على امتداد التاريخ ظلت الصناعة التقليدية مرآة الشعوب ومقياسا حقيقيا لرقيها الحضاري وحجم تفننها الإبداعي، وبالمغرب على الخصوص شكلت على الدوام محط إعجاب وافتتان لكل الناضرين الوافدين منهم أو المحليين، هي كذلك مصدر عيش ورزق لاينضب أعطى أجيالا تلو أخرى كبرت ونمت ببركة وعطاء تلك الأيادي السخية التي بحثت، نقبت، اجتهدت، فأبدعت، وهذا ليس بغريب على إبداعية الأنامل المغربية العريقة والثاقبة في الأصالة والذوق الراقي، فحظيت بشرف التقدير العالمي عن جدارة واستحقاق، فكيف هي اليوم الوضعية الراهنة لتلك الأنامل المبدعة ا مقارنة مع دول أخرى؟ ثم ما هي أهم المكتسبات التي حققها القطاع والتي من شأنها أن تسمو بمكانته،وبالتالي ماهو استشراف المستقبل الاجتماعي السياسي والاقتصادي للقطاع؟.
بين الإفلاس والانتعاش الصناعة التقليدية بالمغرب: قصة فن عريق تهدده العولمة فاطمة بوبكري.
إذا كانت هته الشريحة البسيطة والطيبة، تعمل في بدايتها على كسب قوتها اليومي، فهي في نفس الآن تعمل على نسج خيوط الذاكرة الأبدية للمغرب من ذهب وعبر مر التاريخ فكل حقبة تاريخية اجتازتها بلادنا، أسست الصناعة التقليدية مميزاتها وبصمت حضورها بكل رونق وجمالية لم تزل شاهدة على فن وإبداع الشخصية المغربية الحرفية إلى أبعد الحدود، فإن كانت الصناعة التقليدية والحرفيون بالمغرب يحظون بهكذا أهمية و أدوار ريادية فحري بنا إيلاءها المكانة اللائقة بها، مع الأسف الشديد ظل هذا القطاع ولردح من الزمن، ينظر إليه باستخفاف وبنمطية عادية، ولم ينتبه إليه قط إلا في السنوات الأخيرة حيث وعى الجميع بحجم مكانته وعمق أبعاده ودلالاته، وهذا بعدما أوشك القطاع على الانهيار والسكتة القلبية التي تعمد على محو آثاره،في ظل العولمة والتقليد وانفتاح السوق، في الوقت الذي لم ترسم فيه بعد أية ضمانات اجتماعية يمكن من خلالها الحرفي أن يعي موقعه في ميدان اشتغاله بكل كرامة وطمأنينة، العولمة التقليد والمنافسة، أخطار تتهدد الحرفيين بالإفلاس؟! راكم المغرب رصيدا مهما، غنيا ومتنوعا من الصنائع والفنون اليدوية، ضاهت أكبر المعالم الإبداعية العالمية ، بل وساهمت في صنع تاريخ الكثير من الحضارات، والجميع يشهد لها بالتفوق والإبداع والتفنن، حتى أن بصمات الصانع المغربي موجودة في أهم وأغلب دول العالم التي أبت إلا أن تستعين بمهارة وفنية الصانع المغربي الراقية، بعدما ذاع صيته وارتقى درجات عليا من الجودة والخبرة والدربة، بفضل الموهبة الربانية والفطرة الخلاقة،فتراه ذلك الحرفي الماهر في الخياطة والخرازة ،الجبس والنقش على الخشب والخزف، هو كذلك مبدع السجاد المغربي المرموق، وفسيفساء الزليج المتميز وكل أصناف المهن الحرفية التي لا حد لها ببلادنا ويكفيه فخرا مشاركته في تشييد أكبر المعالم العربية الإسلامية . ففي كل حاضرة من حواضر المملكة، تخصص رائد في أحد أنواع الصناعات الحرفية التقليدية، فليس عبثا أن ترى ذلك الحرفي المتمرس مقوس الدهر مجعد الوجه مستمرا في عطائه و وفائه لحرفته بكل إتقان وسخاء لن يمنعه شئ عن محاكاتها سوى الأنفاس الأخيرة من عمره، وما تلك التقاسيم والتجاعيد،إلا اختزال لتجارب تاريخ زاخر بأكمله، لكل مقومات الصنعة المتقنة بكل تفنن وعناية لحقب تاريخية، بعينها غنية بموروثها الثقافي الفني والتراثي، إنها مدرسة حقيقية في شخص الإنسان المغربي "شغل لمعلم الحرايفي"، هذا الأخير الذي تعدى حدود الإعجاب والتقدير بل صار محور دراسة وموضوع تحليل وفضول، لدرجة شكل فيها مادة للرسامين الذين أثارت وجوههم ووضعيتهم في الاشتغال منار صورة تغري بالرسم وتستحق الخلود، وكثيرة هي الأسماء التي اشتغلت على الحرف المغربية والصانع التقليدي سواء أكانوا رسامين، سينمائيين، أو حتى أدباء من كتاب وشعراء استهوتهم فكرة الاشتغال والتخصص فيه. إن هذا المقام والمكانة التي يتبوؤها الصانع التقليدي المغربي في رسم تاريخ الذاكرة التراثية للمملكة ، لم تشفع له بالعرفان وجزيل الثناء، فمراحل تطور الصناعة التقليدية بالمغرب لم تمر بسلام وأمان بعدما عصفت بها الأمواج والتيارات إلى مالا يحمد عقباه، فإن كان واقع الصناعة التقليدية لايمكن على أية حال فصله عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي بشكل عام ، والذي يبقى بالضرورة متأثرا بالتحولات العالمية التي عمل المغرب على مجاراتها، بعدما فرضت التبعية الاقتصادية نفسها، وكذا تطبيق المغرب لسياسة التقويم الهيكلي وتوصيات المنظمة العالمية للتجارة وتوقيعه على اتفاقيات الشراكة والتبادل الحر، الشئ الذي جعل من الصناعة التقليدية المحلية لاتقوى على منافسة غزو منتجات الشركات الأجنبية في ظل سياسة الانفتاح الشامل وإلغاء الحواجز الجمركية، فغول العولمة والتقليد الذي تفننت فيه بلدان آسيا خاصة الصين، وانتشار السماسرة الذين يتاجرون بالقطاع، شكل على الدوام الخطر المحدق الذي يتهدد الصناع التقليديين بالمغرب الذين أشرفوا أو صاروا قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس. حتى أن الاهتمام بقطاع الصناعة التقليدية، كونه قطاعا اقتصاديا، ومحركا تنمويا بامتياز، لم يلتفت إليه إلا من خلال السنوات الأخيرة، بعدما وجد الحرفيون أنفسهم مهددين في لقمة عيشهم كما أن موارد الصناعة التقليدية التي تعد بحق مثار اهتمام وانتباه السياح الذي يقبلون عليها بنهم،نظرا لجماليتها وتفننها المنقطعتي النظير، وبالتالي كانت تذر أرباحا مهمة على مداخيل الدولة ، جعلت هته الأخيرة تتنبه إلى هذا التجاهل ومحاولة استدراك الأمر، فلا طالما اقتصر تعاملها مع القطاع من وجهة نظر اجتماعية محضة ، بتخصيصها بعضا من الدعم والمساعدة البئيسين، دونما الارتكاز على أية سياسة إنعاشية أو تنموية مما فوت على القطاع فرص التطور والمساهمة الفعالة في تحقيق التنمية الشاملة لبلادنا ، حتى تكرس في ذاكرة جل الناس أن مفهوم الصناعة التقليدية يوازي كل ماهو قديم وعقيم ، كما أن مستقبلها لن يعمر طويلا بحكم التطورات التكنولوجية والسرعة التي تتطلب منتوجا تقليديا بصيغة عصرية وسريعة ، الشئ الذي ينبئ بالسكتة القلبية للقطاع. ومن جهته كذلك ظل الصانع التقليدي مرتبطا بسياسة الاتكال على الدولة التي لازمته لردح من الزمن ،حيث تقلصت فرص المبادرة لتحسين الوضع،في الميدان وكذا في المحيط الاقتصادي، متحديا كل المشاكل والإكراهات. فالحرفي بعدما يعد منتوجه ويقبل على عرضه في السوق فإن هذا الأخير يخضع لضوابط معينة ، ذلك أن تنظيم الأسواق هو من اختصاص المجالس الجماعية ، غير أن دور هذه المجالس لايتعدى حدود إحداث وتنظيم الأسواق ، في حين أن ضبط عملية البيع والشراء تبقى خاضعة لإرادة التجار وأمناء الحرف والمحتسبين الذين يشكلون تحالفا ضد مصالح الحرفيين، وهذا ما يثبت أن الحرفي يبقى معزولا عن أية حماية ، هذا في غياب الإطار القانوني والنقابي ، من شأنه أن يدافع عن مصالحهم، فيما تقوم غرف الصناعة التقليدية بتنظيم معارض للتعاونيات بتنسيق مع الجهاز الوصي ، فيما لايستفيذ من هذه المعارض إلا المتاجرين بعرق الحرفيين البسطاء ، وهذا مايحتم العمل على خلق إطارات جماهيرية تضم المنتجين الحقيقيين، حسب القطاعات، بغية تكتيل الحرفيين في مواجهة أخطبوط المشاكل المحدقة بالقطاع ،فعندما يجد الحرفيون الإطار النقابي من أجل الدفاع عن مصالحهم المادية والمعنوية ،فذلك في نفس الوقت يعمق لدى الحرفي الوعي الطبقي الممارس عليه ، وبالتالي تسلحه بأدوات النضال من أجل الكشف عن طبيعة الاستغلال في حق هذه الفئة العريضة والعزيزة من المجتمع المغربي. اجتهادات الدولة لإنعاش الحرف التقليدية بالمغرب. من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة للنهوض بالقطاع، في إطار رؤية 2015 ، التي انطلقت منتصف 2006 بفرع الديكور، ماتعلق بالتغطية الصحية المجانية وتسهيلات في قروض السكن، كما أصدرت الحكومة مؤخرا المرسوم الأخير 0307 ، الخاص بالتأمين الإجباري الأساسي عن المرض لبعض فئات مهنيي القطاع الخاص ومن جملتهم الحرفيين والصناع التقليديين، وفي إطار رؤية 2015 دائما ، صرحت الدولة أنها ستقوم بدعم من لقبتهم ب "الفاعلين النموذجيين الكبار"،سيختارون عن طريق طلب عروض ترافقهم الدولة عبر المشاركة في تمويل البرامج التنموية بعقود على مدى سنوات عدة . ومن الإجراءات أيضا والتي كان معولا عليها بشكل كبير،هو إنشاؤها لدار الصانع أو ما يسمى بقرية الصناع، كفضاء يحتضن جميع الحرفيين والعاملين في قطاع الصناعة التقليدية للتعريف بمنتو جهم وخلق كل الفرص التي من شأنها أن تساهم في تسويق تلك المنتجات سواء داخليا أو خارجيا ، وبالتالي السهر على تلميع صورة الصناعة التقليدية المغربية، وقد وضعت دار الصانع هته والتي تدخل هي كذلك في رؤية 2015 ،على تسطير أهداف إحداث أكثر من 117 ألف منصب شغل ورفع حجم الصادرات إلى سبع مليارات درهم ، مع العمل على توسيع عدد المقاولات الصغرى والمتوسطة إلى ثلاثة مائة، وبصيغة أخرى الانتقال إلى 15 مليار درهم و331 ألف صانع . كما حرصت الدولة على سياسة تنظيم المعارض الوطنية والجهوية عبر التراب الوطني، بهدف التسويق الداخلي لمنتجات الصناعة التقليدية ، وفي هذا الإطار دائما أنيطت بغرف الصناعة التقليدية باعتبارها تجمعا للحرفيين والصناع التقليديين وإطارا قانونيا يؤطر قطاع الصناعة التقليدية، كما يعد في نفس الآن تجمعا للحرفيين والصناع التقليديين، يخضع لضوابط ظهير 28 يونيو 1963، إضافة إلى ما أدخل عليها من تغييرات، وهي تملك صفة مؤسسات عمومية خاضعة لوصاية الوزير المكلف بالصناعة التقليدية، من جهة، ومن جهة ثانية مكن لها القانون مجموعة من الصلاحيات ذات الطبيعة الاستشارية سواء في علاقتها مع السلطات المركزية أو المحلية مع باقي الأطراف الأخرى خاصة الجماعات المحلية والتجار . رغم ما مر ويمر على قطاع الحرفيين والصناع التقليديين ببلادنا من عوامل التأثير والتأثر ، خاصة تلك المرتبطة أساسا بموجات التطور التكنولوجي والصناعي فإن حضور القطاع يبقى قائم الذات ، بصفته مجالا طبيعيا لممارسة عدة أنشطة وخدمات ، من طرف فئات واسعة من المجتمع المغربي ، مستمدا قوته في ذلك من رصيده الإبداعي الغني ، المتنوع والمتراكم عبر عصور خلت وأجيال بصدد التكاثر والتزايد ستحفظ لامحالة بذاكرتها هذا الإرث الذي لن يكون إلا مستمرا رغم كل الحواجز والإكراهات العصيبة في انتظار أن يلتفت إليه بعين المسؤولية والواجب ليس فقط تجاه أشخاص بعينهم بل إن الأمر يتعداه إلى ما هو أكبر وأعظم إنه الإرث الثقافي والحضاري لبلد مترسخ في الأصالة والفن الإبداعي .
محمد قدوري: المرسوم الأخير الخاص بالتأمين الإجباري عن المرض لايتناسب مع وضعية الصناع التقليديين أكد محمد قدوري رئيس غرفة الصناعة التقليدية بمدينة الناظور ، والنائب الأول لرئيس جامعة غرف الصناعة التقليدية بالمغرب، في معرض تصريح له مع الجريدة، أن المرسوم الصادر أخيرا والمتعلق بالتأمين الإجباري عن المرض، يعد إجراء لايتناسب مع وضعية الصناع التقليديين ، على اعتبار النقاش الدائر مؤخرا على طاولة الوزارة الوصية ، حول الإمكانيات والسبل الممكنة من أجل إيجاد التأمين المناسب والطريقة المناسبة التي تلائم هذه الشريحة المهمة للغاية ، في الوقت الذي تعرف فيه وضعية الحرفيين والصناع التقليديين تفاوتا وتباينا من حيث الوضع الاجتماعي ،كما أن أغلبيتهم يعانون من مشاكل كثيرة في حياتهم اليومية وسد حاجياتها مع ما تتطلبه من متطلبات خاصة منها الأسرية،الأكثر إلحاحا وتعقيدا ، وفي المقابل تبقى ظروفهم المادية جد ضعيفة ، وهذا النوع من الصناع التقليديين يشكلون السواد الأعظم في شريحة الصناع التقليديين، كما أشار إلى مشكل من الإشكالية بما كان ، وهو المرتبط بالقروض البنكية وصعوبة التعامل معها في الحصول على قروض، هذا في الوقت الذي تنص فيه اتفاقية إستراتيجية 2015 من بنود في هذا الصدد، للنهوض بوضعية الصانع التقليدي الذي لا يمكنه في الوقت الحالي تغيير وضعه نحو الأحسن في ظل الظروف والإمكانيات المتوفرة لديه.