ترجع صعوبة كتابة تاريخ حزب التقدم والاشتراكية، انطلاقا من نواته الأولى إلى اليوم، مرورا بمحطات محورية في نضالاته، إلى عدة أسباب؛ منها ما يتعلق بقلة المصادر التي اهتمت بكتابة تاريخ هذا الحزب الوطني الكبير، ومنها ما يعود إلى تفادي بعض النخب التي عاشت تفاعلاته مع الشأن الوطني والسياسي والديبلوماسي الحديث أو الكتابة عنه، لإيلائه ما يستحقه بالفعل من اهتمام كمساهم في صناعة مرحلة حاسمة من تاريخ المغرب المعاصر. قد يكون لمناضلي هذا الحزب ومفكريه جانب من المسؤولية في عدم العناية بما تيسر من وثائق تاريخية لم تجمع بالشكل الذي يسهل الرجوع إليها، أو ضاعت في يم إهمال جعل الاستفادة منها صعبة. بيد أن نيات صادقة تسعى اليوم لجمع هذا الشتات عبر رؤية حديثة من زواية تبحث في خبايا الحقائق وتقرأ ما بين السطور بحثا عن الحقيقة وعن قراءة وتحليل أكثر دقة وموضوعية اعتمادا على المناهج والتقنيات العلمية لتصفية الرؤية . وإسهاما في هذا الجهد، وتحضيرا لتخليد ذكرى الاحتفال بسبعينية الحزب، ستحاول بيان اليوم، من جانبها، الاطلاع على تاريخ حزب التقدم والاشتراكية وتمحيصه ودراسته من خلال جلسات ولقاءات مع مناضلين عايشوا مرحلتي الحزب الشيوعي المغربي وحزب التحرر والاشتراكية لبوا دعوة الجريدة مشكورين للمساهمة في إعادة كتابة تاريخ المغرب بمناهج ورؤى جديدة تعمل على دحض مجمل الكتابات الملتبسة واللاموضوعية والتي احتكرت كتابة تاريخ المغرب لمدة طويلة كان الهدف الأساسي منها تركيز سيطرة جهة على أخرى، واحتكار صفة الشرعية والتمثيلية. وسيلاحظ القارئ، على مدى هذه الحلقات، اعتماد المتحدثين في هذه الجلسات على مراجع مثبتة تعطي لكل ذي حق حقه سعيا وراء تقديم شهادات واقعية للأحداث. مناضلون يتذكرون مع احمد سالم لطافي16 «ورغم ذلك فهي تدور » إن المحاكمة الصورية، بل «محاكمة النوايا» التي أدت إلى حل الحزب الشيوعي المغربي، سجلت مفارقات غريبة: المفارقة الأولى تتمثل في الحكم الابتدائي الذي قضى ببطلان الدعوى لحل الحزب. المفارقة الثانية تكمن في كون أن النيابة العامة صرحت بوطنية قادة الحزب الشيوعي المغربي وسمو أخلاقهم وتفانيهم في خدمة وطنهم وشعبهم. وبذلك تكون قد سارت في نفس الاتجاه الذي رسمته إحدى المرافعات من فريق الدفاع، تلك المرافعة اللامعة للدفاع والتي قام بها الرفيق المحامي رالف بنهروش. أما المفارقة الثالثة فتتثمل في كون مرافعة النيابة العامة، وكذا قرار المنع والحل الصادر عن محكمة الاستئناف كان مبنيا على النوايا والعموميات. وبمعنى آخر فإن قرار محكمة الاستئناف هو قرار تم اتخاذه تحت الطلب، وبشكل أوضح فهو حكم يلبي مطالب فلول الإقطاع والاستعمار من جهة، ومن جهة ثانية يلبي أيضا المطامح الحزبية الضيقة الاقصائية لبعض من قادة حزب الاستقلال. وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، فقد تم استخدام فصيل من حزب الاستقلال ضد فصيل آخر، ولم تلبث حكومة عبد الله إبراهيم إلا حيزا وجيزا من الزمن، إذ تم إقالتها في يونيو 1960 من طرف الملك محمد الخامس. وعلى الرغم من كل هذه المعاناة والمضايقات وحلقات المنع والاضطهاد المعنوي والجسدي، وعلى الرغم من المنافي والاعتقالات والمحاكمات وألوان التعذيب الجسدي التي تعرض لها مناضلوا وقادة الحزب الشيوعي المغربي، على الرغم من كل هذا وغيره من المحن، فقد ظل الحزب صامدا، مناضلا، واضعا مصلحة الشعب والوطن نصب أعين قادته الذين أبانوا عن صلابة الموقف والشجاعة السياسية والأخلاقية في اتخاذ القرارات المصيرية. لقد أخطأ أولئك الذين ظنوا، أن قرارهم الجائر بمنع الحزب الشيوعي المغربي، أنهم قضوا على الحركة الشيوعية المغربية، وأنهم تخلصوا من خصم عنيد. فكما في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من القرن الماضي بينت الصيرورة التاريخية أن حزبا من هذا الطراز، حزبا جعل من قضايا الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء والمتنورين شغله الشاغل وهمه الوحيد، حزب جعل استقلال المغرب وحريته مهمة تاريخية، هذا الحزب، وهذه الحركة السياسية يحملان في كنههما جينة التجديد والوفاء، وخصلة الإصرار الثوري، على المضي دوما إلى الأمام. وهكذا، فبعد شهرين فقط على إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، وبالضبط في فاتح غشت 1960 يقوم الرفيق علي يعته، الأمين العام للحزب الشيوعي المغربي (المحظور) بتوجيه رسالة إلى محمد الخامس من أهم ما جاء فيها: «لقد وضعتم، ومنذ شهرين، نهاية للمهمة الحكومية للرئيس عبد الله إبراهيم، وبهذه المناسبة صرحتم أن من بين الأهداف الرئيسية للتشكيلة الجديدة التي تترأسونها هو إرساء نظام ديمقراطي يرمي أساسا إلى وضع دستور بمساهمة الشعب. «ولقد أصدر وزير الإعلام بلاغا يعلن فيه عن تشكيل قريب للجنة مكلفة بتحضير الدستور... «...إن الالتزام الذي عبرتم عنه يستجيب لأهم المطامح العميقة لشعبنا، وقد سجل مواطنونا بارتياح كبير هذا الالتزام... غير أن البلاغ الرسمي الأخير خلق لدى المواطنين مشاعر القلق وعدم الرضى، لأنه غير واضح وغير دقيق، فهو لا يشير إلى أسماء أعضاء اللجنة المعنية ولا يذكر انتماءاتهم السياسية ولا الأسس التي على أساسها تم اختيارهم. كما أنه لا يفصح عن المبادئ العامة للدستور المقبل. يخشى المواطنون أن انعدام الوضوح قد يخفي تبني منهجية خطيرة في اعتماد الدستور، ويخشون أيضا أن لا يأخذ الدستور بعين الاعتبار نضج الشعب، أو أن لا يستند إلى إرادة الشعب ولا تعتبره مصدرا لكل السلط. الأهمية البالغة للدستور «... ومن الواجب القول أن الوطن عانى كثيرا من غياب دستور، وتجلى ذلك في الأزمات الحكومية منذ الاستقلال... ولابد من التذكير، من جانب آخر، أنه في وقتنا الحاضر لا يمكن لأي بلد أن يعيش كما هو الشأن في القرون الوسطى فاقد لدستور مكتوب، إن الدستور ضرورة حاسمة، ولذلك أصبح مطلبا لجميع الطبقات الاجتماعية، ولذلك وجب وضعه باستعجال، ولذلك اقترحنا عليكم في رسالتنا السابقة، تحديد سنة واحدة لآجال تحضير وإصدار وأجرأة الدستور. أي مضمون للدستور؟ «...إن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي اعتبار المرحلة التاريخية التي تمر منها البلاد، حاجيات الشعب، الخصوصيات الوطنية والإمكانات السياسية. إننا نقترح أن ينبني الدستور على مبدأين أساسيين: 1 - الاعتراف بسيادة الشعب وحقه المقدس في تدبير شؤونه بنفسه، إن هذا الاعتراف يقضي بممارسة الشعب للسلطة التشريعية عن طريق ممثليه في الجمعية الوطنية المنتخبة بالاقتراع العام المباشر وبشكل حر، كما يقضي أيضا ممارسة السلطة التنفيذية من طرف الشعب بواسطة حكومة منبثقة عن هذه الجمعية الوطنية. 2 - إقامة الملكية الدستورية التي يقبل الجميع مبدأها، كما يظهر من خلال خطب عيد العرش وبرامج جميع الأحزاب وتصريحات كل الشخصيات. وتستمر رسالة علي يعته إلى الملك محمد الخامس في الحديث عن الاقتراحات فيما يخص النهج المتبع في وضع الدستور، ومن هذه الاقتراحات أن يصدر الدستور عن مجلس وطني منتخب بشكل مباشر. يستمر إذن الحزب الشيوعي المغربي، رغم حظره، في ممارسة أنشطته السياسية بالأشكال المناسبة والفعالة، وانطلاقا من المواقف المعبر عنها في تلك الرسالة، اتخذ الحزب الشيوعي المغربي موقف الرفض لدستور 7 ديسمبر 1962، وتبنى شعار: «الموقف الوطني والديمقراطي الوحيد هو رفض الدستور الممنوح عن طريق مقاطعة الاستفتاء» لكونه، أي الدستور الممنوح، أداة اخترعت لمحاربة مطامح الشعب المغربي العميقة، ولكون جميع السلط مجتمعة في يد الملك، ولأن البرلمان سيصبح صوريا يتنكر لسيادة الشعب. وللحزب الشيوعي المغربي وقادته مواقف جريئة أخرى، منها الموقف الشجاع من عواقب الحرب مع الجزائر أو ما سمي آنذاك بحرب الرمال، وهو موقف أمضاه كل من علي يعته، عبد السلام بورقية وعبد الله العياشي، مما أدى إلى اعتقالهم وتوجيه تهمة المس بأمن الدولة إليهم. وتوالت الأحداث والمواقف إلى أن حدثت مظاهرات واحتجاجات المواطنين بالدار البيضاء يوم 23 مارس 1965، التي تم صدها بعنف قوي من طرف قوات الأمن والجيش بقيادة الجنرال أوفقير. وبعد هذه الأحداث راسل حزبنا الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، اقترح عليه بعض الصيغ الوحدوية منها تكوين جبهة من الحزبين،أو الاندماج في حزب واحد، ولقد تقدم الرفيق علي يعته بصيغ منها حل الحزبين وعقد مؤتمر تأسيس لكي يندمج في حزب واحد. غير أن هذه الفكرة لم تحظ بالقبول لأن الطرف الآخر، أي الاتحاد الاشتراكي كانت له صيغ أخرى، أو بالأحرى صيغة أخرى هي أن يذوب الحزب في حزب الاتحاد الاشتراكي؟ وللحقيقة فإن هذه الفكرة لم تفارق هذا الحزب على امتداده التاريخي، وبطبيعة الحال فإن حزبنا لم يكن ليقبل تلك الصيغة الهيمنية. وفي الوقت الذي عارض فيه الحزب الشيوعي فكرة «حالة الاستثناء عقب حوادث مارس 1965، كانت هناك مفاوضات جارية بين النظام والاتحاد الوطني للقوات الشعبية بهذا الشأن وحول أمور أخرى متعلقة بالعودة إلى تدبير الشأن الوطني. غير أن النظام كانت له حسابات موازية وأساسية، فتم في 29 أكتوبر 1965 اختطاف المهدي بنبركة بباريس، واستمرت حالة الاستثناء 5 سنوات، وتوقفت المفاوضات بين الطرفين، ليأتي النظام مرة أخرى بفكرة دستور جديد سنة 1970. وقبل ذلك بادر الحزب الشيوعي المغربي سنة 1966 الى عقد مؤتمره الوطني الثالث.