في المعتقل أو عالم السجن أدخلتنا الشرطة إلى الزنزانتين و أقفلت الأبواب وراءنا بإحكام. كنت و إطاران من مجموعتي النضال و الطموح في زنزانة و كان الأطر الأربعة المنتمون لمجموعة الصمود في زنزانة أخرى محاذية. كانت هناك زنزانة ثالثة محاذية كذالك تقبع فيها امرأتان هما مواطنتان لا علاقة لهما بنضال المعطلين. وجدنا أنفسنا في زنزانة هي عبارة عن بيت طويل واسع لا توجد فيه إلا أغطية سوداء مرمية على الأرض، و في إحدى الزوايا يوجد مرحاض ذو حيطان قصيرة، ليس له باب و لا سقف و لكنه مستور نسبيا لأنه ينظر اتجاه حائط و ليس اتجاه فضاء الزنزانة حيث كنا ننام و نجلس. بدأنا نتبادل النظرات، و بدأنا كذالك نتجاذب أطراف الحديث. كان السؤال الرئيسي الذي هيمن على حواراتنا هو: "إلى متى سيدوم اعتقالنا؟". لم يكن الأطر على يقين تام بأن هذا الاعتقال سيدوم فقط ثمانية و أربعين ساعة ثم سنعرض على وكيل الملك للنظر في قضيتنا. كان أطر الصمود يقولون بأن الأمور ستمر على خير على الرغم من إبدائهم من حين لآخر لبعض مظاهر الخوف و اللايقين. أما في زنزانتنا فقد كانت حواراتنا يشوبها الخوف و الترقب لما يمكن أن يقع في الأيام التالية. اقتربت من إطار النضال و سألته قائلا: "ما رأيك في هذا الاعتقال؟". النضال: "إنها كارثة، أنا لا أعرف لماذا اعتقلوني! كنت في مستشفى ابن سينا أقوم بتصوير بعض الأطر الجرحى، قبضت علي الشرطة و جاءت بي إلى هنا، فأنا لم أكن في ساحة النضال و إنما في المستشفى! فليس من حقهم اعتقالي!". المستقبل: "هل تظن أن اعتقالنا سيطول؟، و ماذا يمكن أن يقع إن ألصقت بنا تهمة من التهم لتورطينا و تعقيد قضيتنا؟". النضال: و الله لا أدري، إنك يمكن أن تلاحظ أني أتكلم برباطة جأش و لكني في حقيقة الأمر أشعر كأن قلبي سيخرج من مكانه. لقد رموا بنا في هذه البيوت الحديدية و تركونا نتصارع مع الاحتمالات و التخمينات القاتلة و السيناريوهات الجهنمية!". المستقبل: "و لكن، في نظرك هل ستتم محاكمتنا؟". النضال: "أنا لم أفعل شيئا، أنا سأقول لهم بأني كنت في المستشفى و أخذوني منه إلى هنا دون أي سبب!، و لكني أظن أنه سيتم تقديمنا لا محالة أمام وكيل الملك، فإن برأنا سيكون خيرا، و إن اتهمنا بشيء فربما سيحتفظ بنا في المعتقل ثم ننقل إلى سجن سلا المسمى الز اكي." المستقبل: "في حالة تثبيت التهمة سيتم نقلنا إلى سجن سلا؟ و لكننا أبرياء، نحن أطر معطلون قضينا سنوات في التربية و التحصيل و التكوين، نناضل من أجل لقمة عيش طيبة، نناضل من أجل العمل و خدمة بلادنا باستثمار الكفاءات التي أنفقت لها الدولة أموالا طائلة لسنوات طويلة". النضال: "نعم معك حق و لكن من سيسمع منك و يهتم لكلامك...إن بإمكانهم الآن أن يفعلوا بنا ما يريدون!، انظر، لقد تركونا في هذا المكان الموحش، إننا لسنا مجرمون و هذا المكان لا يليق بنا...إنها أول مرة في حياتي أشعر فيها أني معتقل بكل ما لكلمة اعتقال من معنى!". المستقبل: "أنا كذالك هذه أول مرة يتم فيها اعتقالي...إنها أول مرة أرى فيها نفسي وراء قضبان حديدية متينة...إنها أول مرة أشعر فيها أني مسلوب الحرية مفصول عن العالم... و أرى فيها شرطيا يحكم إغلاق باب الزنزانة وراءنا خوفا من أي رد فعل و لو أننا لسنا ممن سيقومون بردود فعل ضد رجال الأمن، فكيف نقوم بردود فعل و نحن نعتبر أنفسنا رجال أمن على المستوى الأخلاقي و العلمي و الفكري و الثقافي، و هم رجال أمن على المستوى الواقعي التجريبي!؟...إنني أشعر أني وقعت في ورطة لم تكن لي أبدا في الحسبان، لقد كنت ضحية ثقتي بمسؤولي الأمن...لقد زجوا بي في قضية عويصة لا أعرف رأسها من رجليها، و لا أعرف كيف سأخرج منها!...". و يشاركنا الحديث إطار الطموح الذي سألته قائلا: "يا صاحبي، كيف سنخرج من هذا الاعتقال؟". الطموح: "و الله لا أدري! الله يفرج علينا و يجعل لنا مخرجا من هذه الورطة المشؤومة". المستقبل: "هل سنحاكم و نقدم أمام محكمة قضائية؟. الطموح: "و الله لا أعرف، و لكن كل شيء محتمل! إنني أكثر خوفا منكم...أنا لم أفعل شيئا خارج عن النضال السلمي المحترم للقوانين و لرجال الأمن...فكيف سيتهمونني و أنا بريء براءة الذئب من قميص يوسف عليه السلام؟". المستقبل: أنا كذالك خائف، و كيف لا تخاف و أنت في سجن! و لكن اطمئن سيكون خيرا إن شاء الله". ثم ننتقل من الحوار الجدي إلى بعض الحوارات الهزلية حتى نفرج عن أنفسنا، فنضحك قليلا و نتخيل أنفسنا خارج الزنزانة، و لكن سرعان ما يعود شبح السجن ليهيمن على تخيلاتنا، و سرعان ما تعود الأفكار الجهنمية لتستوحد على مواضيع حواراتنا: الاعتقال، التحقيق، المحاكمة، مقابلة وكيل الملك، المتابعة القضائية، سجن سلا...الخ. يخيم الليل، يغلق الشرطي المسؤول على حراستنا أبواب الزنزانات من جديد. كان يفتحها من حين لآخر لأننا كنا نخرج لجلب الماء من مكان محاذي للزنزانات نستعمله للغسل و للمرحاض. ثم يستسلم الأطر و كذالك باقي المسجونين لحاجتهم للنوم...يظفر كل واحد بغطاءين باردين نثنين، يفترش بأحدهما الأرض و يغطي جسمه بالغطاء الثاني. فعلت نفس الشيء، لكني، لحساسيتي المفرطة للبرد، كنت أستيقظ من حين لآخر لشعوري بالبرد يتصاعد من الأرض. أقلب رجلاي و أحركهما لأني كنت أشعر بهما يتجمدان. أترك النوم و أفضل المشي على طول الزنزانة ذهابا و إيابا كي أشعر بشيء من الحرارة وحتى تتحرك رجلاي و يذهب عنهما التجمد و لو أن ركبتي اليسرى ذات الحساسية الكبرى للبرد قد انتفخت انتفاخا، فكنت رغم ذالك أمشي و اضطرها للمشي و لو أني لم أكن أستطيع أن ألويها أو أطويها بشكل طبيعي. كنا حقيقة في السجن و لو أن فكرة السجن لم تقتنع بها عقولنا و لكن تأثرت بها أحوالنا النفسية تأثيرا بالغا كنت أشعر بسببها أحيانا بانهيار جسمي و تعب فكري. تذكرنا في هذه اللحظات فيلم النبي يوسف عليه السلام و كثير من الشخصيات التي عاشت السجن. و بذكرنا قصة النبي يوسف كانت نفوسنا تطمئن و ترتاح قليلا لهذا المكان البارد الموحش. كنا نحتج قائلين أن الأنبياء و منهم يوسف عليه السلام قد عاشوا أنواعا مختلفة من السجن، فكيف لا نحن! فهذا قدر من أقدار الله سنعيشه حتى يفرج الله علينا كما فرج على يوسف. و كم هي الأقدار ذات البلاء الصعب التي يعيشها الناس كل يوم! فلتهدأ نفوسنا و لتطمئن قلوبنا فما هذا إلا قدر من أقدار الله، و ما هذا إلا تجربة أراد الله أن نعيشها و نستفيد منها. يمضي الليل الموحش ببطء شديد، انظر إلى الشرفات الصغيرة في أعلى الزنزانة لأرى هل بدأ يلوح ضوء الصباح. أقضي الليل واقفا أو أمشي ذهابا و إيابا على طول الزنزانة، من حين لآخر أنظر متأملا الزنزانات الثلاثة فأرى منظرا في غاية التعاسة و العذاب، لا وجود للحرارة و الدفء، الجميع يفترش الأرض و يخلد للنوم متحملا البرد القارس و صلابة الأرض و شقاء الأغطية الباردة النتنة، فتتألم نفسي و يعود عقلي إلى التفكير، و يتعذب جسمي، و تتألم مشاعري، و ارمي بنفسي في متاهة المجهول: "لقد فعلوها بنا، لقد اصطادونا كما تصطاد الفراخ الضعيفة!حسبي الله و نعم الوكيل، اللهم فرج علينا، اللهم فرج كربتنا...".ثم أدعو بدعاء يونس عليه السلام:"لا الاه إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين". يأتي صباح يوم الخميس سابع أكتوبر، يستيقظ الجميع و تبدأ الحركة و الكلام من جديد. نسمع جلبة الشرطة في الخارج و هم يقومون باستعداداتهم لبداية يومهم الجديد. يغتسل الأطر و يتوضؤون الواحد تلو الآخر، ثم يصلون الصلاة التي كنا نجد فيها عزاءنا و راحتنا الكبرى على المستوى النفسي. يبدأ الحديث بين الأطر لإعادة مناقشة الأفكار التي نوقشت ليلة الأربعاء سادس أكتوبر. يسألون من فينة لأخرى رجال الأمن، يصيح إطار من مجموعة الصمود محتجا:"نريد أن نتحدث مع العميد، اذهبوا و قولوا له إن صبر المعطلين المعتقلين قد نفذ و إنهم يريدون الحديث معك". يجيبه الشرطي المسؤول عن الحراسة بنبرة قوية فيها كثير من الصرامة و القوة: "لسنا من يقرر، و لست من يقرر هنا، نحن هنا نطبق ما يأمرونا بتطبيقه، و ليس من حقنا أن نطلب أحدا...عليكم أن تلتزموا الهدوء و الصمت...عليكم الانتظار..". يهدأ توتر الأطر، و يعود الحوار في ما بيننا و نحن مجتمعون نتناول بعض المأكولات التي طلبناها للفطور. يدخن بعض الأطر السجائر الواحد تلو الأخرى، ينتشون رائحة النيكوتين التي تهدئ أعصابهم و أدمغتهم. أدخن معهم و لو إني لست معتادا على التدخين و إنما فقط من أجل النشوة و التسلية و تهدئة صداع الدماغ و طرد المزاج الثقيل الحاصل عن اضطراب النوم و البرد. كان الأطر يضحكون لطريقة تدخيني التي كان فيها شيء من التصنع و الأناقة، و كانوا يندهشون لرغبتي الملحة في معاودة التدخين خلال عدة فترات من زمن الاعتقال. نننتظر طول نهار يوم الخميس ترقبا لمجيء مسؤول ينظر في أمرنا، لكن دون جدوى. يطول النهار كذالك و يمر ببطء شديد. تعبت أجسادنا و نفوسنا بسبب هذا الانتظار القاتل. لم نعد نطيق وجودنا في الزنزانات و بدأ تحملنا ينهار شيئا فشيئا. استمر الأمر كذالك حتى المساء مع الساعة الخامسة تقريبا حيث جاء بعض عناصر الشرطة المحققين لينظروا في قضيتنا. جاء المحققون، فتوجسنا خيفة من التحقيق. بدأوا بتحقيق الأطر واحدا بعد الآخر. كان تحقيقهم الأول مع أحد أطر مجموعة الصمود طويلا، و كان تأويلنا لهذا التطويل يسير في اتجاه الشؤم و الخوف و الارتياب. جاء دوري فقوبلت من طرف المحققين بنوع من الاطمئنان. تكلم أحدهم قائلا: "ما ديرش ما تخافش"، و كأنه يقول إنكم لم تفعلوا شيئا مخالفا للقانون، فلا داعي للخوف و القلق. كنا نرتاح نسبيا لكلامهم و لكننا صرنا لا نثق بشيء. كنا نظن أن الشرطة تطمئننا حتى تقوم بعملها حسب الظروف التي تريد دون صدام أو مشادة كلامية، و أنى لأطر مثقفين و مؤدبين أن يستعملوا العنف الكلامي أو العنف الجسدي!. كان التحقيق عبارة عن أسئلة عامة عن السيرة الذاتية التي شملت معلومات عن الحالة المدنية و الدراسة و تجارب العمل و الانتماء الحزبي و كيفية الالتحاق بحركة المعطلين بالرباط و كيفية اعتقالنا...الخ. انتهى التحقيق الذي دام ساعتين تقريبا، ثم انسحب المحققون و تركونا لوحدنا في الزنزانات. سألت أحدهم قائلا: "متى سيطلقون سراحنا؟"، فأجابني قائلا: "ليس مساء هذا اليوم (أي الخميس) و لكن دون شك يوم غد الجمعة". اطمأننت و اطمأن الأطر قليلا. بعد هذه التحقيقات هدأ السجن، جلسنا نتحدث فيما بيننا لتسلية الوقت. عاودنا نفس المواضيع مع التعليق على هذه التحقيقات التي زادت في إشعال فتيل التأويلات السلبية حول ما سيؤدي إليه هذا الاعتقال. أما الشرطي المكلف بالحراسة فكان، بعد أن أغلق بإحكام أقفال الزنزانات، قد انسحب و اتخذ مكانه المتمثل في بيت مراقبة مجهز بمكتب صغير و مكتبة حديدية تحمل بعض الوثائق و الأوراق. قبالة هذا المكتب الصغير كان هناك الباب الرئيسي لهذا السجن التحت-أرضي، و من هذا الباب الحديدي الأسود اللون يمكنك أن تخرج و تصعد إلى الطابق السفلي لولاية الأمن. في أعلى هذا الباب كان هناك بويبان صغيران، واحد على يمين الباب و آخر على يساره، يفتح الشرطي أحدهما ليرى من يدق الباب قبل فتحه. كانت عملية الفتح تثير صوتا حادا و مرعبا بسبب طقطقة الحديد، و كان هذا الصوت يعبر عن الصرامة و القوة و الإحكام الشديد و يثير في مشاعرنا الإحساس بواقعية ناطقة للسجن. كنا نشعر بالحبس على مستويين: مستوى إغلاق أقفال الزنزانات، و مستوى إغلاق هذا البيت الحديدي الأسود. كنا نترقب من سيدق هذا الباب، و كلما دخل أحد من رجال الأمن أو من المتهمين لا يهتم لأمرنا تخيب آمالنا و يزداد شعورنا بالإهمال و الإقصاء، فنعود للانطواء على أنفسنا و الركون إلى الصبر و الاحتساب إلى الله تبارك و تعالى. سألت إطار النضال: "ما رأيك حول هذه التحقيقات؟". النضال: "و الله إن الأمر صعب، لا يستبين لي شيء، إنني أخاف من متابعة قضائية تؤدي بنا إلى سجن سلا الزاكي". المستقبل: "سجن سلا الزاكي؟ ماذا تقول؟ هل تتكلم بجدية؟ هل أنت واثق مما تقول؟". اسمع للمرة الثانية عبارة سجن سلا فتفشل رجلاي فشلا ذريعا و تنهار نفسي انهيارا مضنيا، و أتصور نفسي أقضي أياما بل شهورا في السجن، و أتخيل نفسي في حالة من العذاب الشديد لا أرى فيه نور الشمس، و أتذكر في هذه اللحظة عائلتي التي لا تعرف شيئا عما و قع لي و للأصدقاء الأطر، و لا أعرف كيف ستكون ردة فعلهم إذا نحن بقينا معتقلين أياما أخرى و لا يتم الإفراج عنا يوم الجمعة ثامن أكتوبر. كنت أقول مع نفسي:" لن أخبر عائلتي بما وقع، و إذا تم الإفراج عنا يوم الجمعة سأقول لهم إنني بقيت في الرباط بسبب النضال". ثم أسأل أطر الصمود قائلا: "ما رأيكم، هل سنخرج غدا؟". الصمود: "نحن متأكدون أننا لن نتجاوز قضاء ثمانية و أربعين ساعة من الاعتقال، و غدا سيتم تقديمنا أمام وكيل الملك". المستقبل: "أنتم متأكدون مما تقولون؟". الصمود: "لا تخف يا صاحبي، سيكون خيرا إن شاء الله، فليس لديهم حجة تبرر اعتقالهم لنا، و ليست لديهم حجة تبرر مثولنا أمام المحكمة". مع الساعة الثامنة مساء سمعنا دقات على الباب الحديدي، فتح الشرطي الباب و سمح للشخص بالدخول ثم انصرف إلى بيت المراقبة. كان هذا الشخص مسؤول أمن رفيع المستوى. تقدم منفردا نحو زنزاناتنا، حيانا تحية فيها لطف و تقدير و قال: "هاذ المرة دازت لطيفة" أي باللغة الفصحى: "هذه المرة مرت قضيتكم لطيفة" ، و أضاف قائلا: "كم مرة نصحتكم بعدم الاقتراب من باب السفراء؟ و كم مرة نصحتكم بعدم حصر الطريق العام؟ نحن نعطيكم الحرية للتعبير عن قضيتكم و لكنكم تخرجون عن خطوط حمراء يجب احترامها فتفعلون ما هو ضد القانون و المصلحة العامة. إنكم لستم مثل مجموعة الشعلة التي كانت تعرف ما لها و ما عليها. نحن لا نظلم أحدا، أنتم الذين تظلمون أنفسكم...فحذار حذار بالنسبة للمرة المقبلة..." اطمأن الجميع لصفة "لطيفة" التي استعملها هذا المسؤول، تكلم أحد منا قائلا: "نحن لم نفعل شيئا لقد اعتدوا علينا ظلما و بهتانا، لكن لا بأس هذه تجربة و نحن نحترم ما يقوم به رجال الأمن". و تكلم آخر مضيفا: " متى سنخرج من هنا يا سيدي العميد؟ نحن لم نفعل شيئا ضد القانون، نحن مثل آلاف من المعطلين ندافع عن حق يمنحه لنا الدستور هو الحق في الشغل...فهلا تفهمت وضعنا و حالتنا الحزينة هاته". حاول المسؤول إقناع كل واحد منا بما قاله محملا المسؤولية لكل واحد منا، و لم يحاول أن يخبرنا بوقت خروجنا من المعتقل و لا أن يطمئننا بما سيأتي فيما بعد. ترك حالنا كما هو عليه و ترك موضوع اعتقالنا مبهما غير واضح اللهم استعماله لصفة "لطيفة" التي نزلت بردا و سلاما على قلوبنا كما ينزل الغيث على الأرض العطشى، ثم سلم علينا باحترام و انصرف إلى حال سبيله. بقينا لوحدنا برفقة بعض السجناء كاليتامى الذين فقدوا آبائهم. رجعنا نتبادل أطراف الحديث حتى نقضي وقت ليلتنا الحزينة، أخذنا في مناقشة ما قاله هذا المسؤول الأمني، و استفضنا في موضوع ما بعد الاعتقال و المتابعة القضائية فغرقنا في تأويلات جهنمية زادت في إنهاك أنفسنا و إيلام رؤوسنا. و يأتي منتصف الليل، فنستسلم لقضاء ليلة أخرى مفترشين الأرض، آملين مجيء صباح يوم الجمعة بفارغ من الصبر. افترش الأطر الأرض و غطوا أجسادهم المرهقة و حاولوا شيئا فشيئا النوم. أما أنا، و بسبب التعب والتفكير المضني، استسلمت كذالك للنوم فاستلقيت على غطاء افترشته على الأرض حتى أستريح قليلا، لكن للأسف لم أستطع النوم بسبب البرد. أنهض واقفا كي أمشي، ثم أعود للنوم، لكن في النهاية لم أجد سبيلا من المشي طول و عرض الزنزانة حتى صباح يوم الجمعة الذي أنبلج بعد صبر مضني طويل. أشرق صباح يوم الجمعة، أخذنا فطورنا و أكلنا بعض المأكولات التي بعثتها المجموعة الوطنية التي نحييها هنا على مجهوداتها. مع الساعة العاشرة جاء مفتشو الشرطة الذين اخبرونا بأننا سنذهب معهم إلى وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بحي العكاري. سررنا لهذا الخبر لأننا سنخرج من عالم السجن، من عالم البرد و الظلام و الشؤم. لكننا بقينا متوجسين و خائفين من مثولنا أمام وكيل الملك، و كيف لا نخاف و نحن سنعرض لأول مرة في حياتنا أمام المحكمة! و ما أدراك ما المحكمة! سنعرض و ليس في مخيلاتنا إلا السيناريوهات الجهنمية. والواقع أن المخاض النفسي الذي عشناه خلال أيام الاعتقال كان منهكا و محطما أو بالأحرى قاتلا و مميتا. و لكن لا حيلة لدينا! علينا أن نستعد و نمشي مع قضيتنا إلى نهايتها مستندين إلى الله و مشيئته، و متسلحين برباطة جأش ممزوجة بكثير من الخوف و الترقب و اللايقين.