صمت وتامل : غبت عن الكتابة أو بالأحرى النشر من شهور ، و هاهو حدث رحيل المناضل إبراهام السرفاتي يقتلعني بكل قوة من ذلك الصمت الرهيب الذي قد يطال الكاتب (بة)بين الفينة والأخرى وهو يعيد ترتيب أوراق حياته بنوع من الكسل أو التكاسل اللذيذ ومن الانخراط اللامشروط في متاهات اليومي ، التافهة منها والجادة حسب المعايير المتداولة . عندما تبدو لك الأمور غاية في العبث والابتذال تتمسك بأهداب الصمت مثلما يتمسك العجوز بعكازه خوفا من الاندحار على حواف التفاهة . ألا يقال بأن الصمت حكمة في بعض الأحيان ؟ مهماز الفجائع : لا شيء بإمكانه إحداث تلك الرجة في الوجدان والعقل مثل الفجائع ....وبما أننا ثملنا فجائعا فلقد ألفنا تلك الزلازل الوجدانية التي تحول كينونتنا إلى ما يشبه براكين كامنة ، قابلة للانفجار في أية برهة . يبدو لي الوجدان العربي شبيها ببركان "ايزلاندا " الذي ظل يختزن فورانه الداخلي قبل أن ينفجر بشكل مفاجيء ليفرض عتمته الخاصة على سماء العالم ويعيد توجيه صخب المطارات والطائرات وفق مقوماته الداخلية كأي نظام اختار الغضب والتمرد بديلا عن كل الحوارات الخرساء . من يعيش على أصداء أخبار التقتيل والتدمير وما قد يوازيه من نهب وتخريب بالجملة في فضاءات يرتبط بها حضاريا ووجدانيا لا بد أن تكون خلفيته الوجدانية مثل شظية بركان تلتهب في صمت مكتوم محاط بغيوم غيظ كامن تفرضه شروط حياة تعج بالمتناقضات والالتباسات . وها هو الموت الطبيعي ينضاف بدوره لهذا الحصاد بالجملة ، مركزا على مجموعة من قادة الفكر والسياسة المتنورين بشكل متواتر وكأن السيد عزرائيل مصر على الاستمرار في متعة قبضه لأرواح ليست ككل الأرواح بشفافيتها وغناها وعمقها وتنورها .. . لا شك بأن الموت تختار هي أيضا "زبناءها "من ضمن الخيرين " كما يؤكد على ذلك المثل الشعبي المغربي ولعل في الأمر حكمة ما تتجاوز إدراكنا المحدود . لكن فجيعتنا مركبة ووجعنا يزداد عمقا كلما تناثر على ركح الفناء الدنيوي عقل كنا نقتات من بنات أفكاره في زمن الجوع الفكري والفراغ المعنوي الرهيب.!!!ّّّّ لقد أصر الخراب على حملته المتنوعة فاخترق النسيج العام بإصرار كبير : لا شيء يطفو على السطح غير النعيق الإديولوجي الفج ، وغثاء الغوغائية الذي يفيض على جوانب قدرنا (بكسر الفاء) البالغ الفوران . انحسار لما يحاور العقل مقابل غزو بالغ لما يؤجج الغرائز والحواس في مستواها الأدنى ..... هناك إصرار متنوع المشارب للزج باللاوعي الجمعي نحو مزيد من التسطيح والتتفيه والتهميش من سيرورة الإنتاج البشري في شكله الأسمى . سنة الخسارات المتتالية وسط سيرورة الخراب المتنوع الأشكال تبدو كل خسارة لمثل هؤلاء الأهرام مضاعفة النتائج . لقد كانت سنة 2010 سنة الخسارات بامتياز بالنسبة للثقافة العربية عموما ولتيار اليسار والفكر العقلاني بشكل خاص . حيث فقدت الساحة الفكرية والنضالية الديموقراطية رموزا ليس من السهل تعويضها نظرا لتفردها وتميزها وثقلها. حيث رحل عنا المفكرون الحداثيون والأدباء التالية أسماؤهم : نصر حامد ابو زيد ، محمد عابد الجابري ، محمد أركون ، فؤاد زكريا ، الطاهر وطار أب الرواية الجزائرية ، المخرج السوري داوود شيخاني ،الشاعر الغنائي محمد حمزة ، المفكر والطبيب النفسي السوري فاخر عاقل ، الشاعر البارز محمد عفيفي مطر و المفكر أحمد البغدادي من الكويت. ولا شك ان اللائحة ليست كاملة لأنها لم تذكر إلا من حضر في ذاكرتي هنا والآن ...ومن غاب عن هذا السرد العجالي ليس بالضرورة خارج دائرة الاهتمام والتأثير . مغربيا كلمت الساحة الفكرية والثقافية بشكل خاص بوفاة محمد عابد الجابري كهرم لا محيد عنه في حقل الفكر الفلسفي ، حيث عمل على تفكيك العقل العربي ومساءلة التراث الفكري والديني بأدوات تحليلية تتميز بالجرأة والعمق ولا يمكن إغفال دوره الريادي في التأليف التربوي حيث أنجز مع اثنين من زملائه كتابا بيداغوجيا في التدريس الفلسفي كان مرجعا أساسيا لتلاميذ الثانوي خلال السبعينات ثم الثمانينات مما مكن من إنتاج جيل قادر على المساءلة والنقد والتفكير قبل أن يتم التراجع رسميا عن هكذا خيارات . وقبله في سنة 2009 رزئت الساحة الفكرية المغربية والعربية في وفاة السسيولوجي و الأديب الكبير عبد الكبير الخطيبي مؤسس معهد السسيولوجيا في السبعينات الذي تم طمره من طرف نظام الراحل الحسن الثاني وتعويضه انتقاما بتوسيع شعب الدراسات الإسلامية كطريقة لتجفيف الرحم المنتج للمشاغبين العلمانيين فإذا به يسقط في فخ الشغب الأصولي المتطرف وشتان ما بين الشغبين . إثر ذلك وجه الخطيبي اهتمامه نحو الإبداع الأدبي لينتج نصوصا بالغة الجودة والعمق وأدار معهد البحث العلمي بالرباط . و ها هي أيادي الموت تطال مؤخرا أبرز المفكرين اليهود المغاربة بتتابع مثير : حيث رحل عنا الروائي والمفكر المغربي اليهودي إدموند المالح يوم 16 نونبر 2010 وبعده بيومين فقط :يوم الخميس 18 نونبر 2010 انطفأت شمعة أحد أشرس معارضي نظام الحسن الثاني ومساندي القضية الفلسطينية والخط الديموقراطي عموما ،المناضل اليهودي المغربي إبراهام السرفاتي . وما يميز الاثنين هو تشبثهما اللامشروط بمواطنتهما المغربية وانخراطهما في دعم الخط الديموقراطي ومعارضتهما للصهيونية ودعمهما للقضية الفلسطينية بالرأي والموقف الشجاع . ويمكن تسجيل نفس التتابع في الموت لدى 3 من ابرز المفكرين التنويريين العرب : نصر حامد ابو زيد المصري ،محمد عابد الجابري المغربي ومحمد اركون الجزائري . ثلاثتهم يشتغلون على نفس الحقل وبنفس الرؤيا تقريبا وإن اختلفت المقاربة وبعض الأدوات حيث يتنافسون في تفكيك العوائق الذهنية نحو الحداثة انطلاقا من تفكيك التراث و إخضاعه لمنطق العقل والنقد والمساءلة بكل جرأة وشجاعة. لعل الأرواح تتشبث بألفتها الأرضية وتحرس على رفقة الرحيل لعالم آخر لا زال يشكل ذلك المجهول الذي يبث الشعور بالرهبة والخوف والحيرة . وافاهام الله جميعا بواسع رحمته و أسكنهم فسيح جناته .