هذا زمن دخلت فيه التقليدانية برموزها عالم الإجماع الافتراضي وأسست مجالس فضائية للقبائل، وصار الميسورون من بدو أمة الضاد يقفون لكل ما هو معقول بالمرصاد.. جلوس على أرائك النفط وتحكم في إبل رباعية الدفع المعاييري تجر منابر الرأي والرأي الآخر نحو الاتجاه المعاكس. وحديث الثورة عندهم بما فيه من انتقائية لما يكون أو لا يكون تحت المجهر ليس سوى أسلوبا جديدا للثأر القبلي والسعي وراء الغنيمة. وإذا اتوا على خصم ضربوه ضربة رجل واحد يتفرق دمه بين الفضائيات.. بانوراما ثقافية لا تتعدد فيها الأبعاد فقط، بل إن تعدد المعايير من مميزاتها. تتمظهر فيها طبائع سلف عصور التبرير للعبثية الخلاقة في تاريخ هذه الأمة حيث خلط المفاهيم لإتلاف التراث الخالص. لا عجب إذن في شياع ثقافة الإساءة إلى مفاهيمنا التراثية الوطنية وأهل الضاد في المغرب يجتمعون مع وعاظ الفتنة على مائدة العصر الأموي والعباسي المتلفز. فبنفس الطريقة التي هوجم بها تراثنا ومفاهيمه في شقه الإدريسي والعلوي لصالح الأموية والعباسية والعثمانية، نشهد هذه الأيام غزوات التشويه بمفاهيم تراثية مغربية منها موضوعنا هنا وهو "المخزن". كيف كتب على المخزن أن يشارك عايشة قنديشة نفس المصير؟ ألم تكن امرأة مقاومة تستدرج بجمالها جنود المستعمر لتقتلهم في النهاية، فتحولت أسطورتها إلى امرأة شريرة تخرج على الرجال في الخلاء لا يضاجعها رجل إلا التهمته في النهاية؟ هل مفهوم "المخزن" تحول من محور الخير إلى محور الشر صدفة؟ سوق عكاظ الفضائي نشهد هذه الأيام اكتظاظا في سوق عكاظ الفضائي وتعدد الخيام فيه. هنا خيمة الوصال وهناك خيمة الناس وبينهما خيمتا الخليجية والحكمة وفاتورة الإنارة والإثارة على حساب قافكو وآرامكو. شبابنا في سوق عكاظ الفضائي لا يفعل مثل شباب قبائل العرب القدامى الذين كانوا يتفاخرون بأنسابهم وقبائلهم في السوق. كلا، إنهم ينسلخون عن تراثهم ليلتحقوا بأول أو بثاني القوافل التي قد تحملهم إلى الموصل أو إلى كابول، وإن تعذر ذلك فلتكن الرحلة إلى السند أو الهند، لا يهم، آخرها انفجار.. في سوق عكاظ يتعذر وجود أم تلد لك من يسافر إلى الأوطان للتعارف، وابن بطوطة خير دليل.. تكاد كل فكرة تشترى من "إي عكاظ" برسالة قصيرة أو مكالمة مكلفة على الهواء تستلزم خبيرا في الانفجار النفسي الذي يقلب للناس المفاهيم ويقلب صورهم مع الحرص على تحريم نظرهم إلى صورهم بدعوى حرمة التصوير. هكذا تنقلب الصورة.. صورة المخزن المخزن (الدولة ومؤسساتها ومنشآتها) في الوعي الشعبي الجماعي بالمغرب له استعمالات عفوية عديدة. فهو لا يعني فقط الشرطة أو الدرك، لكن يعني رجال الإطفاء كذلك، وقد يوصف به مخفر للشرطة كما قد يوصف به ملعب لكرة القدم (مثل الفوتبول صالا لدار الشباب بطنجة). كانت مدارس المخزن إلى حدود منتصف التسعينيات لا يخرج منها إلا الثلاثيون الذين لا يجتازون الصف بعد ثلاثة سنوات من التكرار. كنا نسمع كلاما عن بطاقة المخزن (الهوية ) وكناش المخزن (العائلي والطبي). كنا نسمع عن منحة المخزن للدراسة في الجامعة وعن مستشفى المخزن وغيرها من الاستعمالات الإيجابية للمصطلح. وحتى الراسخون في التدخين كنا نسمع عن تمجيدهم لسجائر المخزن "الصاكا" لما تمتاز به من جودة كما يقولون. لكننا اليوم لا نجد في الغالب إلا الاستعمال السلبي لهذا المصطلح الذي يتعرض إلى تعسف ممنهج يوقد من نار الجهل الارتجالي ليستعر بإمداد طاقي من وسائل الإعلام الحرارية التي تبث من الفضاء ومن بوابة الإنترنيت.. اليوم إذا كان هناك حريق فلا بد أن يكون مشعله هو المخزن. إذا كان هناك فساد، فلا بد أن يكون من أفعال المخزن، وإذا كان هناك ظلم، فالأمر كذلك لا يختلف. فمصطلح المخزن تمت قرصنته للتعبير عن الشر المطلق ولإشاعة المخزنوفوبيا. المخزن كدولة ومؤسسات ومنشآت لما ينسب الجاهل أو المتجاهل له الشر المطلق كما في تكرار الأسطوانة المشهورة هذه الأيام ب "القمع المخزني" وما شابه، فإنه يعبر عن رفض للمنظومة السياسية والاجتماعية في المغرب ويسعى لإقامة حالة "أناركية" تعم فيها الفوضى. كيف يمكن تغويل المخزن مع العلم أن الممرض والطبيب والمعلم والحكم الرياضي والعدول والقاضي وحتى حارس السيارات الليلي كلهم جزء من المخزن؟ وحتى الأحزاب السياسية ترانا نسمع عن مخزنيتها. إن المنصف ليجد صعوبة في تمرير تعسف من هذا النوع بمصطلحات وطنية لأنه لا يعقل القبول بالتعميم السلبي الممنهج تجاه مصطلح المخزن. تداعيات استفحال العبث بهذا المصطلح تمس بواقع المواطن وتاريخه. إذا كان البعض له مؤاخذات ضد جهات معينة فليسمها دون اللجوء إلى قرصنة المفاهيم. إذا كان هناك مثلا في مظاهرة ما تجاوزات فلا بد أن يشار إلى الجهة المسؤولة كانت أمن أم وقاية أم غيرها. كما لو كانت هناك خروقات إدارية فلتوجه الكلمات والأوصاف إلى المعنيين بالأمر. وإذا افترضنا وجود نية لأصحاب استعمال مفردة المخزن في كل ما هو سلبي بقصدهم الخاص مع ذكر العام، فهم ملزمون إذن بذكر العام وقصد الخاص كذلك في الجانب الإيجابي. فيقولون مثلا أن هناك مستشفى مخزنية في مقابل "معتقل" مخزني، ومشروع تنمية مخزني في مقابل حملة مخزنية، وكذلك هم ملزمون بالحديث عن المساعدات المخزنية في مقابل التقصير المخزني وغيرها من الأمثلة. ومع غياب التوازن على الساحة التعبيرية هذه كما ذكرنا، فإن هناك صورة تغويلية لمفهوم المخزن لها آثار تدميرية على المستوى الثقافي والاجتماعي. إن شيطنة المخزن في المغرب من شأنه إعطاء المواطن صورة مختلقة كاذبة عن المدرسة والتعلم والنظام والسلم الأهلي واحترام القوانين. إذا كان هناك تزاحم بين السيء الذي يتمثل في صعوبة القضاء بشكل كبير على الانحرافات على مستوى الإدارة الرسمية والأسوأ الذي يتمثل في جر الناس إلى الفوضى، فالمفروض تجنب الفوضى العامة والمثابرة والصبر في محاربة الانحرافات بالوسائل الحضارية المتعارف عليها. النتيجة كما في تجارب الأمم هي دائما لصالح المثابر المحق. مذهب "الأنركية" والاجتثاث لا أمل فيه خاصة إذا كان الخصم هو نصف المجتمع. شيطنة المخزن من شأنها كذلك التجريح غير المبرر في نزاهة شخصيات أصيلة مثل العلامة الأديب عبد الله كنون الذي لا يمكن إنكار مجهوده في تصفية النظام الدولي بطنجة في نهاية الخمسينيات والذي سبق أن عمل في مناصب مخزنية عدة، من عمدة طنجة إلى المجلس العلمي وأكاديمية المملكة. وكذلك العلامة المحدث عبد العزيز بن الصديق الغماري الذي كان له انتماء إلى حزب الإتحاد الاشتراكي. والأديب المقاوم المختار السوسي الذي سبق أن إشتغل وزيرا. والمؤرخ المعاصر الموسوعة عبد الهادي التازي الذي إشتغل بالسلك الدبلوماسي وهو من أعضاء أكاديمية المملكة كذلك وغيرهم الكثير. هذا مع الاختصار الشديد ودون ذكر وجهاء الأمازيغ الذين تبوءوا مناصب مخزنية وممثلي الشرفاء الأدارسة العلميين وغيرهم الذين شغلوا مناصب مخزنية كذلك. فهناك الكثير من الرجال والنساء المعروفين بالنزاهة يعتبرون من مكونات المخزن سواء كانوا أعلاماً كمن ذكرنا أو من موظفي السلالم الدنيا، ولا يعقل أن يسيء إليهم أطفال في أوج ثورتهم العضوية لا يعرفون كوعهم من بوعهم ويطلقون تعبيرات تعميمية غير منصفة تعكس صوت الأجنبي كما سيتبين بالدليل. الكولونيالية والمخزنوفوبيا في ورقة انتولوجية تحت عنوان "مفهوم النسق المخزني: السيرورة والتجليات" أصل الأستاذ مصطفى أسملال لمصطلح المخزن واستعمالاته وتركيبته المهامية معتمداً على مصادر وطنية وأجنبية متنوعة. هناك مآخذ عديدة على هذا البحث، إلا أن أنطولوجيته تعطيه أهمية استعراضية لما تضمنه من نظريات دون الحاجة إلى الالتفات إلى آراء الكاتب المشكل عليها في بعض الأنحاء الخارجة عن موضوعنا هاهنا. الملفت في هذه الورقة البحثية هو كون الكيان الكولونيالي الفرنسي وامتداداته الثقافية كانوا أول من استعمل مفهوم المخزن استعمالا سلبياً. فمثلاً هناك نظرية روبير مونطاني في كتابه "البربر والمخزن" الذي كان يرى أن نفوذ الجهاز المخزني ينحصر في ما يسمى ببلاد المخزن بينما يظل قسم كبير منه خارج نفوذه تتصرف فيه قبائل السيبة. وهذه النظرية استعملها الاستعمار في سعيه لتقسيم المغرب عن طريق الحديث عن نطاقات ادعى أن المخزن لم يكن يسيطر عليها. وبذلك كان ينظر لخلق نظام إداري خاص بهذه النطاقات مختلف عن نظام المخزن. وهناك شاهد على هذا يتمثل في قرار الجنرال اليوطي سنة 1914م لإلغاء خضوع القبائل البربرية لإدارة المخزن وما تبعه من تجزيء عنصري قبلي توج بإنشاء لجنة الاستيطان 1916 م حيث قررت توزيع الأراضي على المزارعين الأوروبيين. فهذا يفيد في كون المخزنوفوبيا خرجت من رحم الاستعمار الأجنبي في الشق التأصيلي. أما حاضراً، فلا يزال الامتداد الكولونيالي المعبر عنه من طرف جنرالات الجارة الشرقية يستعمل المخزنوفوبيا لأهداف إستراتيجية. وهنا نذكر من الدلائل ما تفضل به المحامي الجزائري سعد جبار من تصريحات ل "البيبسي" في برنامج أجندة مفتوحة بتاريخ 8 أكتوبر 2011، حيث اعترف بأن دعم الجزائر للبوليزاريو الأصل فيه هو خوف الجزائر من استعمال المغرب لفكرة المطالبة بحقوقه التاريخية كما في الصحراء ليسقطها على الجزائر كذلك. بمعنى أن الانتصار في قضية الصحراء المغربية على أساس الحقوق التاريخية يخيف جنرالات الجزائر ولذلك هم يفضلون مبدأ تصفية الاستعمار أو الكيانات الاستعمارية على حساب مبدأ الحقوق التاريخية. وهذا ما ابني عليه للقول بأن جنرالات الجارة الشرقية مع إقرارهم بفقدان العمق التاريخي فهم من كبار المدافعين عن الترسيمات الحدودية الاستعمارية. هكذا نكون قدمنا شهادة شاهد من أهلها على الامتداد الكولونيالي لجنرالات الجارة الشرقية. ويكون انغماسهم في الترويج من خلال الأبواق الصحفية للمخزنوفوبيا شيء مشخص أصلاً وامتدادا. في الختام لقد تبين بالدليل أن المخزنوفوبيا التي يتم الترويج لها في سوق عكاظ الفضائي هي من اختراعات المستعمر وامتداداته، كما تبين بطلان الاستعمال الموجه لمصطلح المخزن وسلبيات سحبه إلى فضاء الشر المطلق. إن ظاهرة حرق التاريخ والتراث كانت دائماً تعبيراً عن اليأس. فالحرق الكلامي لبعض الشباب المغربي لمصطلحات مثل "المخزن" يشبه إلى حد كبير حرق الروائي الروسي ميخائيل بولغاكوف لمؤلفات نال بها العز والشهرة بسبب اليأس الذي سببه الحظر الستاليني. ولو كان يعرف قيمتها بعد ثلاثين سنة لما حرقها.. كذلك يخشى على البعض أن يحنوا إلى ما يحاولون حرقه كلامياً في وقت قد يوصف بالمتأخر.