خط وصفة دواء، قد تنطبق على مرضه، وقد لا تنطبق، ثم يشير له في اتجاه الباب حيث المساعدة "السكرتيرة" التي تقبض مبلغ الفحص.. عفوا، أقصد مبلغ الزيارة التي لم تدم أكثر من خمس إلى سبعة دقائق، وهي تنادى على الرقم التالي، فيهرع صاحبه المسكين في خنوع، الى نفس قاعة الفحص، ليلقى نفس ما لقيه العشرات المرضى قبله، في هذا اليوم، وفي كل يوم، صباحه ومساءه، وهكذا، دون التأكد من فهم المريض لما قيل له، إن هو قيل له شيء يذكر غير التذكير بتكرار الزيارة وموعدها، وتوجيه لعيادات أو مختبرات بعينها، للقيام بالعديد من الفحوصات، ودون اشراكه ومناقشته وسؤاله مباشرة حول ما الذي عرفه عن مرضه، وما الذي استوعبه عن درجة تغلغل المرض لديه، وما الذي استنتجه من نتائج وعواقب استخدام أي وسيلة، أو طريقة من الوسائل والطرق المتاحة لمعالجة حالاته، وكأن الأمر بسيط، ولا يستحق الإهتمام، أو انه ليس ثمة حاجة إلى إشراك المرضى في اتخاذ القرارات المتعلقة بكيفية معالجتهم، خاصة وأن كل حركة من حركات الطبيب، وكل تصرف من تصرفاته تؤدي دورها وتعطي نتائجها في تثقيف المريض، الذي يفتح أمام الطبيب العديد من خيارات العلاج، لأن التعامل الإنساني مع المريض هو نصف العلاج كما يقولون.. الأمر الذي يدفع لطرح أسئلة كثيرة في غاية الخطورة مثل: هل تحولت مهنة الطب من مهنة إنسانية هدفها إنقاذ الأرواح إلى تجارة تدر الملايين على صاحبها؟ وأين قسَم الأطباء الذي يلزمه بالحفاظ على أرواح مرضاهم ويمنع قبح المعاملة، وسوء الخدمات؟ وهل من حق المريض على الطبيب التعامل معه بشكل إنساني واحترام آدميته وليس النظر إليه على أنه جيب ممتلئ بالمال؟والكثير الكثير من الاسئلة التي يضيق المجال لطرحها، والتي يشكو منها الكثير من المرضى وذويهم الذين يرون ان الجشع قد أفقد بعض من أأتمنوا على أرواح المرضى، إنسانيتهم التي يجب ان يتحلى بها من خصهم الله بالعلم والقدرة على تخفيف آلام الناس، ومعاناتهم مع ما يصيبهم من امراض؟ لكن وللأسف، فقد أضحى الطب عند البعض، مهنة أقرب الى التجارة منها الى الخدمة الإنسانية، ما ترتب عنه عدم رضا المرضى بالطب، وفقادنهم الثقة بالكثير من الاطباء الى حد الخوف من فقدان الحياة جراء ما يأتيه بعضهم السلوكيات خاطئة في التعامل مع المرضى، طتلم التي عانيت -مند فترة وجيزة- في تجارب شخصية حية، اضطرتني للتنقل بين عدد من المتخصصين المشهورين منهم، سواء في فاس أو الرباط، وذلك بسبب ما ألم بي من ألم في موقع حساس من بدني، وما كان يصحبه من موجات من الكآبة التي كانت تستمر أياما وأسابيع، لم تنفع معها كل المسكنات الصيدلانية منها والمستحضرة من الاعشاب "البلدية" ووصفات الجدات. ملخص التجربة، أني لاحظت، بل عايشت، تصرفات استخفافية قاسية لدى جل من زرتهم من الاطباء الأجلاء، الذين ما كان يكاد ينتهي الواحد منهم من فحصه -إن هو بدأه والذي لا لم يكن يتجاوز وفي أحسن احواله الخمس دقائق- دون أن يكلف نفسه عناء سؤالي عن تاريخ مرضي، أو عن استخدامي لبعض الأدوية التي قد تتعارض مع الدواء الموصوف، أو إن كان لدي حساسية من البنسلين، حتى يمنحني العلاج المناسب لحالتي، حتى يشرع في خط وصفة مثقلة بالعديد من الأدوية والفحوصات المخبرية، المفصلية والتقطيعية والإشعاعية، وكأنه يُدرك علاج كل حالة مرضية يتولى معالجتها، ويفهمها "طايرة فالسما" كما يقال في دارجتنا؟. حدث ذلك معي شخصيا لأكثر من ثلاث أو أربع مرات، ومع أشهر الاختصاصيين، والذين لم يكلف أحد منهم نفسه إعطائي قدرا ولو بسيط من التثقيف حول حالتي، ودون إشراكي في اتخاذ القرارات المصيرية لإنجاح عملية علاجي، والتي تتطلب منهم أولا -وبغض النظر عن الجهد والوقت الذي يوفرونه لجمع المال على حساب مرضاهم: إتقان كيفية تقديم الرعاية الطبية، وثانيا: إتقان انتقاء الوسائل العلاجية الممكنة والمتوافرة، وثالثا: إتقان بناء قرار النصيحة الطبية التي تقال للمريض بالتوازن بين ما هو ملائم، وما هو لازم له ولحالته المرضية، كما تأكد ذلك كل الدراسات الطبية المهتم بمهنة التطبيب، وعلاقة محوريها الأساسيين: المريض، المحور الأول الذي يطرح نفسه بين يدي معالجه، والطبيب، المحور الثاني الإنسان الذي وهب حياته باسمًا يداوي جراح المرضى، ويمسح عنهم الحزن ويسحب الهموم والآلام، كالدراسة التي صدرت لبعض الباحثين من "مركز دارتمواث لعلوم تقديم الرعاية الصحية" في مدينة هانوفر بولاية نيوهامشير الأميركية، والمنشورة في عدد 8 للمجلة الطبية البريطانية «BMJ» حول "معرفة الأطباء بما يفضله المرضى في معالجتهم وما هي تكاليف سوء الفهم في هذا المضمار" والتي أكد نتائجها " ألبرت ميوللي" الباحث الرئيسي للدراسة: إن "التأكد من أن طريقة المعالجة توافق رغبة المريض ليس بمجرد سؤال المريض ماذا تريد، بل يتطلب ثلاث خطوات محددة، أولاها عقلية طبية غير متحيزة تعتمد الفرز المبني على المعرفة العلمية، وثانيتها استخدام البيانات والحقائق للوصول إلى التشخيص، وثالثتها إشراك المريض في المراحل الثلاث المعروفة لاتخاذ القرار وهي: العمل كفريق، وتداول الآراء، والحديث عن صيغة القرار قبل اتخاذه". وهكذا، فمتى تمت الخطوات الثلاث متكاملة، والتفت الأطباء إلى ممارسة عملهم بطريقة تتميز بجودة الأداء في التعامل مع المريض، وتثقيفه بطريقة واعية، فإن مسار العلاج يكون أكثر فعالية في شفاء المريض بالإمكانات المتوافرة دون جنوح نحو الهدر غير المبرر. لكن، وكما يقال "فاقد الشيء لا يعطيه" ، وكما جاء في البحث أن بعض الأطباء غالبا ما "يهملون" أو "يتجاهلون" أو "لا يفهمون" ما الذي يريده المرضى ويفضلونه، وأن "الخطأ في تشخيص الرغبة" (Préférence diagnostic) قد يكون ضارا بالمرضى وينعكس على حياتهم بالسوء، ويتسبب في كل عُقَدِهم وتوتراتهم النفسية والجسدية والجنسية وحتى الفكرية والتحررية، وبالتالي على جهلهم وتخلفهم، لأن التعامل الإنساني بين الطبيب ومريضه، هو نصف العلاج، كما يقال، لما لتلك العلاقة الإنسانية بينهما، والمبنية على الإنصات بالأذن وطرف العين وحضور القلب وعدم الانشغال بتحضير الرد وعدم الاستعجال بالرد قبل إتمام الفهم، من دور فعال، وأثر وتأثير جلي ومفيد، حينما تكون مؤسسة على نوع من الرعاية المشتركة التي تمكن المريض من تحمل قدر كبير من المسؤولية تجاه رعايته، اما كانت مبين على التعالي والتقزيم، فإنها لا شك إلى شعر المريض بعدم الرضا أو القلق أو الخوف أو الوحدة. ويصبح سلوك الطبيب في وجود المريض أمرًا صعبًا عندما يجب على أخصائي الرعاية الصحية شرح تشخيص غير محبوب للمريض، في الوقت الذي يحافظ فيه على عدم إزعاج المريض. لا أخفي القارئ الكريم سراً، إذا قلت أني شعرت بكل تلك الاحساسات المريرة مجتمعة، والتي أبقتني في حيرة من امري، إلى درجة قررت معها ان ألا أكرر التجربة مرة أخرى مع أي طبيب من بلادي، مهما كانت شهرته، ليس لأنهم جميعهم من تلك الطينة، لا وألف لا، و"حشى جوادهم" كما يقول المثل الشعبي المغربي، فهناك منهم الكثير من الشرفاء الذين يحترمون أنهسهم، ويشرفون مهنة الطب، وهم يملؤون البلاد طولا وعرضا، لكنه حظي "المهبب" كما يقول المصريون، هو الذي أوقعني بين يدي اللذين حولهم الجشع إلى تجار بوزرة أطباء. لكن، ومن حسن نفس الحظ، هذه المرة، أن أحد ابناء عمومتي "السي لحسن" اخبرني عن وجود طيبب إنساني جربه بنفسه، استسلمت لإلحاح قريبي، رغم أنه سبق لي أن قررت مرغما لا عاشقا، التماس الشفاء خارج الوطن، وقد بدأت فعلا في إجراءات اللجوء إلى أطباء بلاد أخرى أكثر إنسانية. قصدت عيادة ذاك الطبيب الدكتور"x" على سبيل التجربة فقط، وأنا واثق أنها ستكون آخر تجربة لي مع الطب في بلادي.. ولجت العيادة وكلي تصميم على ألا أترك سنتمترا واحدا مما بداخلها، وأي حركة أو سكنة لكل من بها، وعلى رأسهم الطبيب صاحبها، عملا بمقولة زهير بن أبي سلمى: ومهما تكن عند امرئ من خليقة// وإن خالها تخفى على الناس تعلم فترصدت كل تصرفاته وأفعاله، انفتاحه وحضوره، وحتى نبراته الصوتية، ولغته الجسدية، كي أكون فكرة تعينني على نسج انطباع عن افكاره وآرائه كطبيب، واوجه الشبه والاختلاف بينه وبين من "خوفوني"، بل عقدوني من التطبيب في المغرب، بالمرة.. وبعد ترحيب الطبيب (x) -الذي كانت ابتسامته ومظهره، رغم بساطتهما الأنيقة، يوحيان بالراحة والاطمئنان - وسؤاله عما أعانيه، فسح لي مجال الحديث عن مرضي وهو ينصت دون مقاطعة ، حيث كان بارعاً في الإنصات بالأذن وطرف العين وحضور القلب وعدم الانشغال بغيري او الاستعجال في الرد قبل إتمام الفهم، تمثلا بخلق رسولنا الرفيع ، والذي كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس إنصاتاً للآخرين.. وبعدها أفاض في محوارتي بلغة سليمة عذبة، همه إيصال أفضل ما توصلت إليه العلوم الطبية من اكتشافات ومعلومات وطرق علاج خاصة لمثل حالتي، وبأسلوب سلس وناضج، والتي –كما أكد مبتسما- انه ليس في مقدور أي طبيب اللجوء لأي طريقة علاجية من تلك الطرق، أو حتى تقديم النص والنصيحة الطبية بالطريقة الصحيحة لمعالجة مريضه، ما لم يجري عددا من الاختبارات والفحوصات الدقيقه والشاملة التي لابد من إجرائها بشكل مدقق وواضح. سلوك -مخالف تماما لتجاربي السابقة مع غيره سامحهم الله- يدعو إلى الاطمئنان إلى أقصى درجاته، لما يستشف منه أن الطبيب (x) على وعي ودراية بقيمة ودور العلاقة الإنسانية في تحسين التواصل بين الطبيب ومريضه، وآثاره الحسنة على نفسيته وقلوب المرضى، والتي لا تكتسب إلا بالعلم ، لإن الجهل لا يأتي بخير، كمان قال عمر بن عبد العزيز: " من عمل بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح ". لذلك أصبحت حاجة الطبيب ملحة إلى تجديد قدر كبير من المعلومات العلمية، كي يستطيع تشخيص حالات مرضاه ومعالجتهم ، وباتت غالبية المرضى لا تثق ولا تقدر إلا الطبيب العالم المستبصر بعلوم فنه، المواكب لركب تقدمها، لأن مسئوليته عن غيره، تفرض عليه أن يقدم لمرضاه أفضل ما توصلت إليه العلوم الطبية من معلومات وطرق علاج ، ما يجعل وقته ليس خالصاً له ينفقه كيفما شاء. وقد صدقت العرب حينما قالت: "الملوك حكام على الناس ، والعلماء حكام على الملوك" .. حميد طولست [email protected]