أثبت التنوع العرقي في بلد ما أهميته على جميع المستويات وخصوصا منها الثقافية.. ونتحدث هنا تحديدا عن ذلك الرافد الإفريقي والطريق المفتوح في تاريخ المغرب بين أعماق الصحراء وبين المغرب. ونتحدث عن أناس قدموا للمغرب يبثون في القرى أغانيهم الدافئة وألوانهم البهيجة، وسحناتهم السمراء الهادئة، ورقصاتهم المفعمة بالحركة والنشاط والحيوية والحياة، القادمون من أعماق الصحراء لبث الحياة في شمال إفريقيا وتلوينها بثقافة ودماء جديدة.. كناوة المخلصين لإيقاعات الغابة الإفريقية التي يرددها "الكانكاه" (الطبل الكبير)، والقرقبات والهجهوج.. نقف أمامهم أو نسمعهم ونحن مارين فيمارسون علينا سحرهم الميتافيزيقي برقصاتهم بدقاتهم وألوانهم... فنصبح عبيدا لعبيد الأمس! استأنسوا بأدواتهم الموسيقية في ظروف التهجير القسري عن ديارهم فمنحونا موسيقى جابت العالم بفعل تفرد وتميز إيقاعاتها.. تعني الجذبة فيما تعنيه تجاوز الإنسان لحدوده، وهو أمر موقوف على الإبداع، إنه يفزع الفكر الغربي و الفكر المنهجي العقلاني، إنه الجذبة رحيق رباني، انتشاء، تحرر وشفاء، إنه فرح وخلاص و تصفية للذات، إنها الحياة وتحرر للإبداع و إيقاظ للمعيش المكبوت في أعماق النفس والذاكرة. حيث يصبح كل طقس من طقوس كناوة عرسا للجسد و للروح.. و سنفرد الحديث هنا في هذه الورقة عن "الليلة الكناوية"، مستقصيين ما أمكن طقوسها ومراحلها وأدبياتها.. من أبرز طقوس الحفل "الليلة الكناوية" التي تبدأ ب"العادة" وهي بمثابة إعلان عام عن الشروع في إقامة الليلة. حيث يطوف خلاله كناوة، في فترة بعد الزوال بمختلف الأزقة و الشوارع والساحات مرتدين "طاقيات" و "فوقيات" مختلفة الألوان مزدانة بالأصداف، مغتنمين الفرصة للرقص على إيقاعات دقات الطبول و "القراقب" حتى تحل فترة "الكويو" (أولاد بامبارا) وهي تعني في العرف الكناوي البدء في الحفل الرسمي لليلة الكناوية، حيث يستغنى فيها عن آلة الطبل لتعوض ب "الكنبري أو الهجهوج"، ليشرع "المعلم" الذي عليه أن يكون ملما بجميع مراحل الليلة، بالعزف عليه يقوم أثناءه كناوة برقصات انفرادية باستثناء "وجبتين" يقوم فيها 4 كناويين برقص جماعي. القسم الثاني من هذا الطقس يسمى ب "النقشة" توظف فيه آلة "القراقب" إلى جانب الهجهوج ويكون فيه الرقص جماعيا. بعد (الكويو) وبعد استراحة لبضع دقائق تدخل الليلة الكناوية مرحلة ( فتوح الرحبة) يعمل فيها كناوة على توضيب المكان الذي ستجري فيه المرحلة الأخيرة من الليلة لإضفاء طابع القدسية عليه، حيث يتم وضع (طبق) أمام المعلم تحتوي على مختلف أنواع البخور والأقمشة ذات الألوان المختلفة كل لون منها يرمز إلى "ملك" من (الملوك) وتصحب عملية التحضير أذكار وإنشادات ذات دلالة ومعاني متعددة، ليتم الدخول مباشرة إلى القسم الأخير والأساسي من الاحتفال الكناوي والمسمى ب "الملوك"، وهم في معجم كناوة (رجال الله) أي رجال ربانيون مؤمنون. يرتدي المريدون في هذا الطقس لباسا ذا لون خاص يرمز إلى "ملك" خاص كاللون الأبيض الذي يرمز إلى "ملك" عبد القادر الجيلالي، والأحمر إلى سيدي حمو، والأسود إلى ميمونة، والأصفر إلى الأميرة، والأزرق إلى سيدي موسى. كل ذلك استعدادا لدخول مرحلة الجذبة التي تكون مصحوبة بإيقاع صاخب ناتج عن آلات "القراقب" و "الهجهوج" و "الرش" (أي التصفيق بالأيدي). تصل الأمور ببعض المريدين أثناءها إلى حد فقدان الوعي أو ضرب ذواتهم بأدوات حادة أو المشي فوق شظايا الزجاج.. وهو ما يعني أن (الجذاب) أو (الجذابة) وصل إلى أقصى درجات الانسجام والاندماج مع الإيقاع ومع الألوان وبالتالي دخل في عالم هو غير عالمه الحقيقي. ويخضع المريد والتابع لشروط ولوج المحفل الكناوي منها: - قبل الدخول إلى الفضاء الكناوي يشترط في المريد إزالة الحذاء ووضعه في مكان بعيد عن مكان "الزريبة"، التي قد تكون زاوية أو فيلا أو دار شعبية... - وذلك تفاديا لتلويث المكان مما علق بالحذاء. - أن يجهر المريد بالتسليم لرجال الله يقول: (التسليم لرجال الله، التسليم ليكم، التسليم، التسليم). - يلزم على المريد تحية جميع الحاضرين في "الزريبة" فردا فردا أو جماعة بالتلويح بيده. الليلة الكناوية عادة تستعمل لأغراض استشفائية أو احتفالا بمناسبة دينية (كشهر شعبان المقدس). ومقامات الجذبة متعددة تبلغ أقصاها في مقام "عيشة قنديشة". والتي يجب تخليص الروح والجسد من شرها الأسود تحضر المرأة إلى جانب الرجل والجسد في الليلة الكناوية في الانجذاب الأقصى للروح الإنسانية اتجاه مجاهلها، تنجذب الروح للتخلص من الشرور والألم يحضر الجسد عبر رقصات تموجات، انفجار لكل الطاقات الجسدية والروحية يرفع المقام صوته بأغاني تذكر بالماضي البعيد. إن الليلة الكناوية بإيقاعاتها ومقاماتها الموسيقية وجذبتها تفريغ للطاقات الجنسية وتحريرها في نفس الوقت من اللعنة النفسية والخمول. إنها رياضة الجسد، حيث تتخذ الليلة الكناوية صيغة نزول أو هبوط متفاوت الإيقاع ومختلف الحركة ومتباين السرعة، نزول أو "درديبة" كما تسمى عند العارفين بأحوالها. وتتجلى في الليلة الكناوية 7 ألوان موزعة على عشر مقامات أو "محلات".(محلة الأبيض، الأسود، الأزرق، الأحمر، المبرقش، الأخضر، ثم الأبيض والأسود، و الأبيض و الأصفر). حيث تتكرر بعض الألوان لكن داخل "محلات" مغايرة بفضائها الطقوسي وبنوع جذبتها. النزول يتم داخل ألوان سبعة رمز موقع السبع التي تقترن رمزيتها بالألوان السبعة لقوس قزح المنتظمة بين عالمين في شكل قنطرة أو جسر رمزي لعبور الكائنات السماوية نحو العالم الدنيوي والسفلي. (تتمتع الأعداد الفردية في الثقافة الإسلامية سواء داخل النصوص الأساسية أو في الشروحات بنوع من القدسية: - الله وتر يحب الوتر- أسماءه 99 - الصلوات و الأركان 5- السماوات7)... المحلة الأولى لا تخصص لمناداة لاسم جن أو ملك أو إبرازه أو إظهاره، بل إنها تمهيد و تهيء بكل متطلبات التمهيد(بخور و إنشاد)(فاتحة المكان)، حيث يتمحور الكلام الطقوسي حول اسم الله المعظم و أسماء أولياءه الصالحين. يمنح الهجهوج الليلة الكناوية نظاما مثلما يعكسها في صيغة طقس كامل مهمته الأساسية تحويل العدد إلى إيقاع، والإيقاع إلى لون واللون إلى ملك و الملك إلى اسم والاسم إلى جسد و الجسد إلى كتابة راقصة(جذبة). فمثل كل فاتحة قدسية تؤدي فاتحة الليلة الكناوية وظائف الوقاية لمن سيلج عالم الجذبة في المحلات القادمة. تتوسط"المقدمة" أو (الطلاعة) الرحبة جلوسا و هي مكسوة بالأبيض مؤشرة بذلك على أن الجذبة ستكون جذبة أصحاب اللون الأبيض (محلة البويض) من ناحية، ومن ناحية أخرى على أن اللون المتوافق مع قدسية الفاتحة هو الأبيض. مع جذبة "المس" أو "التملك" تحضر محلة "الكوحل" (أصحاب اللون الأسود) بشكل فعلي. ونقول بشكل فعلي لأن حضورها يبدأ داخل "فتيح الرحبة". فضمن هذه الأخيرة تتم المناداة على "بلال"، رمز هذه المحلة الأكبر أو لنقل رمزها القدسي الديني. لالة ميمونة،غمامي، مرحبا، سيدي ميمون من أهم ملوك جذبة الكوحل بالرغم من أنهم ليسوا الملوك الوحيدين. و يشترك سيدي ميمون ولالة ميمونة في كونهما كائنين مختلطين. بعد مرحلة "الكوحل" أو (الخدام الأربعة)، تستعد الرحبة لاستقبال محلة الزرق المميزة بلون السماء ولون البحر (السماويون و البحريون). ثم محلة الحمر (أولاد بلحمر) أو( أصحاب الكرنة) حيث تتم المناداة على الملوك الحمر مثل سيدي حمو وحمودة. يعتبر اللون الأحمر لون العنف الطقوسي، لذلك يرتبط حضوره بنشر وإسالة دم الأضحية سواء كانت قربانية (الهدايا القربانية) أو إبدالية (دم الفاعلين القربانية)، يقترن الملوك الحمر بالكرنة (مكان دبح الأضاحي) لدرجة ينعتون معها بأنهم (مالكين الكرنة) أصحابها. و تتحول الرحبة إلى كرنة رمزية فالجذب يتم بخنجر أو كمية(سكين). بعد محلة "الحمر" يستمر النزول داخل الليلة الكناوية على أدراج محلات و ألوان و ملوك الخضر (أصحاب اللون الأخضر)، و الزرق السماويون ثم "رجال الغابة" وهم صنف ضمن محلة اللون الأسود ليستقر مآل النزول عند محلة الملوك الإناث أو "العيالات" أو "البنات" المميزة بتربع اللون الأصفر على عرش محتلها. مع بروز ضوء النهار الصباحي تستقر "الدرديبة"، داخل محلة لالة ميرة (الأصفر)، وتحت ظلها يحظر ملوك أنثويين عديدين مثل (لالة مليكة) المعروفة بلونها القوقي(البنفسجي) و (لالة رقية) بلونها الأحمر، و (لالة عيشة) بلونها الأسود، و (لالة مريم/الشلحة) ولالة فاطمة.. هكذا إلى أن ينسدل الستار على ليلة حافلة و بزوغ فجر يوم جديد أو ولادة جديدة طاهرة في دنيا مليئة بالمفاسد و الدنس.