في المقالتين السابقتين المعنونين ب"الزواج المختلط" تطرقت في الأول لظاهرة انتشار زواج السود بالبيض بين أصحاب الجنسيات والديانات المختلفة، وركزت في المقالة الثانية على "زواج الإقامة" الذي انتشر بشكل لافت للنظر في البلاد العربية عامة والمغاربية على وجه الخصوص، بسبب تضييق الدول الغربية الخناق على الهجرة بكل أنواعها، واستصدارها لقرارات وقوانين للحدّ الكامل منها، حتى لم يتبقى للراغبين في الهجرة إلا الزواج بمهاجر أو بمواطن أوربي أو أمريكي. وسأتطرق بحول الله وعونه في هذا الجزء الثالث، إلى ظاهرة لجوء الشباب العربي والمغاربي، ذكورا وإناثا، إلى الارتباط بأوربين في عمر آبائهم أوأجدادهم، مقابل الحصول على وثائق الإقامة في بلد الُزوَجِ والذي يعزو الكثير من الباحثين أسباب انتشاره إلى صعوبة الهجرة الشرعيّة نحو أوروبا وزهد القارة في استقبال المهاجرين المغاربة، وتضييق الخناق على الهجرة السرية غير الشرعية، بين الضفتين الشمالية والجنوبية للبحر الأبيض المتوسّط، ما جعل من هذا النوع من الزواج المختلط، خيارا و"إستراتيجية أساسية للعبور إلى الفردوس الأوروبي"، لتحقيق أحلام الشباب، التي ليست دائما ماديّة ومعيشيّة، بل قد تكون بسبب "الأفكار السلبية تجاه الذات والمجتمع والإحساس الدائم بالقهر والدونية والتهميش وضيق الأفق وكما يقال أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"، فهو في حاجة أيضا للشعور بالاحترام والتقدير والقدرة على الحلم والانجاز، لكن حين يستحيل كل ذلك، يفضل الكثير من الشباب التضحية بجميع الامتيازات المادية من أجل العيش بحريّة ولو على هامش المجتمعات الأخرى، وبين أحضان عجائز أوروبيات ينتمين في الغالب إلى فئة الميسورات ماديا ولديهن دخول عالية، لكنهن في سن الجدات. حتى أضحت شوارع مديننا تعج بعجائز أجنبيات فوق الستين والسبعين، متأبطات أدرع شباب في العقد الثاني أو الثالث من العمر، وهن يعلمن أن هؤلاء الشباب ما ارتبطوا بهن إلا من اجل الهجرة أو المال. فما أقبح، وأقبح به من منظر شاب في مقتبل العمر وكامل التألق والجمال، وهو يبدي كل أنواع الطاعة لعجوز أوروبية أو الأمريكية، طاعنة متصابية تأبى الاعتراف بأثر الزمان وانقضاء الأيام والشهور والسنين، وتمني النفس بعبور الزمن ذاته أكثر من مرة أملا في العودة إلى أيام الصبا بفضل فحولة شاب اضطرته الرغبة الجامحة للهجرة، للبدل الحاتمي، مقابل حصوله على الإقامة أو الجنسيّة الغربيّة التي تخول له الامتيازات الاجتماعية التي توفّرها المؤسسات الغربيّة للمواطنين المقيمين بطريقة شرعيّة. وفي نفس السياق، يُحكىَ من باب التنكيت على الظاهرة، أن أحد الشباب العائدين من المهجر، تعثرت قدم زوجه الشمطاء ساعة النزول من الطائرة، فعلق بعض الظرفاء على الحادث منبهين الشاب: "هز أوراقك لتتهرس". وقد صدق أحد الشعراء العرب في وصف عجوزا تتصابى قائلا: عجوز ترجى أن تكون فتية == وقد لحب الجنبان واحدودب الظهر تدس إلى العطار ميرة أهلها == وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟ وليست إستراتيجية الزواج المختلط، بغية الهجرة حكرا على الذكور فقط، بل تحولت في السنوات القليلة الأخيرة إلى ظاهرة بدأت في الاتساع لتشمل الإناث أيضا، وتصبح صفقات "زواج/الهجرة" مطلبا ملحا تشترك فيه التلميذات والطالبات وخريجات الجامعات والعاطلات عن العمل وحتى بعض الموظفات، وكل الراغبات في ترك الوطن إلى بلد أجنبي مهما كانت لغته ووضعيته، وأضحى الزواج بمهاجر أو سائح مهما كان سنه يحظى بتشجيع ومباركة العائلات، كوسيلة وحيدة وإستراتيجية بديلة سهلة ومضمونة لوصول المرأة إلى أوروبا على حساب تعليمها الذي تبدى الطالبات استعدادهن للانقطاع نهائيا عن التعليم مقابل تلقي عرض زواج من أوروبي كيفما كان سنه ووضعه أو مهاجر عربي مقيم بأوروبا. ويعتبر فصل الصيف الذي يعود خلاله المهاجرون المقيمون بأوروبا إلى بلادهم ويتوافد فيه ملايين السياح الأوروبيين، مناسبة مثلى وفرصة ذهبية لإبرام صفقات زيجات مختلطة مع أزواج كبار في السن يمكنون الفتيات المغربيات من تحقيق أحلامهن وتحسين ظروفهن وإشباع الرغبة الخفية بكل ما هو أجنبي. وليس هذا التحول الجذري في عادات وتقاليد المغاربة الذين كانوا ينفرون فيما سبق من التزاوج خارج العائلة، وكانت ابنة العم وابن العم، في معظم الأحوال، هما المفضلين في الاختيار للزواج، وما قبول الأسر بزواج أبنائها من عجائز أوروبا، إلا دليل قاطع على الوضعية الاجتماعية التي تدفع ذلك الهوس المعلن بالهجرة. وليست كل زيجات الشباب العربي والمغربي المختلطة، من هذا النوع، بل هناك زيجات مختلطة متكافئة في السن والثقافة، تحدث جلها بعد قصص حب بين الزملاء في الجامعة أو العمل، أو عن طريق المُراسلة، أو الإنترنت، التي كثيرًا ما يلجأ إليها الشباب للارتباط بالغربيين فتنشأ عَلاقةُ حُبٍّ بين الطَّرفين وينجح الزواج. [email protected]