لم تكن عملية فرار 9 سجناء مدانين بأحكام ثقيلة في قضايا الإرهاب، ليلة ال7 من أبريل الماضي، عبر حفر نفق أرضي في السجن المركزي بالقنيطرة، ب«الحدث العادي». بل كانت عملية الفرار أشبه بفيلم هوليودي أخرج بإتقان كبير. ولأن الأمر كذلك، فقد تعددت الروايات في هذه القضية التي ظلت إلى حد الآن واحدا من الألغاز الكبرى التي لم تفك بعد. وهذه واحدة من الروايات التي يقدم فيها عبد الهادي الذهبي، الملقب بأبي أنس وواحد من السجناء التسعة الفارين، الذي أشرف على عملية الفرار، نفسه على أنه هو من هندس عملية «الهروب الكبير» من أولها إلى آخرها. ومن هنا أعددت دراسة الأنفاق وأماكن الإختباء عند القصف، وخير دليل ما واجهه الشعب العراقي من قصف عنيف في حرب الخليج الأولى بواسطة قنابل الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول التحالف، فلو لم تكن تلك الأنفاق والمخابئ لكانت الكارثة لا قدر الله، وهي التي بناها صدام حسين منذ سنوات، وكذلك ما واجهه الشعب الأفغاني منذ عقود ضد الجيش الروسي، والآن ضد أمريكا ودول التحالف، فكانت هذه الأنفاق التي يتجاوز بعضها الكيلومترات، حيث كثير من الأفغان لهم أنفاق أرضية في منازلهم تحسبا لأي طارئ من قبل الأعداء. فأقول إن النفق والكهف هما مكانان للاختباء والأمان، بحيث توجد سورة في القرآن الكريم سميت سورة الكهف لأهميته، وما واجهه أصحاب الكهف وهم فتية فروا بدينهم نحو الكهف، حيث قال تبارك وتعالى: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا) الآية، الكهف. وكذلك أول مكان التجأ إليه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن طرد من بلده هو الكهف. فكان الفرار واختباؤه في الكهف نصرا في حد ذاته، حيث ذُكر في القرآن الكريم في قوله تعالى (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا)، حيث يحتفل العالم الإسلامي بذلك اليوم وهو يوم الهجرة، فهي السنة الهجرية، فالنصر هو نصر المبادئ والمواقف. بداية المشروع: عندما كانت الفكرة والخطة راسخة في رأسي، فكرتُ مليا.. لا بد من تعاون ومن هم الإخوة الذين يصلحون لهذا العمل الشاق وغير المألوف، وهل مسبقا عندهم فكرة الهروب أم لا وما هي المشاكل التي قد تنجم إذا لم يشاطروني فكرة الفرار. فبدأت ألاحظ تحركات بعض الإخوة الذين وقع الاختيار المبدئي عليهم، من بينهم الأخ الفاضل طارق اليحياوي الذي أصبحت قريبا منه في كل الأوقات، فعزمت أن أفاتحه في هذا الموضوع الذي يتطلب سرية كبيرة، بحيث تكون حركات الإخوة محسوبة لكثرة الإحتكاك اليومي وكذلك حراس السجن وأجهزة المخابرات بزي حراس السجن، وزيادة على هذا كله كاميرا المراقبة التي تلاحظ الصغيرة والكبيرة داخل الحي وخارجه عبر الأسوار، وأبراج المراقبة، هذه كلها تحديات كان لا بد أن نضعها في الحسبان. فعندما طرحت معه فكرة الفرار وافق مبدئيا، فبدأت أطرح عليه بعض الأسئلة عن الكيفية وما هي الأدوات المطلوب الحصول عليها، في هذه اللحظة لم أكن قد فتحت معه فكرة النفق بعد. فأعطاني فكرة تسلق الأسوار بواسطة الحبال. فكان جوابي له أن الهروب الذي يجب أن نخطط له ينبغي أن يكون هروبا سلميا لا ضجيج فيه ولا مواجهة مع أحد. فطرحت عليه فكرة النفق، وأن هذه الفكرة ليست سهلة كما قد نظن بل تتطلب صبرا وجهدا كبيرا وتحديا للإكراهات التي سنُواجهها خصوصا الإخوة الذين ليسوا معنا في نفس المشروع. ولكن لو نجحت ستكون حدثا كبيرا وسابقة في هذا البلد. وكذلك هي رسالة نوجهها إلى الدولة لفتح هذا الملف وللتعبير عن معاناتنا داخل السجن. فوافق على هذه الخطة، فأصبحنا إثنان. فبدأنا، نحن الإثنين في اختيار الزنزانة المناسبة للعمل بها، فكان هذا الاختيار للزنزانة حسب أرضيتها وكذلك موقعها المناسب. فكانت مهمة جد صعبة حيث إن الزنازين المناسبة لهذا الأمر كان يسكن بها بعض الإخوة. فالتجأت إلى أحد الإخوة لأتبادل معه الزنزانة فطرحت عليه الفكرة وأن هذه الزنزانة أعجبتني وقدمت له هدية فوافق على هذا التبادل، ولكن بدون مقابل، فقلت له إن هذه هدية رمزية فقط فقبل. فاستلمت زنزانته، ثم أخبرت طارق بالموضوع ففرح كثيرا ولم تبق إلا الزنزانة المحاذية لزنزانتي كي يفاتح صاحبها ليسكن بمحاذاتي. فأخذ طارق يصلح زنزانته وكنت أساعده على إصلاحها حتى تصير مفضلة لدى أي أخ ليسكن فيها، وهو ما كان، حيث طلب من صاحب الزنزانة المجاورة لي أن يتبادلا، حيث كانت زنزانة طارق جد مغرية، وهو ما جعل هذا التبادل يكون سهلا. فأصبحت لنا زنزانتان محاذيتان. ومن هنا أصبحت لنا أرضية لبداية العمل. فبعد هذا التقدم الملموس، طرحتُ على طارق أن تكون بداية النفق من زنزانته حتى لا يشك الإخوة خصوصا وأني محكوم علي بالإعدام، ولكي أكون بعيدا عن أنظار الجميع، خصوصا حراس السجن. فقبل الفكرة واخترنا مكان الحفر بداية من كرسي المرحاض. حتى لا يشك أحد في وجود نفق أرضي، ويجب أن تكون هذه البوابة مصنوعة باحترافية كبيرة، فهي الأهم وهي الواجهة، فأي خطأ بسيط أو تهاون قد يُلاحظ وبذلك تفشل العملية. فاخترنا أحد الأوقات ودخلنا إلى الزنزانة في محاولة لقلع كرسي المرحاض بواسطة قضيب حديدي أخذناه من بقايا الأتربة والحجارة بداخل الحي، حيث كانت هناك بعض الأشغال كانت تقوم بها إحدى الشركات، فاستغللنا هذا الوضع وحصلنا على الإسمنت بطرق متعددة ومتتالية لإصلاح أي عطب قد يصيب بوابة النفق. فنجحنا، نحن الإثنين، في قلع الكرسي. فكانت هذه البداية من أصعب الأمور.. كانت الرائحة جد كريهة والحشرات من صراصير وغيرها وكذلك بعض الجرذان. فبعد هذه الملاحظات بخصوص الأرض وإلقاء نظرة على قنوات مياه الصرف ونجاحنا في قلع كرسي المرحاض بدون أن ينكسر، وهو ما كنا متخوفين منه، قمنا بإعادة الكرسي وتنظيف المكان، فهذه كانت إطلالة، فكان تخطيطنا هو تقوية بوابة النفق حتى يصبح الكرسي عبارة عن باب بحيث يكون مغلقا على الهواء مباشرة بعد إخراج التراب من الأسفل. فبعد هذه الإطلالة وتأكُّدنا أن العمل سيُشرع فيه، أخبرت طارق بأن الأمر يتطلب تعبئة قوية، يعني ذلك زيادة عدد الأفراد، فطرحتُ عليه إسمين من أسماء الإخوة أحدهما موجود في حي «أ» الذي نسكن فيه والآخر في حي «ج»، الأول بو غمير عبد الله والثاني مهيم محمد، فأخبرته بأنني قد ناقشتهما بخصوص هذا الموضوع منذ شهور، ولكن بدون تفصيلات، فأحسست أن لديهما الرغبة، فاطمأن لذلك، ففتحت معهما الموضوع مجددا وبتفصيل أدق، فوافقا على الفكرة، فأخبرتهما بأن طارق اليحياوي وأنا قد وضعنا اللمسات الأولى للمشروع وقد هيأنا الغرف المناسبة ومكان بداية الحفر، وهكذا لم يبق لنا إلا أن نقوم بجلسة طارئة لتنصيب أمير على الإخوة وتحديد المهام والمسؤوليات، وهو ما كان، حيث اختارني الإخوة أميرا عليهم، فطلبت منهم أن يجتهدوا في الدعاء لي بالتوفيق وبأن يُعينني الله على هذه المهمة والمسؤولية التي هي على عاتقي. فأصبحنا أربعة أفراد، كلفنا بوغمير عبد الله بالمهام الخارجية، أما نحن الثلاثة فركزنا أمورنا على حفر النفق وبعض التمويهات التي تُبعد جميع الشكوك عنا. وقبل تفاصيل بداية الحفر، أقصُّ عليكم رؤيا تراءت لي في المنام، حيث رأيت في ما يرى النائم أننا حفرنا حفرة كبيرة، فبدأ أحد الحراس يقفل زنازن الإخوة وقد اقترب من زنزانتنا، فقلتُ للإخوة إن هذه الحفرة جد كبيرة وقد تُكتشف، فخرجت من ذلك النفق ضفدعة فتكلمت معي بخطاب عجيب حيث قالت لي استمر ولا تخف، ومنذ تلك الساعة علمت أن الله عز وجل سيتم هذا العمل ولن يقدر أحد على توقيفه، وهو ما لامسناه في جميع أطوار الحفر، حيث إن الضفادع هي جند من جنود الله وكلام الحيوان في المنام حق. وكذلك قبل فرارنا أخبرني أحد الإخوة أنه رأى بعض الإخوة قد فروا من السجن، ونفس الرؤيا رآها أخ آخر. فعلمنا أن هذه الرؤى تعنينا نحن والله أعلم.