يمكن تعريف الانطوائي بأنه الطفل أو الشاب الذي يبدي تبرما واضحا من بيئته التي تحيط به ولا يتفاعل مع أنشطتها ولا يساهم في أحداثها، ولا يلقي بالا حتى إلى اللعب الجماعي بالنسبة لصغار السن، بل يفضل دوما الابتعاد عن الجميع والانغماس في عالم خاص به أسس ركائزه بنفسه، حيث هو البطل الوحيد في عالم فردي، حتى تصير شخصيته غامضة إلى حد بعيد، فينخدع البعض بأنها شخصية مسالمة وطيبة، لكنها قد تخفي ملامح خطيرة تفاجئ الكثيرين حين يتم اكتشاف الانطوائي عنصرا مشاغبا أو فردا من عصابة أو عضوا من جماعة شريرة. مظاهر الانطواء ويمكن معرفة الابن الانطوائي والميال إلى العزلة بسهولة ويسر، حيث إن الانطوائي غالبا ما يكون خجولا جدا لا يخالط الغير ويكره التواجد في التجمعات واللقاءات المفتوحة التي تتضمن عددا من الناس مثل المناسبات العائلية والاجتماعية من زواج وعقيقة وغيرهما.. ويحرص الانطوائي على رسم حدود عالمه الخاص بقسوة، حيث لا يعترف عادة إلا بنفسه وبدائرة ضيقة من أفراد أسرته مثل الأب والأم أو الإخوة في أحيان قليلة، وهي بيئة مغلقة يتعمد التعامل معها فقط حتى لا يضطر لمواجهة أناس آخرين لا يجد الإمكانات النفسية للحديث أو التجاوب معهم. ومن مظاهر الابن الانطوائي أيضا ميله إلى الكتمان حيث يستطيع ببراعة كتمان مشاعره إلى درجة كبتها في دواخله مدة سنوات، مما يجعل نفسيته تتحمل الكثير من الرواسب ، وهو الوضع الذي ينذر بالانفجار في أية لحظة بشكل سلبي قد يؤثر عليه وعلى أسرته كما على مجتمعه أيضا. ويكره الانطوائي نسج علاقات اجتماعية وصداقات جديدة لأنه بذلك يسمح للغير من اقتحام خلوته التي بناها لنفسه، ويظن أنه بنسج تلك العلاقات الجديدة يتيح للآخرين بأن يطلعوا على شخصيته وعلى نقاط ضعفها، مما يعرضه للاستهزاء أو التهكم منه، وهو اعتقاد خاطئ ولاشك، لكن قناعات الابن الانطوائي تجعله دائم الحرص على الابتعاد عن الانخراط في علاقات جديدة، ومن ثم على النفور من التجمعات التي قد "تورطه" في تلك العلاقات مثل حضور الحفلات أو مناسبات الزواج أو المخيمات الصيفية و غيرها. ويمكن تلخيص مظاهر حالة الانطوائي في عدم الاندماج مع المجتمع وعزلته عنه والرغبة في عدم الظهور في تجمعات عديدة الأفراد، وسمة التشاؤم وعدم الثقة في النفس والرغبة في الوحدة، ومن ثَم تكوين مشاعر سلبية إزاء الآخرين وإزاء المجتمع في بعض الأحيان. الأسباب والعوامل ويعتبر أخصائيو علم النفس الاجتماعي أن أبرز الأسباب التي تفضي إلى انطواء الشخص وانعزاله تتمثل في طريقتين متطرفتين في تربية الأبناء ذكورا وإناثا، وهي إما الدلال الزائد أو القسوة المفرطة،وكلاهما أسلوب تربوي خطير لا شك أنه يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، خاصة الإفراط في القسوة والتعنيف والازدراء والتحقير والتبخيس من شخصية الابن. فالطفل الذي يعرضه أبواه لكثير من الانتقادات بمناسبة ودون مناسبة وإلى التقريع والتأنيب ويعاملونه كأنه كبير وناضج ويسقطون عليه خلافاتهم الأسرية، غالبا ما ينكمش على نفسه في محاولة للدفاع عن نفسه من خلال التقوقع على الذات وعدم ترك مساحات للوالدين ولا للغير أن يدخلا منها إلى شخصيته فيحدث الانعزال وتكبر الانطوائية لديه. وكذلك الدلال الزائد والاهتمام الكبير بالطفل خشية الإصابة أو خوفا من "العين" يجعل من الابن موضوعا نرجسيا يرى الكون كله في نفسه فيصير أنانيا، لا يشارك الآخرين ويبني عالمه كما يحلو له دون مراعاة لوجود الآخر. ومن العوامل الأخرى أن يصاب الفرد بصدمة عاطفية أو شعورية، من قبيل الصدمة في فقدان شخص عزيز جدا وتكون شخصيته غير متهيئة لذلك الحدث، فيؤدي الانهيار النفسي إلى نفوره من الناس وشعوره بالإحباط وبأن الحياة توقفت بانتهاء حياة ذلك العزيز، فيستعدي الآخرين ولا يطلب ودهم ولا يشاركهم أفراحهم وأحزانهم، لأنه يعتبر نفسه ضحية لصدمة لم يسايره فيها من حوله، وكأنه يلعب دور الضحية بشكل مفرط. قصص واقعية... مراد، شاب في العشرين من عمره، كان طفلا وفتى منعزلا وخجولا لا يكاد ينهض من مكانه إلا بصعوبة، ولا يشارك أقرانه اللعب ولا اهتماماته المألوفة، بل كان سلبيا لدرجة كبيرة، لا يتحدث كثيرا ولا يتخاصم ولا يتعارك مع زملائه، وهو الأمر الذي اعتبره والده الحاج "عز الدين" سلوكا طيبا في الأول، لكنه أدرك متأخرا أن تلك المؤشرات كانت علامات لمرحلة تأتي أكثر خطورة على شخص ابنه ومستقبله وعلى الأسرة ككل. يحكي الأب بقلب مكلوم ما حدث من تغيرات لابنه الذي كان انطوائيا "لا يهش ولا ينش" على حد تعبيره، فقد لاحظ عندما بلغ ابنه الثامنة عشرة من عمره أنه صار بالإضافة إلى انعزاليته محبا لسماع نوع صاخب من الموسيقى: "ظننت أنه مثل باقي الشباب يحب الاستماع إلى هذه الموسيقى الغربية كهواية، وأن ذلك ليس أمرا مزعجا بالنسبة لنا رغم عدم اتفاقنا على اختياره ولكنه ذوقه الشخصي في الأول والأخير"، ليضيف بأنه زاد على تلك الموسيقى إصراره على لباس أزياء سوداء اللون ورسوم غريبة يعلقها في البيت الذي لا يخرج منه إلا لقضاء حاجته أو للأكل، وحتى الأكل كان أحيانا يؤتى به إليه في مكانه..". هذه التحولات لمسها ولاحظها الأب "عز الدين"، لكنه لم يفهم أنها مؤشر على انتماء ابنه إلى مجموعة من الشباب غريبي الأطوار يدعون ب"عبدة الشيطان" إلى أن أدرك ذلك متأخرا قليلا حين فتش في أغراضه الشخصية ليجد أبياتا شعرية تمجد الشيطان ورسومات لجماجم ومكتوب عليها عبارات من قبيل "الحياة للشيطان"، وعندما سأل بعض أهل المعرفة قالوا له بأن هناك احتمالا كبيرا على انتماء ابنه لهذه المجموعة المسماة "عبدة الشيطان". يقول الأب: "حين واجهت ابني مراد بذلك صمت ولم يجبني، لكنه أكد لي أنه بالفعل ينتسب لهذه المجموعة من الشباب، غير أنه لم يسمهم عبدة الشيطان، بل أصر على أنهم شباب يحبون هوايات مثل الموسيقى العنيفة وارتداء الأسود وغير ذلك من هوايات لا تضر أحدا، لكنني يضيف الوالد لم أصدق كلامه لأنني سألت وتحريت عن الأمر ، فوجدت أنها جماعة تسير على غير هدى الله، ويركزون على تدخين المخدرات وممارسة الجنس العشوائي، وربما قتل القطط والدجاج وشرب دمائها حسب ما سمعت". واضطر الأب إلى أن "يسجن" الابن في بيته حتى يتوب ويعود إلى صوابه، واستغرب كيف لابنه المسالم والانطوائي الذي كان لا يتحدث للأسرة إلا نادرا ولا يُسمع صوته إلا لماما، أن يصير عضوا نشيطا ومنتميا إلى جماعة "عبدة الشيطان". * أما "رضوان" الشاب الذي يبلغ من العمر حاليا الثامنة والعشرين من العمر ويقطن أحد الأحياء الشعبية بالرباط، فقد فاجأ جميع من يعرفه خاصة أفراد أسرته وزملاءه السابقين في المدرسة بتصرفاته وبجرأته الكبيرة في تدخين السجائر وتناول المخدرات وبارتياده النوادي الليلية، وهو الذي كان مجرد طفل شب على الانطواء والانعزال..لكن الجميع تفاجأ عندما شب عود هذا الشاب ليصبح أحد "فتوات" الحي وأكبر مروجي المخدرات فيه، بل أضحى من رواد السجن المواظبين على قضاء أشهر فيه بسبب ارتكابه لجنح كثيرة مثل السرقة أو الاعتداء بالسلاح الأبيض. استقطاب الانطوائيين ويرى الدكتور محمد عباس نور الدين، الأخصائي في علم الاجتماع وأستاذ علوم التربية، أن الشاب الانطوائي الذي فشل في التكيف مع المجتمع انطلاقا من الأسرة فالمدرسة ثم العمل، والذي لم تتح له الفرصة لتمثل القيم الاجتماعية والأخلاقية والالتزام بها في حياته اليومية، يعتبر "منحرفا بالقوة"، بمعنى أن انحرافه واقع لا محالة وحدوثه متروك للظروف والصدف، وفي هذه اللحظة يضيف الباحث الاجتماعي يفقد هذا الشاب البعد الزمني، فلا يفكر إلا في اللحظة التي يعيشها ولا يشعر بالذنب عن فعل ارتكبه في الماضي، ولا يطمح إلى تحقيق هدف في المستقبل حيث يفقد القدرة على الطموح والأمل". ويضيف الدكتور محمد عباس نور الدين أن الشاب الانطوائي المهمش وغير المتكيف مع المجتمع يشعر برغبة ماسة في الانتماء، وهي رغبة أحبطت في مراحل حياته السابقة بسبب ما عاناه من إهمال ورفض وعدم قبول..وبالنظر إلى عدم تقبله للقيم الاجتماعية والأخلاقية ولموقفه النافر من المجتمع الذي "تخلى عنه" ولم يعده للقيام بأي دور اجتماعي وأوصله إلى طريق مسدود، يجد هذا الشاب نفسه معرضا للاحتكاك بزمر الشباب المشردين الذين يمارسون أعمالا منافية للمجتمع ولما يسوده من ضوابط اجتماعية وأخلاقية وقانونية. ويؤكد أستاذ علم الاجتماع والتربية أنه غالبا ما يبدأ الاحتكاك بهذه الزمر بصورة عرضية، إلا أنه يتحول فيما بعد إلى مشارك فعلي يقبل فيها مثل هذا الشاب المهمش كعضو من أفراد الزمرة، والقبول في عضوية الزمرة يعوض للشاب ما فقده في السابق من ضعف الثقة بالنفس وعدم الانتماء وغياب الشعور بالأمن والحماية.. مما يجعله يتقبل القيود والالتزامات التي يفرضها عليه انتماؤه إلى الزمرة رغم تعارضها مع القيم الاجتماعية والأخلاقية"، مردفا أن هذا الصنف من الشباب يشكل احتياطيا يزود العصابات بما تحتاج إليه من عناصر تخلف الأعضاء الذين يغادرونها لسبب أو لآخر..