مذكرات خاصة بموقع مرايا بريس الحلقة السادسة انتقلت للدراسة بالإعدادية وعمري ست عشرة سنة، صبية فائقة الجمال، مكتملة الاستدارة، لا يعيبها سوى ملابس مهلهلة رثة ومحفظة كتب بالية و حزن أبدي لا يفارق محياها الفاتن... كنت حينها لا أزال أحتفظ بكثير من طيبة أهل البادية وسذاجتهم، فلوثة المدينة ومكرها لم يكن قد امتزج بعد ب "نية" ورثتها أمّا عن جدة. هذه "النية" ما كانت لتخفف من شعوري، وأنا في عز مراهقتي، بالحرمان الشديد، والأسى الذي كان يعتريني وأنا أرى صويحباتي وهن يتغامزن علي متهكمات على ما أرتديه من أسمال، وكان الألم يبلغ مداه حين أسمع سخرية الصبيان مني. أحيانا تكون الصداقة بلسما، وهذا ما حدث معي في بدايات تعرفي على "حكيمة"، أول وآخر صديقة اتخذتها في حياتي، صحبتي لها كانت فاصلا في مراهقتي. كانت "حكيمة" فتاة طيبة بقلب ملاك، الوحيدة من بين بنات الفصل من كانت لا تجد حرجا في الحديث معي أو مرافقتي والسير بجانبي، كانت ترق لحالي، تأخذني معها لبيتهم، تسكن جوعي بما لذ وطاب، وتفتح لي دولاب ملابسها كي أنتقي ما يعجبني، كما كانت تحرص على تعليمي أصول التأنق.. فعلت بي حكيمة ما فعلته الساحرة في قصة السندريلا. أبرز حسن الهندام جمالا كانت تخفيه الأسمال، وغدت نظرات التهكم والسخرية غيرة عند البنات وتوددا وتملقا عند الصبيان، وكلمات تمجد الفتنة الفتية، أسمعها في غدوي وروحي من رجال بشوارب.. وكأي صبية في سني، جعلني كل ذاك أشعر بزهو ورضى تعكسه وقفاتي بالساعات أمام المرآة وأنا أرقب حسنا فاتنا وأنوثة تتفجر.. كانت أمي ترقيني بالمعوذتين كلما هممت بالخروج، حماية لي من عيون "الحساد"، ما كانت المسكينة تعلم أن هناك عيون أحد وأمضى، عيون كانت تشق ثياب حسنائها الصغيرة أينما حلت وارتحلت.. وما كانت "المعوذتان" لتنجح في صد ما عجزت عنه "الزهراوان"... كنت أزور بيت "حكيمة" كل يوم تقريبا، يشدني دفء كان يملأ أركانه، ورغد عيش كنت أحظي ببعض فتاته.. كنت أرقب والد حكيمة وهو يحضنها ويدللها ويغدق عليها بما تشتهيه، فأستحضر والدي فأجدني بدأت أفقد ملامحه ولا أتذكر منه سوى راحتيه الخشنتين ووقع نزولهما على خدودي الغضة، أو صدى صراخه وسبابه وهو يلقن أمي أصول "الطاعة".. كان لحكيمة شقيق وحيد، "سليمان"، طالب جامعي، كنت أتسلل وإياها أحيانا لغرفته المزينة جدرانها بملصقات وصور ل "تشي غيفارا"، والمتراكم في كل زواياها عشرات من الكتب. كان سليمان شابا وسيما بملامح صارمة، طالبا نشيطا في صفوف الحركة الطلابية في أوج انتعاش الفكر اليساري، كان "تشي غيفارا" ربه الأعلى، وفكر "ماركس" زبوره الذي يتغنى به. حينها لم نكن أنا وأخته نفهم تلك الأشياء التي كان يحاول حشرها في أدمغتنا، لكنا كنا ننصت له مجبرين كي يسمح لنا ختاما بقراءة الروايات التي كانت تعج بها خزانته. ازداد ولعي بالقراءة بشكل جنوني، حتى أني كنت أنهي كتابا في الليلة، ثم أذهب في اليوم الموالي لاستعارة آخر من سليمان. قرأت روايات وقصصا وأشعارا كثيرة، جعلت من خيالي الصغير ركحا أجسد فيه أحلاما مراهقة كانت دوما تنتهي بفارس مغوار يحملني معه لدنيا جميلة وقصور مشيدة... بدأت مشاعر إعجاب بسليمان، تتسلل خجلى إلى قلبي الحالم، فرغم صرامته فقد كان يمعن في مدح عشقي الرهيب للكتاب، ولا يمانع في شرح ما استعصى علي فهمه، هو الآخر كان قارئا نهما وذا لغة جذابة ومنطق يسبي السامعين وحديث لا ينتهي عن مثاليات مفقودة تستدعي النضال والكفاح لتحقيقها... أخذ مني حبي له مأخذه، أو على الأقل هذا ما كنت أعتقده ساعتها.. سهر.. دموع.. وأشواق غبية.. فطنت حكيمة لأمري وأخبرت أخاها الذي سره ولع صبية حسناء به، ساير مشاعري فيما حسبته حينها حبا متبادلا. بحلو الكلام و وابل عبارات العشق والشوق، جعلني سليمان أغرق في عالم من أحلام لفت خيالي السارح. أشعار غزل ورسائل عشق متبادلة، وشهرزاد مغرر بها تقضي ليلها تغازل نجوم السماء و تحصيها. علمت أم سليمان بأمرنا، فوبخت ابنتها التي فتحت باب بيتهم لمتسللة تحاول الآن سرقة ابنها الوحيد، وحذرتها من أن تأتي بي مجددا إليهم. ما كان ذلك ليثنيني فقد كنت سكرى بوهم عشق زلزل أركاني.. استطاع سليمان ببراعة محترفي الكلام و بلاغة فرسان "حلقيات" الجامعة، أن يجعلني أهلوس باسمه صباح مساء، وأن يسكنني صاحية ونائمة.. تعلقي به كان مرضيا، فقد كان أول ذكر يمنحني حبا وعطفا وحنانا... مزيفا.. لكني أدركت الأمر متأخرة.. متأخرة جدا.. شعرت أمي بأمر غريب ينتاب ابنتها المتعلمة، التي كانت ترمقها بفخر وهي تعكف بخشوع على كتبها، وكل أملها أن تراها "معلمة" بوزرة بيضاء.. كانت لي قدرة باهرة على تبرير خرجاتي ودخلاتي وحتى دموعي وابتساماتي الشاردة.. كنت ألتقي سليمان بين الفينة والأخرى في أماكن عامة، وأقصى ما كان يسمح له به حيائي البدوي، أن يلمس أناملي ويداعبها بقسوة لم أفقه كنهها ساعتها.. وأدرك شهرزاد المساء.... [email protected]