لقد سطرت غزة بصمودها الأسطوري أمام ثماني سنوات من الحصار البري والجوي والبحري بطولات عظام، سوف يبقى التاريخ يتذكرها ويدونها للأجيال القادمة. غزة سجلت بمداد من دم فلسطيني ملحمة بطولية باسم الأمة الإسلامية جمعاء في الوقت الذي تخلى كل حكام العرب والمسلمين عن قضية الأمة الأولى وهي تحرير الأراضي الفلسطينية وكنس الاحتلال الغاشم الصهيوني من أرض الإسراء والمعراج. تأتي معركة العصف المأكول في ظرفية إسرائيلية داخلية حساسة، ومعطيات عربية وإقليمية جد معقدة نتيجة ارتدادات ما بعد الربيع العربي، وفي خضم تشكل خريطة شرق أوسط جديد مازالت عصي عن الولادة في ظل هذه الظروف المتأزمة، لتكمل ما بدأته المقاومة الفلسطينية في معركة الفرقان سنة 2008 ومعركة حجارة السجيل (حرب الأيام الثمانية) سنة 2012. أظهرت المقاومة في العدوان الإسرائيلي الأخير والمستمر إلى الآن، أنها تتطور بشكل كبير، فبعد حرب تموز 2006 بين حزب الله والكيان الصهيوني والذي جعل جل المدن والبلدات الفلسطينيةالمحتلة المتاخمة للحدود اللبنانية في مرمى منظومة الصواريخ التابعة لحزب الله والتي استطاعت أن تصل حتى مدينة الخضيرة القريبة من تل أبيب كأبعد نقطة تصلها صواريخ المقاومة اللبنانية، مما فرض على الجيش الصهيوني أن يفكر في بناء قبة حديدية لاعتراض الصواريخ القادمة من لبنانوفلسطين، ومنذ 2007 إلى الآن مازالت القبة الحديدية لم تحقق النتائج المرجوة، وباعتراف محللين عسكريين إسرائيليين لم تستطع القبة الحديدية سوى اعتراض 30% من الصواريخ في معركة حجارة السجيل. ومع إصرار كل القادة العسكريين والسياسيين الصهاينة على أن الهدف من العدوان الذي يخوضونه على غزة هو تدمير منصات الصواريخ والقضاء على المنظومة الصاروخية للحركة حماس، إلا أن حماس طورت إستراتيجيتها العسكرية منذ معركة 2012 وفتحت جبهات جديدة مع العدو لم يكن يحسب لها الكيان الصهيوني حساب، مما أظهر قوة وإبداع المقاومة وعجز الصهاينة. فمعركة العصف المأكول جاءت باستراتيجيات عسكرية نوعية جديدة إلى جانب منظومة الصواريخ التي تعززت بصواريخ نوعية تصل إلى العمق الفلسطيني المحتل لأول مرة، فقد استطاعت المقاومة الإسلامية حماس أن تقصف حيفا شمالا وديمونة جنوبا مرورا بتل أبيب وهرتسيليا والقدس الذين وصلتهم صواريخ المقاومة لأول مرة في تطور نوعي أربك حسابات الكيان الصهيوني منذ الأيام الأولى للعدوان، وكذا أسدود وبئر السبع و"غلاف غزة". واستعملت كتائب القسام وباقي فصائل المقاومة في هذا القصف صواريخ نوعية من قبيل صاروخ R160 وسمي بهذا الإسم تيمنًا بالدكتور الشهيد عبد العزيز الرنتيسي والذي توعد في إحدى خطاباته بضرب حيفا، فأوفى القسام بالوعد، وصنع هذا الصاروخ الذي يصل مداه الى أكثر من 160 كلم و J80 والذي يطلق عليه صاروخ الشهيد أحمد الجعبري ويصل مداه الى 80 كلم وصاروخ سجيل S55 وهو صاروخ مطور بأيدي مهندسي كتائب الشهيد عز الدين القسام، يصل مداه لأكثر من 55 كلم، قصفت به كتائب القسام «رحوفوت» و«بيت يام» لأول مرة، كما قصفت بعدد آخر منها مدينة بئر السبع المحتلة، وصاروخ براق70 فلسطيني الصنع ويصل إلى 70 كلم و صاروخ M302 سوري الصنع يصل مداه الى 150 كلم و صاروخ المحامدة M75 الصاروخ "اللغز" وهو صاروخ فلسطيني محلي الصنع من إنتاج كتائب الشهيد عز الدين القسام وكشف عنه خلال معركة حجارة السجيل . وأطلق أول صاروخ منه اتجاه مدينة تل أبيب وسط فلسطينالمحتلة في ال 15 من نوفمبر 2012، ويصل مداه أكثر من 75 كلم، وكان يوم السبت 12 يوليوز 2014 يوم مشهود في تاريخ العدوان الإسرائيلي بحيث تحدت المقاومة القبة الحديدية وأنذرت سكان تل أبيب أنها سوف تقصف المدينة بعد الساعة التاسعة ليلا وأثبتت عجز القبة عن اعتراض الصواريخ القسامية التي تهاطلت على تل أبيب بعد ثواني من المهلة المحددة، مما جعل الكيان الصهيوني يصدم من هول صواريخ المقاومة وعدم قدرتهم على إعتراضها رغم معرفتهم المسبقة بساعة إطلاقها ومكان سقوطها. إضافة إلى التطوير النوعي في منظومة الصواريخ القسامية، قامت المقاومة كذلك ببناء منظومة من الأنفاق العسكرية والتي أصبحت نوعية وتسمح باختراق أجهزة العدو والتوغل خلف الجبهة والانقضاض عليه في نقطة الصفر، مما سهل على المقاومة التسلل الى عمق المدن المحتلة ومباغتة الجيش الإسرائيلي واستهدافه من داخل صفوفه مما شكل ضربة قوية للألوية النخبة في صفوف الجيش الإسرائيلي، وكانت أبرز عملية نوعية هي التي أعلن عنها القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف، والتي وقعت يوم 28 من الشهر الجاري، إثر عملية إنزال خلف خطوط العدو شرق الشجاعية والهجوم على برج عسكري محصن لكتيبة ناحل عوز وقتل 10 جنود إسرائيليين ورجوع جنود القسام إلى غزة سالمين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى استطاعت المقاومة أن تعلن في هاته المعركة عن وحدة خاصة سميت بالضفادع البشرية والتي نفذت عملية نوعية في اليوم الثاني من العدوان واستهدفت قاعدة سلاح البحرية زيكيم وخلفت قتلى وجرحى في صفوف العدو . ولم تغفل المقاومة الإسلامية حماس كذلك دور سلاح الجو الاستراتيجي في حسم المعارك ودوره الفعال في الاستطلاع والتجسس والتصوير الجوي، فعملت لأول مرة على تسيير طائرة أبابيل 1 بنماذجها الثلاثة (A1A الاستطلاعية، A1B الهجومية إلقاء، A1C الهجومية الانتحارية)، إستراتجيتين جديدتين يضافان إلى سجل كتائب القسام، والتي ستكون لا محالة حاسمة في معاركه مع الكيان الغاصب في المستقبل، وستدفع كيد المحتل إلى الاندحار. تطور المنظومة العسكرية النوعي للكتائب القسام أصاب العدو الصهيوني بالجنون ،للهول الخسائر التي تكبدها وحجم القتلى والجرحى الذين سقطوا بعد مرور ثلاثة أسابيع من العدوان دون تحقيق ولا نقطة واحدة من بنك الأهداف التي أعلنوا عليها، يتجلى جليا هذا من حجم استهداف المباني المدنية والمساجد والكنائس والمؤسسات العمومية والأسواق واستهداف أحياء آهلة بالسكان بعيدة عن نقاط المواجهة، رسائل المقاومة من خلال معركة العصف المأكول والتي لم تضع أوزارها بعد، ليس المعني بها الكيان الغاصب لوحده، بل كذلك الحكام العرب والذين تخلو عن القضية، وكل الحركات التغييرية أينما كانت، على أن حجم التضييق والاعتقال كيفما كان لن يكون بالحجم الذي تعانيه المقاومة في غزة، ورغم ذلك استطاعت أن تنتج سلاحها وتقاوم بكل ما أوتية من قوة، فهل هناك حركة في العالم تعيش الحصار الذي تعيشه المقاومة ؟ مدينة غزة، تلك المنطقة الجغرافية الصغيرة جدا في الخريطة، والتي يسكنها حوالي مليون ونصف نسمة ومحاصرة برا وبحرا وجوا من الطرف الكيان الصهيوني وأعوانه في المنطقة، ورغم العدوان والقصف والاغتيالات، أبانت للعالم أجمع أنها قوية بقضيتها وبمقاومتها وأبناؤها الأحرار، الذين هزموا أعتى جيش في العالم بصواريخهم محلية الصنع وبتكتيكاتهم الحربية التي سيكون لها شأن في المدارس العسكرية مستقبلا، وبصمود شعبها الباسل الأبي الذي يؤدي ضريبة الجهاد عن الأمة. يوسف أريدال