لطالما شكَّلت المراجعة الدائمة من قبل المثقف لعلاقته بمجتمعه، وبالسلطة القائمة، عاملاً محورياً في تقدّم المجتمعات، وركناً أساسياً من أركان تحديثها. فالمثقف، وجوباً، هو الناظر دائماً في استقامة البنيان الفكريّ والثقافيّ الذي ينهض أيّ مجتمع فوقه، والمتأمِّل في مدى صلاحيَّة هذا البنيان للديمومة والاستمرار. والمثقَّف، وجوباً أيضاً، هو المقوِّم لأيّ اعوجاج أو خلل قد يطرأ على تطبيق العقد الاجتماعيّ الذي يربط ما بين السلطة والمجتمع، وراسم خريطة الطريق المستقبليّة التي يجدر بالمجتمع أن يعبرها إلى فضاءات جديدة. تغيير عقيم وإذا نظرنا في التجارب التاريخيَّة للشعوب، ومنها تجربة العرب بالذات في عصورهم الذهبيَّة، لرأينا أنَّ المثقفين كانوا في طليعة المغيِّرين والناقلين مجتمعاتهم نحو آفاق أكثر حداثة. لكنَّ ديناميَّة التغيير هذه، التي يجدر بالمثقف أن يتولَّى بنفسه توليدها في كلّ آن، أضحت عقيمة وغير ذات جدوى في العالم العربيّ راهناً. يأتي هذا العقم مخالفاً لسياق عصرنا ذاته، هذا العصر الذي يتسم ليس بشموليَّة وغزارة منجزاته الفكريَّة والعلميَّة والثقافيَّة فحسب، بل أيضاً بشيوع وانتشار وسائل الاتصال والتثقيف التي تسهّل عمليَّة نقل المنجزات المذكورة عبر الحدود وعبر الثقافات وعبر اللغات، وتبسِّط سبل التلاقح الثقافيّ، وتسهِّل حدوثه بطريقة غير مسبوقة في التاريخ. وبتعبير آخر، يخطو المثقف العربيّ بعكس صيرورة التاريخ. رؤية تقدمية يتطوَّع الأمير مولاي هشام بن عبد الله العلوي، في مقال نشرته حديثاً شهريَّة "لوموند ديبلوماتيك" الفرنسيَّة، لشرح أسباب هذا العقم الذي يعتري المثقف العربيّ، سواء أكان المثقف المعنيّ هو ذاك المشتغل بعلم الكلام وتفسير الدين، أو كان ذاك الذي يتخذ من الفكر غير المستمدّ من الدين عدَّة عمله. ويأتي هذا التشريح في وقت تبدو فيه المجتمعات العربيَّة أحوج ما تكون إلى تيار ثقافيّ مؤثِّر ينقلها من حالها الحاضر المغرق في الرجعيَّة والجمود، إلى حال أكثر حيويَّة وتقدّماً. يعدّ الأمير مولاي هشام أحد أبرز الوجوه الثقافيَّة "المشاغبة" في العالم العربيّ. وحين يستلّ قلمه ليكتب، نادراً ما يمرّ حبره مرور الكلام غير المؤثِّر، لنراه يطبع النقاش بطابعه، ويثريه، ليعود فيُزهر في القلوب والعقول. وفي حين ينعته البعض، من باب الخبث والتحامل ربَّما، بأنَّه "الأمير الأحمر"، في دلالة على ما لهذا اللون من رمزيَّة التغيير ذي الطابع الشعبويّ، حتى لا نقول الاشتراكيّ أو الشيوعيّ، فإنَّ هذا الوصف الحمَّال الأوجه يصحّ أيضاً بمعناه الإيجابيّ على مولاي هشام، وذلك متى شاهدنا بأمّ العين كيف تنقلب كلماته إلى دماء تسيل غزيرة ودفَّاقة في عروق النقاش الثقافيّ والاجتماعيّ العربيّ اليابسة. وإذا حدث أن أغضبت طروحاته البعض حيناً، فإنَّ الزمن سرعان ما يعود ليكشف أنَّ صاحب الطرح كان رؤيوياً في تبصّره بالمستقبل، وأنَّ كلماته كانت تحمل الجواب الشافي عن معضلات وصف لها بنفسه العلاج حتى قبل أن يدرك الآخرون أنَّها تبطن معضلة أو مشكلة. من هذا القبيل كان المقال الذي كتبه في العام 1995 عن مستقبل الملكيَّة في المغرب. وقد أغضبت الطروحات الواردة في المقال في حينها الملك الراحل الحسن الثاني، وعاقبه الملك على طروحاته تلك، ليعود فيقرّبه إليه بعد سنوات، ما يدلّ ليس على صواب طروحات مولاي هشام فحسب، بل أيضاً على أنَّ الراحل الحسن الثاني كان يعرف أنَّ مستقبل المغرب، والعرب أيضاً، إنَّما يكمن في قبول الرأي المخالف، وفي النقاش الذي يثري، لا في القصاص المشوب بالقمع. تحالف الشياطين يحفر مولاي هشام في جرح غائر وقديم عمره أكثر من مئتي سنة. ما الذي يغلّ يدي المثقف العربيّ ويمنعه من إحداث فارق أو تأثير في عصر تلاقح الحضارات وسيادة وسائل الاتصال وعموميَّتها، وما الذي يؤبِّد السلطة في العالم العربيّ، ويؤبِّد أيضاً ممارساتها القديمة التي لا تستلهم العصر، ولا تسايره، ولا تتأثَّر بتحوّلاته؟ هذا غيض من فيض الأسئلة التي ينبري الأمير للإجابة عنها. وحتى يقيَّض له أن ينجح في فعل ذلك، يعمد إلى تفكيك الخريطة المعقَّدة لشبكة التحالفات التي تصوغ البنيان السياسي والاجتماعي والديني للمجتمعات العربيّة في زمننا الحديث. سرعان ما تظهر الصورة أمام ناظرينا واضحة؛ ثمَّة مثلث يقوم على أضلاع ثلاثة هي السلفيَّة الإسلاميَّة والسلطة السياسيَّة وطبقة المثقفين. تتشارك هذه الأضلاع الثلاثة، بالتساوي، المسؤوليَّة عن عدم حصول التغيير الحقيقيّ والمنشود في مجتمعاتنا العربيَّة، مثلما تتحمَّل، بالتكافل والتضامن في ما بينها، المسؤوليَّة عن عدم قدرة مجتمعاتنا على مواكبة العصر، أو على تجسير الهوَّة السحيقة التي باتت تفصلها عن الأمم من حولها. ويضرب هذا التفسير العمارة التي يكثر مريدوها في العالم العربيّ، والتي أفنى الكثير من المنظِّرين سنيّ حياتهم في تشييدها وإعلائها. يقوم جوهر هذه العمارة على فرضيَّة أنَّ للسلطة العربيَّة وجهًا وحيدًا هو أنَّها سلطة قامعة، وأنَّ للمثقف العربيّ وجهًا وحيدًا هو أنَّه مناضل وثورويّ ورؤيويّ وعاجز عن التغيير بفعل ضراوة قمع السلطة، وأنَّ ثمَّة علاقة متوترة وسلبيَّة بين السلطة والمثقف، بات يزيد من توتّرها وسلبيتها الإسلام السلفيّ، الذي صعد على حطام المدّ العروبيّ، والذي اشتبك، ثقافياً وسياسياً، مع كلا السلطة والمثقفين. لاءات ثلاث ينسف مولاي هشام هذه العمارة بضربة قلم. وسرعان ما يعلن لاءاته الثلاث جهاراً نهاراً: كلا، ليس المثقف العربيّ مغلوباً على أمره، بل هو شريك كامل الشراكة في المأزق السياسي والاجتماعي والثقافي العربيّ. كلا، ليس الإسلام مسؤولاً عن انغلاق الثقافة العربيَّة وتقوقعها، وإنتاج أجيال من منغلقي العقول والقلوب. وكلا، ليست السلطة في خصام، لا مع الإسلام السلفي، ولا مع المثقفين. ثالث اللاءات هي ما يفتتح به مولاي هشام الجدال. إذ لا يمكن أن يُعزى العطب الذي يعتري ديناميَّة التغيير في المجتمعات العربيَّة إلى الإسلام بذاته. فالإسلام ، الذي نهض كدعوة للإصلاح والتغيير في الأساس، يقدِّم عبر أزمنة متفاوتة أدلَّة لا تحصى عن قدرته على استيعاب عدد هائل من التأثيرات الثقافيَّة وصهرها في بوتقته. بل إنَّ الإسلام تقدَّم في محطات كثيرة ممارساً تأثيره الهائل بفضل هذا الانفتاح بالذات. ولا تغيب الأدلَّة عن أنَّ العديد من الفتوحات التي أنجزها الإسلام إنَّما حدثت بفضل تأثيره الحضاريّ والثقافيّ الذي سبق تأثيره العسكريّ أو السياسيّ. وفي محطات مفصليَّة، لعب الإسلام دور الوسيط الثقافيّ والحضاريّ الوحيد، فكان مثلاً الجسر الذي عبر فوقه تراث أوروبا الإغريقيَّة ليشعل نار عصر النهضة في هشيم أوروبا القروسطيَّة ، ولولا الإسلام، لكانت ضاعت شعلة هذا التراث الإنسانيّ الفريد إلى الأبد. لقد تمثَّلت عظمة الإسلام إذاً في أنَّه انخرط في جهد جبَّار لدرس وتطوير المنجزات الثقافيَّة، وتطويعها لتساير عصره. يعيد مولاي هشام ترتيب علاقة العرب بالأشكال العصريَّة للتعبير الثقافي من منظور تاريخيّ جديد. فخلال القرنين الماضيين، كان العلماء ينظرون بعين الريبة إلى الأشكال العصريَّة للتعبير الثقافيّ، والتي قد "تسمح للناس بإدراك حياتهم والعالم من خلال آليات منفلتة من الدين". لكن بالرغم من محاولتهم إقامة سدّ يمنع تسرّب هذه الأشكال الأدبيَّة والفنيَّة المعاصرة إلى العرب، إلا أنَّ ممارساتهم تلك كانت تتصف بنوع من التسامح إزاء التعدّديَّة في الرأي. وفي نظرهم، لم يكن الكثير من هذه الأشكال العصريَّة للتعبير الثقافيّ يتعارض مع الدين بتفسيراته الأوسع والأكثر شموليَّة. وعلى هذا الأساس، حظي المنجز الفنيّ والثقافيّ الحداثيّ الوافد بالقبول، خصوصاً في أوساط النخب العربيَّة. تفسير متزمت لكنَّ التحوّلات اللاحقة أعادت خلط الكثير من الأوراق. فمع تراجع المدّ العربيّ، بزغ فجر الحركات الأصولية السلفيَّة التي تحمل تفسيرها الضيّق للدين. وسرعان ما وجد هذا التفسير مريدين كثراً في الوسط العربيّ، خصوصاً حين راحت هذه الحركات تقدّم اعتراضها على المنجز الثقافي والفنيّ الوافد ليس بوصفه مخالفاً للقراءة المتزمتة للنصّ الدينيّ، بل أيضاً بوصفها تجسيداً "للمقاومة ضد الاستغراب والاستعمار الجديد"، والذي فشلت السلطة العربيَّة العلمانيَّة في التصدّي له. وتتمثَّل المشكلة في أنَّ المثقفين أنفسهم سقطوا في فخّ القبول بهذا التفسير المتزمِّت والأحاديّ والضيِّق، أو هم قبلوا أن يلعبوا دور الشيطان الأخرس، كي لا يتهموا بأنَّ اعتراضهم ينطلق من معاداة الهويَّة العربيَّة أو محاباة الاستعمار. ويقدِّم مولاي هشام مثالاً واضحاً على ذلك. ففي صيف العام 2009، عمدت مجموعة من الشباب المغاربة إلى إفطار رمضان علانية في حديقة عمومية. ولم تثر تلك الحادثة ثائرة رجال الدين فحسب، بل أثارت أيضاً غضب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبيَّة، وهو أهم حزب اشتراكي ديمقراطي في المغرب، الذي طالب بمعاقبة المفطرين. وبالفعل، وجهت السلطات للمفطرين تهمة "المس بالنظام العام"، موظِّفة القانون المدنيّ كحجاب لحماية النظام الدينيّ. يعبِّر ذلك، بطريقة فجَّة، عن تموضع السلطة السياسيَّة بأسرها في موضع القابل من دون شروط للتفسير الضيِّق للنصوص الدينيَّة، وقبولها أيضاً بأن تلعب دور الأداة الجاهزة لتأبيد هذه القراءة، وتعميمها، ومعاقبة كلّ من يخالفها أو يشذّ عن قواعدها. ويعرض هذا التأطير الفكر النقديّ لخطر الانكشاف ليس أمام نقد السلطة الدينيَّة فحسب، بل أيضاً لعقاب السلطة السياسيَّة. بالرغم من ذلك، لم يعق هذا التحالف الإنتاجات الثقافيَّة المبثوثة عبر التلفزيون والفيديو والأنترنيت والأدب الشعبي من التسرّب إلى الناس، ولم يمنع هؤلاء من تذوّقها. يكتب مولاي هشام: "إننا نعاين، على مستوى النخب، شغفاً متزايداً بالفن المعاصر، تشجعه منظومة الرعاية التي تساهم فيها مؤسسات غربية ومنظمات غير حكومية ومَلَكيات الخليج. ومن جهته، فالشعب ليس في مأمن من تدفق إنتاجات الشركات متعددة الجنسيات، العاملة في مجال الترفيه والإعلام. وينضاف إلى انتشار المنتوجات الأميركية الشمالية المنمَّطة، التوزيعُ الجماهيري للإنتاجات الثقافية المحلية (سواء تعلق الأمر بالقناتين الإخباريتين الجزيرة والعربية، أو بالمسلسلات التلفزيونية والأدب الشعبي، وخاصة كتب الإرشادات العملية أو الحياة الغرامية)، مثلما ينضاف انفجار الإبداع الموسيقي والفني الذي أصبح ممكنا بفضل الأنترنيت، والذي تتابعه الشبيبات العربية بحماسة". حياة خلف اللحى وقد أنتج ذلك، بمعنى من المعاني، شكلاً من أشكال انفصام الشخصيَّة بات يسم المنطقة. ففي حين نرى أنَّ الجمهور، بفئاته الأوسع، يحرص على تقديم صورته في عيون الآخرين بوصفه ملتزماً بالدين وتعاليمه ومتمسِّكًا بها، سواء من خلال الذهاب إلى المسجد بدل ارتياد قاعات السينما، أو ترك اللحية تنمو أو وضع الحجاب، فإنَّه يستهلك كلّ ما تحمله إليه وسائل الاتصال الحديثة من أشكال ثقافيَّة دنيوية الطابع بعيداً عن الأعين وداخل جدران منزله. ولا يقتصر هذا الانفصام على عامَّة الجمهور وحده. فالسلفيّون ذاتهم مثلما يكتب مولاي هشام "تأقلموا تماماً مع هذه الوسائل الجديدة من قبيل الأنترنت، وهم يعتقنون توظيفها لصالحهم. ومن جهة نظر المتدينين، فاستهلاك الإنتاجات الثقافية الدنيوية يجب أن يظل خطيئة سرية، أما بالنسبة للسلطات، فمن الواجب أن ينحصر هذا الاستهلاك في الترفيه، وألا تتمخض عنه تبعات اجتماعية أو سياسية. كما أنه من المفروض على كل فرد احترام المعيار السلفي، حتى إذا كان ينزاح عنه في حياته الخاصة. وبشكل مفارق، فالخرق اليومي والفردي للتعاليم القرآنية في إطار الترفيه داخل البيت، لا يؤدي إلا لتدعيم هيمنة الديني، ذلك أن الخرق شخصي، بينما المعيار السلفي عمومي. وينتج عن توفيق هذين المعطيين نمط من السلطة الأيديولوجيَّة اللينة التي تعدّ أنجح من الرقابة البيروقراطيَّة". وينسحب هذا الانفصام على مفاصل أساسيَّة عدَّة من الحياة العربيَّة. فعلى مستوى اللغة العربيَّة مثلاً، نجد اتفاقاً غير معلن بين القوميين والأصوليين قوامه عدم الاعتراف بغير العربية الفصحى، لغة القرآن، كوسيلة للتعبير ثقافياً. وبالنسبة إلى القوميين، تمثّل الفصحى تجسيداً للقومية العربية، في حين تجسد صلة وصل مع العالم الإسلامي بالنسبة إلى الأصوليِّين. وفي النتيجة، تتحجر اللغة العربية وتصبح عاجزة عن ملاقاة التحولات التي تطرأ على المجتمعات الناطقة بها، وتقيم حاجزاً منيعاً يمنع بزوغ أيّ تعبير شعبيّ. أفضل الممكن يفضي كلّ ما تقدّم إلى رسم صورة واضحة عن خريطة التحالفات المعقودة بين مثلث السلطة والسفليين والمثقفين. فالسلطة السياسيَّة تحاول جاهدة برأي مولاي هشام خطب ودّ السلفيين عن طريق لعب دور الحارس للأخلاق العامَّة، سواء من خلال الضغط من أجل ارتداء الحجاب أو إغلاق قاعات السينما، لكنَّها لا تقيم قطيعة نهائيّة مع المعتدلين، فتعمد إلى حظر أكثر أحكام الشريعة قسوة، ومنها رجم الزاني والزانية على سبيل المثال. في المقابل، ينشد المثقفون حماية الدولة لهم من العلماء أو الأصوليين. ما يقودهم في خاتمة المطاف إلى مساندة قادة الأنظمة. بل إنَّ هؤلاء يرون أنَّ الحكومة، وإن كانت جدّ قمعية وسلطويَّة، "تمثل شراً أقل ضرراً من الإسلاموية، وذلك نظرا لصيانتها لبعض فضاءات الاستقلالية الثقافية ". يشرِّع وضع مماثل الوقوع في أشكال مختلفة من الاستسلام السياسي، خصوصاً في أوساط المثقفين، أو ، بتعبير مولاي هشام، «فرار الأدمغة» الواقعي أو الافتراضي. وهكذا، نجد أن المثقف استقال تماماً من أداء دوره التغييري، لأسباب شتى، إما خوفاً من السلطة والسلفية ومحاباة لها، أو طمعاً في المكاسب الناجمة عن هذا التأييد. وليس غريباً أنَّ العديد من الفنانين والكتاب إمَّا استقروا في الخارج، أو أصبحوا يوجهون إنتاجاتهم لجمهور بعيد عن بلدانهم. أكثر من ذلك، يجدّ المثقفون في السعي والإسلام السلفيّ ومحاباة لهما، أو طمعاً بالشهرة في الخارج وبالحصول على الموارد المالية من المؤسسات الغربية، وذلك في غياب أي برامج وطنية لدعم الإنتاج الثقافي. وفي المحصلة، نجد أن هؤلاء المثقفين قد تنكرّوا للدور الذي كانوا يضطلعون به، ولم يعودوا يشكلون رأس حربة الحركات الاجتماعية، السياسية أو الثقافية. لقد صاروا يشبهون أكثر فأكثر، وتعبير مولاي هشام، "فئة من جلساء الأمراء المعششين في حضن الدولة، أو في حضن عرابين أغنياء ونافذين. لقد تبخَّرت صورة الفنان المعارض، تلك الصورة التي كان يجسدها، سابقاً، الكاتب المصري صنع الله إبراهيم أو المجموعة الغنائية المغربية ناس الغيوان". ماذا فعلت يا فاروق؟ والحقّ أنَّ الأمثلة التي يمكن إيرادها في هذا السياق كثيرة. يكتب مولاي هشام: "في مصر مثلاً، يتحمل الفنان التشكيلي الطلائعي فاروق حسني منصب وزير الثقافة الآن. وفي سوريا، عينت مترجمة جون جوني، حنان قصاب حسن، في سنة 2008، مندوبة عامة لتظاهرة «دمشق عاصمة للثقافة العربية»، وهي تظاهرة مدعمة من طرف اليونسكو. وكيفما كانت أهمية أفكارهم حول الثقافة أو المجتمع، فإن بعض الفنانين، ومن بينهم، على سبيل المثال وائل شوقي (الذي شارك في معرض الإسكندرية المقام كل سنتين) أو هالة القوسي (الحائزة على جائزة أبراج كابيتال للأعمال الفنية الممنوحة في دبي)، يظلون في منأى عن كل التزام سياسي". يخلص مولاي هشام من كلّ ما تقدَّم إلى التأكيد بأنَّ الأفق غير مسدود أمام التغيير. يقول: "بما أن التبعية للنظام القائم ليست الحل، فإن سبر فضاءات جديدة للاستقلالية الثقافية والتجريب بمقدوره فسح المجال أمام إعادة إحياء معارضة السلطات الاستبدادية التي تحكم الجزء الأكبر من العالم العربي". وهو يضيف: "لكي يكون بمقدور الفعل الفني والثقافي أن يشجع على تعميم التغيير الديمقراطيّ في المجالين السياسي والاجتماعي، فإنَّه من الأهمية بمكان معارضة المعيار السلفي في ميدانه، وذلك عن طريق اقتراح بديل يحظى بالمصداقية". كيف يمكن توفير هذا البديل؟ يتحقَّق ذلك عن طريق "الاغتراف من التقاليد العربية والإسلامية التي عدَّدت، طوال قرون، فضاءات الاستقلالية الثقافية. وسيُمثل هذا المعيار العمومي الجديد، المُكيَّف مع العالم ومع تقاليدنا، أحد أعمدة كل مشروع أصيل للديمقراطيَّة. وليس من الممكن تشييد هذا المعيار على أساس إنكار التحدي السلفي، ولا على أسس الخضوع لشروطه".