على هامش مشروع الجهوية الموسعة جاءت الجهوية (إن كانت جهوية حقيقية) لترد الأمور إلى أصحابها الغيورين عليها (إن لم يكونوا هم أيضا مجرمين ويضيعوا فرصة التنمية) في التصميم الخماسي (1960-1965) الذي استعمل مصطلح الجهوية رسميا لأول مرة في المغرب. أما تحديد مفهوم الجهوية قانونيا فلم يدخل حيز التطبيق إلا سنة 1971، وفي هذه السنة قسم المغرب إلى 7 جهات و مناطق. فمنذ السبعينات بدأ اهتمام بالغ بموضوع الجهوية في المخططات الوطنية في أفق تطوير نوع جديد ومتطور من اللامركزية. التجربة الأولى فشلت في تليين وتصريف انعكاسات الفوارق الجهوية اجتماعيا واقتصاديا، ومركزية الاستثمارات العمومية والخاصة . مع المخطط الخماسي (1973-1977) نجح في وضع اللبنة الأولى لمجال التدخل الجهوي للدولة. لكن مع الضعف العام للتجربة استدعى أمرا بالمراجعة مع خطاب ملكي سنة 1984، حدد الخطوط العريضة للإصلاح الجهوي، كإصلاح تتمكن معه الجهة مبدئيا و قانونيا من التوفر على سلطات تشريعية وتنفيذية من أجل تحقيق توازن اقتصادي تنموي بين الأقاليم. ثم جاء قانون 1987 المنظم للجهة (المأخوذ من النظام الألماني). لكن مخطط المسار (1992-1998)، كان نهاية معلنة لهذه التجربة من خلال ما وجه إليها من انتقادات، تتعلق بالكيفية التي عولجت بها التنمية الجهوية. كان من أسباب ذلك؛ انعدام التنسيق بسبب الإرث الماضوي والتسلط الإداري والتداخل في الاختصاصات الذي كان يعرقل مشاريع التنمية. وكذا ثقل المعطى التاريخي في التجارب الاقتصادية والسياسية المغربية. وخلال المخطط الخماسي 1988-1992، جاءت رسالة ملكية تحث على تدعيم دور الجهة في المستقبل على شاكلة التجربة الألمانية. أما دستور 1992، فجاء مناديا بتقسيم الجهة إلى وحدات ترابية. أما دستور 1996 المراجع اعتبر الجهة جماعة محلية، لكنه لم يحدد لها اختصاصات تشريعية مباشرة، كما هو الحال بالنسبة ل( ألمانيا وفرنسا وإيطاليا،) التي وسع لها الدستور عدة وظائف تشريعية وأعطاها حق تقديم الاقتراحاتووضع القوانين ورفعها إلى البرلمان الوطني، بل المغرب ترك الأمر لمجلس المستشارين المنتخب بواسطة الاقتراع غير المباشر، من الجماعات المحلية، وممثلي الغرف المهنية. وتأتي سنة 1997، لكي يعرف فيها المغرب تقسيما جهويا جديدا وصل إلى 16 جهة. و تعتبر الجهوية السياسية أقصى درجات اللامركزية في إطار الدولة الموحدة دون الوصول إلى الدولة الفدرالية، وأساس شرعية الجهوية، لا يقتصر على الاعتراف بوجودها كجماعة محلية، و إنما يطول تحديد اختصاصاتها وطريقة انتخابها وتحديد وسائلها المالية (كما هو حال التجربة الإسبانية والألمانية مثلا). ورغم الإخفاق الذي عرفته الجهوية في المغرب خلال هذه الفترة فقد كان أول دولة في العالم العربي تبنت السياسة الجهوية. لقد أصبح للجهة في عصرنا مفهوم اقتصادي قبل أي اعتبار آخر، و بذلك يتم إهمال وتغييب مصادر للاقتصاد مثل "السياحة الثقافية، الموروث الروحي والأنتروبولوجي للجهة، المنتوج الحضاري والتقليدي للجهة". ثم إن اللامركزية المنشودة لامركزية ديمقراطية تشرك "قانونيا" الإدارة المحلية في تحمل أعباء الدولة، والانسجام المؤسساتي والوحدوي المندمج للمجتمع.. وبذلك تكون الجهوية عبارة عن تكتلات اقتصادية، اجتماعية، سياسية تهدف بشكل جماعي تنمية الإقليم ورفع مستواه التنافسي مع باقي الأقاليم.. إن إشكالية الجهوية والجهة لها ارتباطات عضوية بالتخطيط المجالي والتخطيط الاقتصادي والاجتماعي والتقسيم الترابي والعسكري كمسلسل شامل ومترابط، وطبيعة الجهة وموقعها لابد أن يكون صلة وصل بين المستوى الوطني وتخطيطه الترابي والمحلي والاجتماعي والاقتصادي.. ومنفتح أيضا على المستويات الإقليمية والدولية التي تجعل منه نسقا شاملا غير مجزوء من محيطه الداخلي والخارجي وغير متناقض ومعرقل للتنمية الصحيحة والمستديمة.. إلى جانب أن السلطات المالية الحقيقية أسندت لوالي الجهة ورئيس الجهة. وهو عنصر غير منتخب، بل معين مدعم باختصاصات واسعة إذ أنه يمثل الدولة داخل الجهة، وينفد القوانين والأنظمة، ومسئول عن تنفيذ مقررات مجلس الجهة. أما رئيس الجهة المنتخب لا يعطيه المشرع سوى اختصاصات إدارية فقط. بخلاف عامل العمالة أو الإقليم، فله هو الآخر صلاحيات واسعة... لقد ناضل المغرب في رحلته نحو ترسيخ الجهوية بالمغرب إلى التأكد من أنه لم يعد مقبولا أن تسير الدولة بصفة احتكارية من العاصمة. كما أنه أصبح واضحا أن النظام الجهوي يستوجب تغييرا في منطق العمل، تحديثا على مستوى البنيات، أطرا حديثة كفئة. مع القضاء على نظام الشيوخ والقواد بطاقات شابة محلية من ذوي الشهادات العليا، وإعادة النظر في أسلوب الانتخابات. وأن العقلانية الحقيقية تتجسد في: اللامركزية؛ و التي هي تسيير للشأن المحلي يباشر من طرف النخب المحلية.. إن الجهوية؛ ورش تم تدشينه في 1996 بكيفية توافقية، لكن وثيرة عمل هذا الورش لازالت متواضعة في غياب "مجالس مدن" نزيهة ومتجانسة.. ثم ماذا هيأت الدولة من الهياكل المادية والبشرية التي ستسير وتدبر الجهة؟ إذ في غياب ثقافة تدبيرية.. لا يمكن المضي بركب الجهوية في المسار الصحيح. و كذلك لازالت هناك العديد من الأمور العالقة؛ كعلاقة ملف الجهوية بإشكاليات إعداد التراب الوطني، التخطيط، اللامركزية... وصاية وزارة الداخلية ووزارة المالية وتضييع الوقت وفقد الثقة في جدوى وحقيقة الجهوية.. ناهيك عن ملف "وحدة المدينة"، وكثرة المقاطعات بدون فائدة تذكر(في ظل الزبونية وانعدام الضمير المهني والتماطل والرشوة..) ، ففي ظل غياب تجميع المؤسسات في مؤسسة واحدة قوية وفيها ما يكفي من الموظفين مع حسن التدبير والتسيير.. وفي ظل وصاية لوزارة الداخلية على الجهة لم ترفع بعد، مع العلم أن أغلب الدساتير الأوربية التي تعمل بالنظام الجهوي ليست لها مثل هذه الوصاية.. لازال ملف الجهوية متدبدبا ودون مردودية واضحة تذكر في المغرب.. لكن تحقيق مفهوم الجهوية في المغرب ينبغي أن ينبني على أسس حقيقية.. إذ ما هي آفاق المشاركة العقلانية للمواطن داخل الجهة في ظل غموض مفهوم الجهة وتعقد النظام الإداري المغربي وفي ظل 70 بالمائة من الأمية بالمغرب!! ثم إن بناء الجهة وتطبيق مفهوم الجهة لابد أن يطرح في إطاره الوطني والدولي أيضا بإقرار التخطيط الواقعي والشامل والوحدوي، حتى لا نقع في انزلاقات لا وطنية من هذا القبيل أو ذاك.. كما ولا بد من تقنين العلاقات والروابط بين المخطط الوطني والمخططات الجهوية والمحلية من جهة، وما بين إعداد التراب الوطني والتخطيط من جهة أخرى. مع مراعاة المقاربات المستقبلية والإستراتيجية (عسكريا، اقتصاديا، تجاريا، ثقافيا، جغرافيا، تاريخيا).. ثم لابد من إستراتيجية واضحة وقصدية في تشييد الجامعات والمعاهد في تربتها المناسبة وتوزيعها توزيعا يتماشى مع إشعاعها ودورها المنشود في الجهة المنتمية إليها.. وفي نظري الشخصي المتواضع، وعلى هامش مشروع الجهوية الموسعة التي يعيش مخاضها المغرب اليوم.. أعتقد أن هناك 5 جهات كبرى وقوية بالمغرب تتوفر على عناصر الجهة على كل المستويات المطلوبة في الجهة(التاريخية، الطبيعية، السياحية، الإيكولوجية، الاقتصادية، السياسية، العسكرية، الإستراتيجية، التكاملية، المنسجمة...)، وهي: * جهة البوغاز (عاصمتها طنجة) * جهة الشرق (عاصمتها تافيلالت!) * جهة المركز (عاصمتها الرباط) * جهة الأطلس (عاصمتها فاس!) * جهة الصحراء (عاصمتها العيون) - باحث في الفكر الإصلاحي