إن أول درس يُستنتج من خلال تتبع المسار التاريخي الذي مرت منه الشعوب الحية هو أن بناء المجتمع صناعة تنخرط فيه جميع إرادات الأفراد المشكلة لإرادة المجتمع كإرادة عامة تلتف حول المشترك وتحترمه بمنطق رائع تلتحم فيه جميع الاتجاهات والمكونات بُغية الارتقاء بالمجتمع إلى مستوى الأمة ذات المشروع المجتمعي تحت عنوان بارز مفاده وضع الانتماء إلى الوطن فوق كل اعتبار؛ إذ ينتصر الجميع إلى الوطن. وهذا الأخير يأوي الجميع ويضمن لهم الكرامة والاستقرار والحق في الانتماء عبر مفاهيم أخلاقية أساس مثل العدالة الاجتماعية والإنصاف المجالي. إن الوطن هو الصدر الحنون الذي يرتاح في كنفه جميع أبناء وبنات الشعب في ظل مناخ من التعايش والتسامح والتواصل الخلاق الذي لن يكون إلا في احترام تام لخصوصيات كل فرد بما يضمن احترام المشترك أو لنقل احترام جميع الهويات من أجل شخصية تتشكل عبر مساهمات الجميع لتكون بذلك الهوية وسيلة رائعة تنتصر للذات في احترام كامل لحقوق الذوات الأخرى في إطار قبول الآخر على أساس أن مفهوم الهوية لا يكون إلا بقبول التعدد والاختلاف في عالم ما سماه جون بول سارتر "عالم الذات بين الذوات". ليس الأمر هنا هيناً لكي يُشكل التعايش آلية من آليات الالتقاء في المشترك بمنأى عن أي انتماء بفهم دغمائي، إن العنف لا يولد إلا العنف المضاد كما أن الاقصاء لن يولد إلا الاقصاء المضاد؛ فتندلع المناوشات وتنمحي ميكانيزمات التواصل وقبول الآخر والغيرية. فحماية الآخر حماية للذات. لأن ذاتي آخر بالنسبة لذات آخر. ولتفادي هكذا تداعيات حريٌّ الرجوع إلى المقاربات الحقوقية المبنية على فكرة المواطنة في ظل تعاقد شعبي ديمقراطي يكرّس ما يسميه مونتيسكيو بروح القوانين كضمانة لحق الجميع، من جهة، في الاستفادة من خيرات الوطن المادية، ومن جهة ثانية، الدفاع عن الوطن وعن العدالة بأساليب الحجة العقلية والاستدلال الديمقراطي بعيداً عن تأليه الذات أو تقديس الخصوصيات، التي تقتل التعايش وتقتل التقدم والارتقاء كما وضّح بول ريكور. ففي تجارب كثير من الأوطان/ الدول كانت الإيديولوجيا المنغلقة هي التي تُهيّج الجماهير وتجيشها، سواء من جهة الدولة أو من جهة فاعلين آخرين، لكي تنخرط في الحركات وفي الانفعالات وبالتالي في مسلسل من الحروب الرمزية ضد الآخر المختلف (ماكس فيبر) أو المباشرة والتي تبدأ من احتقار الآخر أو تشويه سُمعته عبر ترسانة من الدعايات المجانية أو الإشاعات المغرضة المستعملة كأسلحة للدمار الاجتماعي الشامل، أو تكفير الآخر دينياً أو تخوينه سياسياً، وفي أقل تقديرا رميه بتهمة عدم الانتماء إلى الجماعة. ولقد أسهب إميل دوركاين في الحديث عن هكذا تداعيات في كتابه القيم "قواعد المنهج السوسيولوجي" خاصة في حديثه عن قمعية الظاهرة الاجتماعية. إن ادعاء امتلاك المشروعية وإقصاء الآخرين يُشكل المبدأ السياسي للفكر الطوطاليطاري بلغة حنة أرينديت. والذي يسعى إلى احتكار السياسة والمال ويميل للأقلية في إقصاء تام للسواد الأعظم. والكليانية هنا آلية للدمار، فنجد ملاذاً في التاريخ للتأمل في أحداث معينة كان منطلقها الانتقام وفعلاً تقع فِتنٌ وهُياج شعبي واضطرابات. ومن المؤسف أن نستشهد هنا بكتاب "سيكولوجيا الجماهير" للسوسيولوجي وعالم النفس غوسطاف لوبن (وُلد بنورماندي عام 1841 ومات بباريس عام 1931م). يبدو جلياً إذن أن الابتعاد عن المقاربة الحقوقية وعن الفهم التعاقدي في بناء الوطن غالباً ما تكون له تداعيات. ارتباطاً بالموضوع نتذكر أن هنالك من اعترف لأديسون بأهم اكتشاف إنساني هو صناعة النور، وهناك من اعترف للطبيب باستور بأهم اكتشاف، والإنسان اكتشف الطب سعياً منه إلى تطويق الموت كحتمية فسيولوجية، نهاية الجسد كمعطى متحول. لكن هناك من اعترف أن اكتشاف الدولة كان أهم اكتشاف بشري حيث حسم الإنسان مع حياة الطبيعة والفوضى والتحم بالتعاقد السياسي بمنطق الدولة الديمقراطية. والتعاقد هنا يُلزم جميع الأطراف باحترام شروط العقد لصالح حقوق الجميع. فبقدر ما نبتعد هنا عن فكرة "الليفيطان" عند طوماس هوبس بقدرما نقترب من فكرة العقد الاجتماعي عند جون جاك روسو. وقد سبق لهذا الفيلسوف في كتاب آخر هو "أصل اللامساواة" أن ناقش الاحتكار للامتيازات وتداعياته على المجتمع على مستوى تعميق الصراع. إن فكرة العقد الاجتماعي تؤصل لتدبير ديمقراطي للشأن العام عبر ديمقراطية تمثيلية وتشاركية؛ انتخاب الشعب لصناع القرار من خلال الاحتكام إلى صناديق الاقتراع. إن هذا الفهم يعكس الوعي السياسي لدرجة تجاوزت بكثير أطروحة صاحب كتاب الأمير "نيكولا مكيافيلي". لكنها لا تبتعد من حيث الجوهر، مع اختلاف في درجة الانتصار للشعب، عن تصور مونيسكيو في تركيزه على قاعدة روح القوانين. وإنها روحاً تعترف بأهمية الفصل الحقيقي بين السُلط لصالح ديمقراطية ناضجة ضامنة للحقوق وللمساواة في الواجبات. إن اكتشاف الدولة الديمقراطية فعلاً، وعقلنة امتلاك العنف عبر مأسسته (العنف المشروع) تشكل أهم تحول في التاريخ السياسي للشعوب، على أن يكون المجتمع، بطرفيه حُكام ومحكومين، واعياً أن الدولة ملكاً للجميع. معنى هذا الكلام أن سعي أي طرف إلى احتكار الدولة لا يمكن إلا أن يخلق الكوارث ويدمر اللحمة ويقضي على المجتمع. إن الدولة إذن منتوج سياسي ولد من رحم العقل السياسي الحديث ولقد لعبت الفلسفة السياسية دوراً بارعاً في هذا الباب إذ حسمت الصراع بين الميتوس واللوغوس لكن هذه المرة في مجال السياسة لصالح اللغوس كعقل سياسي تعاقدي، ولعرّاب الأنوار صاحب العقد الاجتماعي قصب السبق في هذا الفهم العقلاني للتدبير التعاقدي للشأن العام عكس ما كان سائداً في ظل الفهم التيوقراطي للدولة أو في كنف التأويل الفيودالي للعنف أو التفسير الليبرالوي للسلطة أو الجنوح الشعبوي للتسيير. إننا هنا نقعد للدولة من خلال ميلاد سؤال ما الأنواع سنة 1784 حيث حدد إمانويل كانط رفع الوصاية شرطاً لازماً لتحقيق الأنوار. إن الأنوار سياسياً هي رفع الدولة الوصاية على المواطن الذي لم يعد قاصراً بل من حقه المشاركة في بناء لبنات التعاقد. إن كلام كانط هنا يحدد القناعات المؤطرة والطموحات الكبرى التي كانت تؤرق بال فلاسفة الأنوار المهووسين بمناخ التقدم الحاصل في القرن الثامن عشر. إن فكرة الأنوار هاهنا أخذت صفتها المميزة من مناخ فكري لابد وأن يكون تجاوز حدود الكرنولوجيا الضيقة، بحيث يجوز الرجوع بجذور عصر الأنوار إلى عصر النهضة، عصر العودة إلى النصوص الإغريقية والرومانية وطرح السلطة الدينية المسيحية القروسطية تحت محك النقد وتحت مجهر المساءلة. إنها بداية التخلص من الرؤية التيولوجية السائدة في العصور الوسطى ودعمها الإقطاع والتي كانت تشرعن العنف والاستبداد باسم السماء. ونعترف إن إبداعات المفكرين الإنسيين لعبت دوراً طلائعياً في زخم تلك التحولات. وللإشارة فإن أهم كتابين خلال القرن السادس عشر هما مؤلفان نيكولا كوبيرنيك حول الكون والتي خلخلت دعائم الفهم التيولوجي للعالم، إضافة إلى المؤلفات السبع للعالم الطبيب أندري فيسال حول الجسم البشري. ولن نكون عادلين إذا لم نعترف بأهمية كتابات القرن السابع عشر وفي مقدمتها كتابات صاحب الكوجيطو وكاليلي وفرانسيس بيكون. ولقد صدق ديكارت حينما قال: "إن من يدرس الطبيعة لابد أن يبتعد عن الأفكار الجاهزة وأن يبني تصوره من خلال أفكار واضحة ومتميزة، بسيطة ومركبة، وبالتالي يستطيع بناء عالم منطقي". إن فكرة الكوجيطو في الفهم الكارتيزيائي لا تظل حبيسة الرياضيات والمنطق بل تقعد للنسبية كأداة في فهم العالم والمجتمع. إن النضج الحاصل إذن في الغرب كان نتاجاً للمساهمات القيمة لزمرة من المفكرين الذين اقتنعوا بأن رفع الوصاية وتحرير العقل تُشكل أهم ميكانيزمات الحسم مع ما أسميه ب"العقل المعتقل". إن تحرير العقل شرط لرفع الوصاية. وإن الوصاية ضد المواطنة الكاملة. إن هكذا شذرات فكرية لا تعدو أن تكون غيظاً من فيضٍ في تاريخ إنساني حافلٍ بالانتصارات، وإن كنا لا نقلل من أهمية المنتوج الفكري للمسلمين منذ ميلاد رسائل إخوان الصفا، وأطروحة الكندي في شرحه لأرسطو وابن سينا ومروراً بالفارابي، الذي يجمع المؤرخون أنه تتلمذ على أستاذ مسيحي اسمه يوحنا بن حيلان، صاحب نظرية الفيض، وأبدع في الإلاهيات، وابن باجة الذي غادر الحياة شاباً، دون القفز على ابن طفيل المشهور في الطب والرياضيات والحكمة والشعر، والذي شغل منصب كاتم أسرار حاكم غرناطة، أما المَعْلَمَة الشامخة فهي ابن رشد كأهم وجوه التاريخ، مؤسس مذهب الفكر الحر، الذي كان له قدر عظيم في نظر أهل أوربا فجعلوه في مصاف فلاسفتهم ولم يبخل عليه ميخائيل أنجلو في جحيمه الخيالي الذي صوره في سقف معبد سكتين بالفاتيكان كما ذكره دانتي في قصيدته في النشيد الثالث. ولا شك إذن أن كتاب "فصل المقال فيما بين الفلسفة والشريعة من اتصال" يُشكل قاعدة صلبة للمصالحة بين الفلاسفة والفقهاء، وبين أصحاب العقل وبين المنتصرين للنقل. ويُحسب لابن رشد أنه انتصر للعقل دون إقصاء للنقل كما نجح في خلخلة القاعدة الفكرية لصاحب كتاب "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة". (الإمام الغزالي). (نجح الرجل أيضاً في كتابه "تهافت التهافت"، دفاعاً عن العقل دون إقصاء كذلك للنقل). عودة إلى مدخل هذا المقال بخصوص صناعة المجتمع يبدو جلياً أن الدولة كنسق مؤسساتي مطلوب أن تكون في خدمة المجتمع، عبر ديمقراطية حقيقية تضمن الحقوق وتحفز على أداء الواجبات. ومن خلال استقراء واقع الديمقراطية المؤسساتية بالدول المتقدمة يتبين أن الدولة بقدر ما تكون عادلة ضامنة للحقوق ساهرة على خدمة المواطنين بقدرما تكون ناجحة في التموقع إيجاباً في سلم التقدم وفي خريطة النمو والتنمية. ونُشير إلى أن صناعة الديمقراطية عبر نخب حقيقية وطنية تغار على المصلحة العامة وتجعل الفرد في خدمة الدولة العادلة بشكل يجعل هذه الدولة في خدمة مجموع الأفراد المشكلين لها عبر تقسيم عادل للثروات المادية وللخيرات الرمزية. ولا غرو أن الشعب من المكونات الرئيس للدولة في الفقه الدستوري إلى جانب الإقليم والسيادة والمشروعية. صناعة المجتمع عبر مؤسسات إنتاج العقليات. ينبغي أولاً أن نسلّط الضوء على أهم المؤسسات التي تناط بها مهام تأطير المواطن وإدماجه في قالب القيم الحمولة الضامنة لديمومة قيم الجماعة، على اعتبار أن الدولة الناجحة هي القادرة على جعل جميع مؤسساتها في خدمة المشروع المجتمعي- الحضاري المفروض أن يُبنى بمقاربة تشاركية وبنهج إشراكي يُساهم فيه الجميع على أن يكون هنا التداول الحقيقي للنخب وللسلط شرط أساس لمحاربة الاحتكار السياسي والريع النخبوي كأهم لبنات بناء ذلك المشروع. المؤسسة التربوية آلية لبناء دول المواطنة. إن تتبع تاريخ الديمقراطية لدى الدول الكبرى الناجحة في العالم يُبين الأهمية القصوى التي تُعطى للمدرسة كمؤسسة استراتيجية في بناء مشروع الأمة وإنصاف المواطنين عبر ضبط آلية التوزيع العادل للخيرات الرمزية. إن هذا الأمر لا يعود إلى قرون قليلة خلت بل إلى التاريخ السياسي القديم حيث نجد إسبرطة تولي أهمية بالغة للمدرسة في تكوين المواطن الإسبرطي القادر على الدفاع على أخلاق المدينة وعلى مصلحة النخب المحظوظة والأوليكارشية المتحكمة. لا ريب إذن أن المدرسة أهم مؤسسة دافعت عنها البورجوازية في التاريخ الحديث الأوروبي من أجل إنتاج نخب توظف العلم من أجل مراكمة المال ثم سرعان ما تستثمر المال لاحتكار العلم. وإذا قمنا حالياً بمقارنة بسيطة بين الميزانيات المرصودة للبحث العلمي وللتعليم في الدول الناجحة كالصين واليابان وألمانيا... أو في الدول السائرة في طريق النمو (الدول الصاعدة) كالبرازيل وجنوب أفريقيا والفيتنام من جهة وبين الدول الثالثية من جهة ثانية سرعان ما يظهر الدليل على أن التعليم هو آلية من آليات بناء مجتمع ناجح وراق ودولة متألقة. فلا يمكن للأمية والجهل والجفاف المعرفي والتفقير العلمي أن يُنتج إلا أمراضاً اجتماعية فتاكة مهما كانت المقاربات الأمنية حازمة. فالمجتمع الواعي والمنتصر لقيمة العقل المتحرر وحده يستطيع إنتاج مجتمع سليم. بيد أن مجتمع الجهل والأمية يُشكل مستنقعاً مناسباً لتخصيب باكتيريا العنف والتسلط والانحراف وشراء الذمم وفرملة العقل لصالح الأساطير (هناك أساطير معاصرة) وبالتالي بناء مجتمع مكون فقط من عدة أفراد لا رابط بينهم إلا ما ينبني على قواعد العنف المباشر أو الرمزي أو بمنطق العنف المشروع. لذلك نجد فلاسفة كبار رافعوا من أجل المدرسة وانخرطوا بقوة في صلب النقاش العمومي لصالح قضية التعليم كمنطلق صلب لبناء مجتمع سوي غير معاق فكرياً، ونستحضر هنا ربيع 1968 بفرنسا وانخراط زمرة من عظماء الفكر في الدفاع عن المدرسة العمومية وعن الأستاذ؛ من طينة بيير بورديو وجون بول سارتر وميشال فوكو. لقد كان بورديو نموذجاً ناجحاً في رفع اللافتات للمطالبة بحماية المدرسة العمومية الوطنية. فمغربياً نؤكد أن إصلاح التعليم وبناء منظومة تربوية تستجيب لحاجيات المتعلم في المقررات والمناهج بمحتوى علمي/معرفي حقيقي عبر الانصات للمقاربات المعرفية الجادة التي أنتجها خبراء المعرفة الحقيقيون بعيداً عن تلك البحوثات التي تنجز على المقاس في المكاتب المكيفة في فنادق الريع المصنفة بخمس نجوم، وفي الوقت نفسه عدم الانبطاح لأصحاب التجارة الأدمية المنضوين تحت لواء المؤسسات الكونوليانية الدولية التي تضع تصورات"تنموية" على المقاس كذلك وتُفرض كرهاً على الدول المستضعفة التي تنتج مشاريع "الحداثة" عبر ولادة قيسرية. إن بناء مدرسة وطنية عمومية تؤمن بالكفاءة والسلطة المعنوية وتضع خريطة مدرسية لا تستسلم للإكراهات التقنية بقدر ما يجب أن تنحو منحاً واضحاً في بناء المواطن عبر تكوين علمي وقيمي رصين. ولقد صدق نلسون مانديلا عندما أكد أن المدرسة مفتاح ولوج نادي الدول الناجحة. الإعلام وديكتاتورية الصورة. لا يتطلب الأمر التعمق في الدراسات السيميولوجية والتواصل لكي يفهم المرء أهمية الصورة في بناء مقولة الاستهلاك وتوجيع المخيال العام وصناعة العقليات وتنميط الذهنيات بما يخدم أجندة المؤسسات الكبرى الصانعة للقرار العالمي. ف"داخل كل مستهلك شاعر نائم على الإشهار أن يوقظه". فلا يجوز مناقشة القوة السحرية للإشهار من دون دراسة دقيقة لصناعة الصورة وتوظيف الجسد. يبدو واضحاً أن بناء منظومة إعلامية قوية عبر فتح الباب للكفاءة وللنخب المؤهلة شرط لازم للمساهمة في بناء المشروع المجتمعي للأمة. فعبر الإعلام تدجن المجتمعات وتُمْحى الهويات وتُبْنى أخرى حسب الطلب ويُحرف الوعي وتُبنى التمثلات وتكرس التبعية وتُشْرْعَنُ الخيانة ويُقَوْلَبُ الفرد في قوالب جاهزة تقوي الوعي المقلوب بالمواطنة والهوية. أفلم تنج الولاياتالمتحدةالأمريكية في تجاوز عقدة العار، بمنطق وليام رايش، التي حصلت لدى الرأي العام الأمريكي بعلة الهزيمة السوداء أمام الفيتنام وتم خلق صورة نمطية عبر ديكتاتورية الصورة التي سوقت للبطل "رامبو" كمرادف للرجل الأمريكي الذي لا يُقهر. فرامبو هنا أداة لبناء تمثل عالمي للرجل الأمريكي المدافع عن قيم "الحق والعدل". ونذكر هنا بالصراع المرير بين السينما الأمريكية (الوستيرن) والسينما الصينية (الكاراتي) والتي انتهت باغتيال رجل الشاشة الأصفر بروسلي. ألا تشكل قناة فرنسا 24 واجهة لفرنسا التي تسعى إلى البحث عن موطئ قدم في ساحة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟ ألم تلعب قناة الجزيرة دوراً استراتيجياً في التسويق لمفاهيم الإسلام السياسي واحتضنت رموز النكوسية لإنجاح فكرة النمذجة خدمة لأجندة دولية خطيرة؟ إن هكذا قناة عملاقة لا تروم سوى تسويق قوة دولة صغيرة من حجم قطر؟ إن الدول المتنافسة على خيرات العالم توظف الإعلام كسلاح استراتيجي لتسويق الصورة ولفرض الهيمنة. أمام كل هذه الحيثيات يجوز التساؤول مغربياً، هل يستطيع المغرب الدفاع عن مصالحه العليا عبر إعلام شهيوات !! وفكاهة شو !!ورقية الدويبة ! وحدودان !! والخيط الأزرق !! وقصة الغاشي !! إن الأمر إذن يتطلب الفهم على أن بناء مشروع أمة يقتضي تحديث حقيقي للمؤسسات الكبرى كالتعليم والإعلام. إن اللحظة التاريخية فعلاً تسترعي إعادة النظر في الكثير من الأشياء لصالح بناء الذات الوطنية القادرة على التموقع الإيجابي بكثير من منسوب الثقة في النفس في محيط هائج تكاد الحياة فيه تكون مستعصية للمعوزين علمياً وللفقراء فكرياً من أبناء الدول المستضعفة. إنها دعوة صريحة لصناع القرار محلياً وجهوياً ووطنياً للعمل على تحديث سليم للمؤسسات التي ينبغي أن تتكامل في بناء مشروع امة منتصر أولاً لفكرة المواطنة وثانياً لاحترام أدمية الإنسان. إن المدخل الحقيقي هو فتح الباب أمام الكفاءات لمحاربة الريع الثقافي ولتجويد مناخ النقاش العمومي ولمحاربة استئساد الرداءة حتى لا نهدر من الزمان ما نحن في حاجة ماسة إليه لبناء حاضر قوي واستشراف غد مشرق. وأخيراً أقول: سئل اليابانيون كيف وصلتم إلى أوج الاقتصاد العالمي؟ فأجابوا: لقد مكّنا الأستاذ من إجلال الإمبراطور ومن حصانة الديبلوماسي ومن راتب الوزير. أما عندنا فحالة الأستاذ .. ثمة الدمعة وثمة وجب البكاء. ولقد صدق أحمد زويل عندما قال: "إن الغرب ليسوا كلهم أذكياء ونحن لسنا كلنا أغبياء. هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح ونحن نحارب الناجح حتى يفشل". فرجاء لا تحاربوا الناجحين ولا تدعموا الفاشلين. ولقد صدق الطيب الصديقي عندما قال يوماً: "كل الأخطاء عندنا تغتفر إلا خطيئة النجاح". وكل فجر وتصبحون على وطن قوي.