كان لا يزال نصف وجه الشمس غارقا خلف ذلك الخيط الاسود البعيد، الممتد فوق قمة طبقال، لكنه راح يرتفع رويدا، رويدا متحررا من قيود الليل الذي دام طويلا كلما امعنا في المسير.. هبوطا من ‘شمهاروش” نحو إمليل ثم بعدها في إتجاه أسني . حدقت في وجه “بوشعيب ” ذلك الوجه اللامع ولم تحتمل عيناه ذلك الا قليلا فابتسم وهو يتمطط في كلامه نحويوقال: اتدري يا القنور ان للمرتحل على صهوة حصان، او ظهر سنام، عرقوب حمار، أو منكب بغل مثلنا، أنيسين ورفيقي درب هما الشمس والقمر، فحين يتغيب القمر عن الحضور فان المرتحل يبحث عن رفيق آخر، وأنيس بديل، يبدد عنه الليالي الجبلية فلا يجد الا النار ليشعلها، أو الحكايات والأهازيج ليرددها... أجبته ضاحكا: الانسان يا أخي “شعيبة” – وهو إسم الإستلطاف الذي أدعوه به، بدل بوشعيب – : منا من يهرب من الظلام باحثا عن النور، ومنا من يهرب من النور للإختباء في الظلام .... ألم تسمع قط بالظلامية.... يا شعيبة قال أسمعها كلما جاء الطلبة الجامعيون من مراكش، للصعود للجبل ... قلت الظلامية هي هستيريا الإختباء في الظلام، والأكل والنوم والتفكير والتعامل في الظلام.... استطرد “شعيبة” متسائلا ترى ماذا كان سيحل بنا لو لم تكن هناك شمس، او قمر، او شموع أو قناديل زيت أو محركات كهرباء ؟.. كان منتصف الفجر لا يزال بعيدا بعض الشيء عندما رحنا نقترب من الماء الذي لاح لي، ينزل من شلال مترقرق من بعيد وكأنه وعاء عبئ بماء الذهب، لقد كان عميقا ومتسعا مما دعانا للالتفاف للإقتراب منه ، وملامسته لان في ذلك إحساس بحشرجات الفجر ويقظة النهار. وبينما كنا نلتف مبتعدين عن ماء الشلال الصغير، المنهمر في خجل ،وإنسياب ... كانت طيور الغربان الكبيرة الحجم، و السوداء اللون تحوم بأعداد كبيرة، محاولة الهبوط على الصخور المواجهة، ترغب في اطفاء ظمئها بعد رحلة عطش طويلة انها “سعاة بريد الجبال نحو الوهاد والدشور في أسني وإمليل” تذكرت ما قاله لي “السي المختار” احد الكهول عن هذه الطيور القادمة من مناطق لا نعرفها من الشرق او شمال الشرق البعيد، الخارجة من ثنايا الحكايات وعبق الأساطير،فهو يعتقد انه في الاوقات التي تهاجر بها هذه الغربان فان اعالي الفضاء تكون مكتظة بالسحب التي لا يمكننا رؤيتها، وهي بطبيعة الحال مليئة برذاذ الماء، و تشكل مصدر شرب لهذه الطيور التي ما ان تعطش خلال طيرانها حتى تغوص في عمق الغيمة فيتبلل ريشها بالرذاذ الذي تقوم بالتقاطه بمناقيرها كوسيلة لتهدئة ظمئها، حيث تبقى طوال رحلتها على هذه الحال الى ان تجد الماء على الارض فتهبط لتروي ظمأها. لقد كانت وجهتنا احد الاودية الكبيرة من الطرف الشمالي لطبقال . انه يغص بالاشجار والاعشاب من شتى الاصناف، لهذا فان ذلك الوادي صار موئلا بالذئاب والثعالب والخنازير البرية، والارانب الكبيرة.... كانت البغال التي نركبها تنقل حوافرها ببطء شديد على ارض امتلأت بحجارة سوداء ذات احجام متفاوتة، لقد كان سطح تلك الاراضي مغطى تماما بتلك الحجارة التي قيل عنها انها اندفعت من فوهات الجبال المحيطة بنا، في زمن سحيق، لم يكن فيه لاماء ولا شجر ولا بشر.... قال المهدي، عالم رحلتنا.. لقد كانت الحجارة مشتعلة حارة كالجمر لكنها اخذت تبرد شيئا فشيئا،لتشكل كل هذه الجبال .... إستغرب كثيرا السي المختار من هذا الكلام: الذي بدا له غريبا، وقال بنبرة يعلو قسماتها الإحتجاج: الحجارة حجارة والجبال جبال، والأرض فيها الماء والأشجار... يا الله ! ان هاجس تلك الفوهات الموجودة في اعالي الجبال بقي يلازم الكثيرين فهم يخشون من معاودة انبعاث وتدفق حجارة اخرى قد تتساقط عليهم ، وعلى مواشيهم، ومغروساتهم، كما ينقل تليفزيون “مقهى عباس” في دوار أيت القاق هذه الأيام عن أوروبا. الطريق التي سلكناها بالبغال الخمسة، كانت وعرة وصعبة المسالك غير اننا وجدنا خلال سيرنا ما كان ينسينا ذلك، فعلى الرجوم الحجرية العالية كان بوسعنا قراءة العديد من الذكريات التي كتبت على قطع من الحجارة السوداء بالأصباغ كان قد تركها شباب وربما حتى كهول مروا بالمكان .... “عاش المغرب....، “فيف الكوكب... “فيف الرجاء .... “لطيفة ومصطفي” ورسم قلب دامي بالأحمر بعد هذين الإسمين... مما يعني شهادة حجرية عن عشق قد لايفتى . أخبرنا “شعيبة” أنه قابل “نصراني” يجيد رسم الحيوانات على الحجارة في إيجوكاك ... وفي الوقت الذي كان فيه وجه الشمس يميل الى لون قاتم وهو يقترب من خط اسود بعيدا في الغرب كي يسقط خلفه السديم، كنا نغير وجهتنا حيث رحنا نسير نحو الشمال الشرقي بغية الوصول الى الوادي ثم راحت ظلمة تهبط على المكان عندها .... لقد قضينا نهارا كاملا، من فجره إلى أصيله، ونحن نتجول في أسرار الجبل، دون أن نشعر بالوقت ...