يصر الكاتب الطاهر بنجلون على أنه كاتب فرنسي، وليس كاتبا مغربيا، رغم أن الفرنسيين لا يعتبرون أدبه كذلك، وربما لا يريدون أن يضيفوا اسمه، واسم غيره من المهاجرين إلى هذا البلد، إلى قائمة تبدأ بجان جاك روسو وفيكتور هيغو وبلزاك وستندال، ولا تنتهي بسارتر وكامي. في مهرجان «الأدب العالمي.. اللغة والمنفى» الذي نظمته «لندن ريفيو أوف بوكس» في لندن مؤخرا، عبر بنجلون عن امتعاضه لأنه وجد كتبه تباع في مكتبات فرنسا في خانة «الأدب الأجنبي»، رغم أنه يحمل الجنسية الفرنسية، وسبق أن فاز بجائزة «غونكور»، أهم جائزة فرنسية. والسؤال: لماذا لا يريد بنجلون أن يعتبره أحد كاتبا مغربيا، رغم أن شخصياته معجونة من تربة هذا البلد؟ من حق الإنسان بالطبع أن يغير جلده، أو أن يحاول ذلك، ويعلن انتماءه لبلد آخر لأسباب كثيرة، ومنها نفسي، يمكن إحالته إلى عقدتي التفوق، في حالة الانتماء إلى البلد الجديد، وخاصة إذا كان أوروبيا متقدما، والنقص، في حالة نكران الوطن الأول، المنتمي غالبا إلى البلدان المتخلفة. ولكن ماذا عن الكاتب وكتابته؟ هل ننسب أدبه إلى اللغة التي يكتب بها، وبذلك يصبح بنجلون كاتبا فرنسيا لأنه يكتب باللغة الفرنسية، هل يكفي ذلك؟ ماذا عن آلاف الكتاب الأفارقة، الذين يكتبون بالفرنسية أو الإنجليزية، اللتين أصبحتا بمثابة اللغة الأم أثناء الفترة الكولونيالية الطويلة. من سنغور وإيميه سيزر، إلى سوينكا النيجيري، الحائز على نوبل للآداب عام 1986، إلى تشينوا تشيبي، وقبلهما وبعدهما العشرات. هل يعتبرون هؤلاء أنفسهم كتابا إنجليز أو فرنسيين؟ بالتأكيد لا. وماذا، أيضا، عن مواطني بنجلون المغاربة، والكتاب الجزائرين، الذين حرموا من الكتابة بلغتهم الأم، فكتبوا باللغة الوحيدة التي يجيدونها، وهي لغة المستعمر. وربما كان كاتب ياسين أبرز مثال على ذلك. لقد كتب ياسين رواية «نجمة»، واحدة من أجمل الروايات في اللغة الفرنسية، وضمه غايستان بيكون، بكل اعتزاز، إلى كتابه «الأدب الفرنسي الجديد». ومع ذلك، لم يعتبر ياسين نفسه فرنسيا قط، وإنما الأمر على العكس تماما. لقد ترك فرنسا، وعاد إلى بلدته الجزائرية الصغيرة (سيدي بلعباس). وبدأ يكتب مسرحيات حتى باللهجة الجزائرية، ليوصل أفكاره إلى مواطنيه البسطاء، كما كان يرى، صوابا أم خطأ. وماذا نقول عن صاحب «سأهديك غزالة» وشاعر «الشقاء في خطر»، مالك حداد، الذي أطلق صرخته الشهيرة، التي لا تزال ترن في آذاننا، لأنها تحمل كل شقاء المنفيين، ولو لغويا: «اللغة هي منفاي»، ويقصد بالطبع اللغة الفرنسية، التي كتب بها أعماله التي لا تنسى. لا أحد ينتسب لبلد آخر، حتى لو حمل جنسيته، وحصل على أرقى جوائزه، إلا إذا غير فصيلة دمه، وجلده، وألغى تاريخه ليكتسب تاريخا جديدا يتغلل في نسيج روحه ووجدانه، ويتسرب إلى شرايينه، أي يصبح، بكلمة أخرى، كائنا مختلفا عن ذاك الذي عجنته الأرض الأولى. «الطبيعة الثانية» لا تُكتسب بجرد انتقالنا إلى بلد آخر، وحصولنا على أوراقه الرسمية، وخضوعنا لنظامه. والدليل هنا روايات الطاهر بنجلون نفسه. فهذه الروايات، كما في «ليلة القدر» و«أن ترحل»، على سبيل المثال، هي روايات مغربية بامتياز، بموضوعاتها، وفضاءاتها، وشخصياتها، وفلكلورها بالشكل الذي حرص بنجلون على تقديمه بكل غرائبيته للقارئ الفرنسي. نحن لا نجد في روايات بنجلون لا تاريخ ولا جغرافيا فرنسيين، ولا نرى دما فرنسيا، ولا نشم رائحة فرنسية، ولا نتعرف على وجدان يمكن أن ننسبه لهذا البلد، كما لا نعثر على شخصيات تعكس نبض شارعه، وتجسد إيقاعه النفسي والاجتماعي، وإذا وجدت مثل هذه الشخصيات، فهي شخصيات فرنسية تعيش في المغرب سواء قبل الاستقلال، أو بعده. من مآخذ الراحل محمد شكري على الطاهر بنجلون أنه حول بلده المغرب إلى فولكلور يتفرج عليه الغربيون، وخاصة الفرنسيين، على طريقة بعض المستشرقين. يطلق شكري هذا الحكم على بنجلون، على الرغم من أن هذا الأخير هو الذي أطلق شهرة شكري، من خلال ترجمة روايته الذائعة الصيت إلى الفرنسية. وشخصيا، لا أميل إلى هذا الرأي، فمهمة الأدب الأولى هي النبش في الواقع القبيح من أجل العمل على تغييره، وليس من أجل التفرج عليه. + الشرق الأوسط عدد 6 غشت 2010.