شارك محمد العمراني أمين ذ محمد العمراني أمين قبل حوالي نصف قرن من اليوم ، أي في سنة 1965 ، إندلعت لأول مرة في مغرب الإستقلال انتفاضة شعبية بدينة الدارالبيضاء يوم 23 مارس، انتفاضة أطلق شرارتها بشكل تلقائي تلاميذ مدينة الدارالبيضاء ، يطالبون م خلالها بإلغاء مذكرة صدرت عن وزارة التربية والتعليم ، تفرض قيودا مجحفة على التلاميذ الراغبين في مواصلة تعلمهم بمؤسسات الثانوي التأهيلي ، كما يسمى اليوم، وذلك برفعها سقف القبول بهذا الطور إلى مادون سن الثامنة عشرة. علما بأن سن ولوج المدرسة الإبتدائية وقتها لم يكن محددا بدقة كما هو الشأن اليوم. كانت هذه الانتفاضة الشعبية حدثا غير مسبوق ، وغير منتظر ، وتحولت مدينة الدارالبيضاء ، معها خلال ثلاثة أيام إلى ميدان فسيح مستباح للتظاهر والإحتجاج مع مايرافق ذلك من رفع سقف المطالب ليشمل قضايا أكثر حساسية وشمولية ، خاصة وقد إلتحق بها جحافل التلاميذ ، والآباء والأمهات وآلاف العمال العاطلين والمطرودين من المصانع ، وقد تجاوز عددهم تلك السنة مايربو عن الأربعين ألفا في أكبر تجمع عملي بالمغرب المستقيل ، إذ نتج عن ذلك شلل تام في المدينة ، وهو ما دفع بقوا لنظام البوليسي الأوفقيري آنذاك، إلى إطلاق العنان لحملة قمع شرسة، خلالها تم إطلاق نار المدافع الرشاشة والبنادق على الصغار والكبار دون رحمة أو تمييز، فسقط المئات من الأبرياء صرعى وجرحى وتم القبض على أعداد من الناس بشكل عشوائي . ورغم أن هذه الشرارة إنطلقت ، ولم تبرح مدينة الدارالبيضاء إلا في شكل إحتجاجات تلاميذية شهدتها مدينة مراكش في ثانوية بن يوسف للتعليم الأصيل، وبكل من مدينتي فاس والرباط، إلا أن قوات الأمن تصدت لها وطوقتها وحالت بين التلاميذ وبين الوصول إلى إكتساح المدينة. غير أن تاريخ المغرب المعاصر سيحتفظ لهذه الأحداث بمكانة خاصة، وذلك بالنظترتب عنه من تطورات وعواقب ماتزال إلى اليوم ، تشير إلى أن المغرب بعد حوادث 23 مارس 1965 مختلف في كثير من ملامحه عن مغرب ما قبلها. وسوف يكون مفيدا جدا، لو قامت مكونا الصف اليساري والتقدمي ، ولو تصدت بفتح نقاش موضوعي وجرئي وذي مصداقية، يروم إبعاد العرض الرومانسي والحالم عن هذه اللحظة، الفارقة في تاريخ تشكل الكثير من مكونات الصف اليساري الجديد وقتها ، والذي لم يعد جيدا اليوم، وسوف نتوقف ونحن نروم إستحضار أجواء مابعد 23 مارس 1965، أن نذكر بمواقف وإجراءات أقدم عليها النظام . فبعد نهاية حملة لقمع، وهدوء العاصفة إنطلقت مشاورات أعلن عنها القصر في أكثرمن بلاغ رسمي، أجراها الراحلان الملك الحسن الثاني والزعيم الإتحادي عبد الرحيم بوعبيد،وأسفرت في مراحلها الأولى عن إعلان "حالة الإستثناء" وذلك بوقف العمل بدستور 1962، وتعطيل البرلمان المنتخب لسنة 1963. وخلال نفس الفترة، تم إطلاق سراح أغلب المعتقلين ، السياسيين الإتحاديين لسنة 1963 و1964 ، بما يعرف بمؤامرة 06 يوليوز، وعلى رأسهم الفقيه المرحوم محمد البصري الذي فضل الرحيل إلى فرنسا على البقاء في المغرب، وكان الإستعداد يتواصل كي تتم عودة الزعيم الإتحادي المرحوم المهدي بنبركة إلى المغرب. في نفس السياق ، كان يتم إعداد الأجواء لتشكيل حكومة شعبية ، أساسها وقاعدتها مكونة من الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، ربما ستكون نسخة ثانية من حكومة عبد الله إبراهيم التي تمت إقالتها خمس سنوات قبل هذا التاريخ، وبالنظر إلى كون المفاوضات وإعلان حالات الإستثناء تتم فقط بين المرحومين عبد الرحيم بوعبيد والملك الراحل الحسن الثاني عبر كل من حزب الإستقلال والحزب الشيوعي المحظور على رفضهما لهذا الأسلوب في المعالجة. لقد كانت أوضاع البلاد تعرف إختناقا وتعقيدا شديدين، وتعطيلا لمؤسساتها وطغيانا متزايدا بتحكم وتدخل قادة الجيش في شؤون وتدبير الحياة المدنية ، خاصة والبلدان الإفريقية عرفت خلال هذه السنة بالذات العديد من الإنقلابات العسكرية التي وقعت ، ولتي كانت تقف خلفها أجهزة المخابرات الأمبريالية التابعة لكل من فرنسا والولايات المتحدة الإمريكية . هذا، ولقد أعلن الحزب الشيوعي المغربي المحظور من قبل حكومة عبد الله إبراهيم ، قبل أقل من خمس سنوات ، من ذلك التاريخ ، في حق تمسكه بالإختيار الديموقراطي وأعلن عن مطالبته القوية بحكومة وحدة وطنية لاتستني أي من مكوناتها الثلاثة ، المتمثلة في حزب الإستقلال وحزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، والحزب الشيوعي ، حكومة قادرة على القيام بالإصلاحات الكبرى التي كانت البلاد في أمس الحاجة إليها ، ويتذكر الكثير من قادة الصف اليساري اليوم، أن المؤتمر الوطني العاشر للإتحاد الوطني لطلبة المغرب الذي إنعقد بكلية الآداب بالرباط، أوائل شهر أكتوبر من سنة 1965 شهد صراعا قويا بين الطلبة الإتحاديين وهم يرفعون لافتات وشعارات تبشر بحكومة شعبية والشيوعيين وغيرهم ممن إعتبروا ان الحل يكمن في تشكيل حكومة وحدة وطنية، ومن غريب المصادفات أنه بعد أقل من خمسة عشر يوما على إنقاض المؤتمر الوطني الطلابي، إذ توقف هدير الشعارات ليتم الإعلان المأساوي على إقدام قوى اليمين والمخابرات بإختطاف المهدي بنبركة، من قلب مدينة باريس ، مما أحدث صدمة غير مسبوقة في تاريخ المغرب ، إنتهت معها وتوقفت المفاوضات الجارية بين القصر والزعيم الإتحادي المرحوم عبد الرحيم بوعبيد ، صدمة أخطر ما فيها أنها كشفت بأن القوى الأكثر رجعية في المغرب وخارجه، تتملك سلطات ضغط أقوى وأشد ، ومن شأنها أن ترمي بالبلاد في أفق مظلم ، لم تبدأ مبارحته إلا وقد مر عقد آخرمن الزمن الضائع، على تقدم المغرب، عقد عرف المغرب خلاله محاولتين للإنقلاب إستهدفت ملك البلاد بصفة مباشرة، محاولتان كادتا ترمي بالمغرب إلى ما عرفته بلدان أخرى، ت فيه قوى العسكر على الإستيلاء عن الحكم ، كما هو الشأن في سوريا والعراق وقتها، ومصر قبل ذلك، والجزائر وليبيا فيما بعد ، إضافة إلى ماعرفته جل البلدان الإفريقية وأمريكا اللاتينية ، بالإضافة إلى ماكان سيترتب على ذلك من نتائج لا أحد بمقدوره أن يتخيلها. إن إختطاف المهدي بنبركة يوم 29 أكتوبر 1965 ، وإغتياله بعد ذلك، في ظروف شديدة الغموض والقتامة ، ومحاولة الإنقلاب على النظام الشرعي في المغرب، كان من أهم النتائج والتداعيات الأليمة لما وقع يوم 23 مارس 1965 ، ومن غير السابق عزل هذه الأحداث عن سياقاتها، إذ هي مترابطة في الجوهر، حيث تكشف على أن إصلاح أوضاع المغرب والتصدي لها يحتاج إلى تظافر الجهود بين النظام وبين القوى التي لها كل المصلحة في التغيير، كما كشفت من جانب آخر ، أن القوى الرجعية لاتقف متفرجة، أو مستعدة لقبول ضياع مصالحها ومواقعها ، فهي تملك دائما وسائل وأساليب ماكرة وعنيدة للمقاومة والإبقاء مكان على ما كان. وإذا كانت مرحلة مابعد حوادث 23 مارس قد إتسمت بهذه التطورات المعقدة ، فإنها طرحت بالمقابل أسئلة جوهرية، لعل أهمها هي الآتية : مالذي تغير في مغرب الإستقلال خلال عشر سنوات من زمن الصراع المحموم على السلطة وقيادة البلاد ؟ هل كان الحل في النهج الإنقلابي الذي سلكته بعض القيادات السياسية التي كانت ترى أن الطريق القريب نحو الإطاحة بالنظام، لاسبيل له سوى التحالف مع بعض قيادات الجيش ، التي كانت لها حسابات أخرى؟ مادام أن هذا الجيش هو القوة المنظمة والمسلحة التي تستطيع "الإطاحة بالنظام" دون عناء كبير ، وكانت التجربة المصرية التي قادها جمال عبد الناصر وغيره من ضباط الجيوش المجاورة، في كل من سوريا والعراق، تقدم نفسها نموذجا مببررا للإطاحة ب "الأنظمة الملكية القديمة" ، كقناعة سهلة شكلت دعمتها شعارات المد القومي العربي ، إلا أن الحزب الشيوعي المغربي المحظور، وقادته البارزون وقتها يجتهدون في بلورة برنامج الثورة، الوطنية الديمقراطية والتي تقتضي بإصلاحات جدرية وعميقة، من شأنها أن تفتح الطريق نحو قيام نظام إشتراكي تبنيه الطبقة العاملة والفلاحون والفقراء والمثقفون الثوريون .. لقد تنبه الحزب الشيوعي المغربي إلى أن حوادث 23 مارس ، تتطلب القيام بمقاربة جديدة، لفهم أوضاع البلاد، ولدى فإنه إنطلقت تلك الحوادث ، بشكل عفوي، ولم يقدها أي حزب سياسي ولا أية نقابية عمالية، ومما عبر في العمق عن وضع خطير، أدخل البلاد في دروبه المظلمة. كما كشفت هذه الحوادث، على أن الجماهير في المدينة العمالية المناضلة، باتت لها مطالب إجتماعية ، إنطلقت من قضايا التعليم فقط ، جماهير كانت تطالب بإصلاحات سياسية وإجتماعية إقتصادية ، ولم تكن تطالب موضوعيا ب "الإطاحة بالنظام" . وعليه، فإن المدخل الذي إختاره الحزب الشيوعي ، هو القيام بتحليل دقيق لأوضاع البلاد وإعتبار أن الخطر الذي يهدد المغرب ، يكمن في تعطيل المؤسسات الدستورية، وهيمنة "الأولغاريشيا" وبقايا النظام الإقطاعي ، والتبعية للإستعمار الجديد، البارز في بقاء الأجزاء المحتلة من التراب الوطني تحت النفوذ الإسباني في الصحراء وفي سبتة ومليلية، وأن لإنجاز هذه المهام ، إعتبر الحزب الشيوعي أن الضرورة تقتضي لفرض هذه الإصلاحات قيام وحدة لقوى الوطنية والتقدمية والثورية، ومن جهته فقد قدم الحزب الشيوعي نقدا ذاتيا جريئا تساءل في مضمونه عن الأسباب التي عاقت دون ربط مناضلي الحزب لعلاقات وطيدة مع المواطنين المغاربة، وتمثل تطلعاتهم، وخلص الحزب إلى أن السبب يكمن في تعالي مناضليه وجحودهم العقائدي ، وفي نفس السياق، طالبت قيادة الحزب جميع المناضلين أن يعيدوا النظر ، في كثير من إعتباراتهم الإيديولوجية التي لاتهتم بالثقافة الشعبية، خاصة وقد كان الكثير نهم يعيشون معزولين عن حياة الشعب اليومية ومدارج عيشه. والخلاصة، فإن تحليل الحزب الشيوعي المغربي المقدمات ونتائج الأحداث، دفعت به إلى التحذير من خطورة الوضع الناجم عن عدم الاهتمام بقضايا الشعب المعيشية في المدن والبوادي، وعن ترك البلاد فريسة الصراع عن السلطة، وتعطيل المؤسسات الديمقراطية ، إلا وأنه إعتبر من جانب آخر، بعض الرفاق في الحزب أن قيادة هذا الأخير ، وبتبنيها هذا النهج الديمقراطي ، ودعوتها للقيام بإصلاحات عميقة في المجالات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية ، وعدم رفعها شعار "الإطاحة بالنظام" عن طريق العمل المسلح، عبرت عنه بتخلي الحزب الشيوعي عن خطه الثوري، وتخليه عن مبادئ الإشتراكية العلمية ، وهو في الحصيلة النهائية ، إضفاء للشرعية على النظام الذي يعتبرونه ، لا وطني ولا ديمقراطي وغير شعبي … وبالنسبة للأحزاب لشقيقة فقد جاء موقف الحزب غريبا في نظرها، ، وجارحا ، في حين إعتبر المغرب ، الحزب الشيوعي المغربي، حزبا وطنيا ، ولم يعد بالتالي حزبا أمميا، مادام قد إعتبر النظام الملكي في بلد متخلف، نظاما وطنيا على خلاف ماكان قد جرى الإعتقاد به آنئذ، في معسكر الأحزاب الشبيهة . وحل المؤتمر الثالث في يوليوز 1966 ، الذي أقر فيه الحزب الشيوعي المغربي نهجه الجديد ، ليعلن بداية القطيعة مع النهج الدوغمائي، وليشرع في نهج سياسة جديدة وطنية مستقلة، تحددت على هديها هويته السياسية اليسارية التقدمية ، والحداثية والديمقراطية الإشتراكية ، إلا أن بعض رفاقنا لم يقبلوا بكل هذا التحول المفاجئ والمباغت ، لما كانوا يتصورونه " الخط الإيديولوجي الماركسي" فبدأت حملة اتهامات حزبهم بالكثير من الإسقاطات التي لاحاجة لإعادة ذكرها، مادام أن التاريخ قد أجاب ببلاغة ووضوح، ما يؤكد واقعية الحزب ، وجرأة قادته، وكان من بينهم وقتها المراحيم ، علي يعتة، وعبد الله العياشي، وعبد السلام بورقية ، وعبد العزيز بلال وعبد الهادي مسواك، وشمعون ليفي، وآخرين إن الرفاق الغاضبين وقتها، سوف يشكلون فيما بعد ما عرف بمنظمة إلى الأمام، التي قادها إبراهام السرفاتي في حين شكل الغاضبون من الإخوة في الإتحاد الوطني للقوات الشعبية ، وخاصة بعد صدمة إغتيال المهدي بنبركة، ماعرف بمنظمة 23 مارس، والتي قادها محمد بنسعيد أيت إيدر، كما كشف تطور المغرب اللاحق أن حوادث 23 مارس 1965، التي إندلعت بشكل تلقائي ودون قيادة سياسية كانت هي بداية المنعطف الصعب ، الذي ستعرفه حركات اليسار الذي عليه الآن ، أن يعيد النظر في قراءة هذه المعطيات التاريخية، ليتأمل مثلا ماقاله عبد العزيز المنبهي في آخر حوار له، مع يومية "المساء" والذي نشر بيوم الإثنين 11 نونبر 2013 ، حيث يؤكد المنبهي : " ولتغيير الأوضاع – في المغرب – نحتاج إلى خلق شرط موضوعي ، هو التنظيم القوي القادر على تعبئة وتنظيم الجماهير ، و هو الحزب لثوري ، حزب الطبقة العاملة والفلاحين والمثقفين الثوريين ، وهو حزب لايمكن أن يقوم بالتغيير إلا عن طريق الكفاح المسلح، إذ تستحيل الإطاحة بهذا النظام عن طريق المظاهرات والإضراب العام، لأنه نظام عنيف …." . والحق، أن رأي المنبهي ، كان سائدا خلال ماقبل 23 مارس 1965 ، وكان شبيها بما يتردد خارج حدود المغرب، وهو مستوحى من الأدبيات الماركسية اللينينية بالفعل، إلا أن مشكلته الأساسية ، هي أنه لايقوم على التحليل الموضوعي لبنية المجتمع المغربي ، ولا لمميزات القوى السياسية، ولايأخذ بعين الإعتبار الإمكانيات في التغيير السلمي للنظامبإعتبار ذلك ممكنا، ولايلتفت قط المنبهي إلى مكتسبات النضال لمناضل والديموقراطي الذي أدت فيه مختلف القوى السياسية والإجتماعية ثمنا باهظا، وليأخذك ذلك، بعين الاعتبار ، أن الأولوية بالنسبة لبلد كالمغرب ، تفرض أولا تحرير الأراضي المغتصبة للوطن الأم، علما أن أوضاع الطبقة العاملة نفسها، وتكالب عدة جهات محسوبة على البورجوازية الصغرى والوطنية الكبرى، عملت دون كلل على تقسيم الطبقة العاملة ، لكونها الطبقة الضعيفة أصلا بحكم التخلف الصناعي لبلادنا . إن الحزب الثوري هذا بالتصور الذي مايزال يحلم به عبد العزيز المنبهي ، سيظل حلما بعيد التحقق ، مادام أن النظام الديمقراطي يتطلب كل التضحيات الجسيمة التي لا تتوقف لقوى الديمقراطية في بذلها، بإمكانها أن تحقق بواسطته مجموعة من المكتسبات في ظل الإستقرار الذي أصبح اليوم ، مطلبا عزيزا وبعيد المنال بجل أنحاء العالم، والذي في إنعدامه وحتى في تهديده يكون الخاسر الأكبر عند ذاك هي الفئات الشعبية الأكثر حرمانا والأقصى هشاشة ، بما فيه طبعا العمال والفلاحون الصغار ممن سيوؤدون الثمن الباهض بانعدامه . شارك