جاء ذات يوم بعيد. من عصرمغربي آخر. من مغربه العميق، من الجانب الذي تشرق منه الشمس. جاء من بلدته الأمبركان حاضناً المتروبول ، الدارالبيضاء ، التي كانت تجذب التوقعات كافة، وأيضاً كلالآمال وكل اليوتوبيات. نعم ، نور الدين كشطي، ناقد سينمائي ومدرّس فنون، الذيفقدناه في حادث سير في يوم أحد شديد الحرارة، كان ملتزماً مثالية ظل مخلصاً لهاكراهب من الأزمنة الحديثة. صورة الراهب هذه تليق كثيراً بكشطي، إذ لم تكن تتاح لناملاقاته، في الواقع، إلا حول صالة سينما، معبده المفضل، أو داخلها. هذا الذي كانيعمل تقنياً، في أوائل الثمانينات، استطاع أن يوفق ببراعة تامة، بين الانضمام إلىيوتوبيا يسارية وحب السينما في آن واحد. في خاتمة المطاف، انتصر الأخير على الأول ،ليس لأنه هاجر معتقداته، إنما لأن السينما كانت تتيح له، على غرار الجيل السينيفيليفي سبعينات القرن الفائت وثمانيناته، أن يستمر باليوتوبيا بأساليب أخرى . وكان هذايتيح له أن يعيش اليوتوبيا على الشاشة المتضمنة الكثير من الانكسارات والخيبات. فيالسينما ، الحلم ممكن دائماً ، لأنها تتيح لنا أن نسترد العالم على النحو الذي ننظرإليه. عندما وصل إلى " كازا " (الدارالبيضاء)، اكتشف البركاني الشاب، مدينة فيحالة اضطراب: نشطاء يساريون، ديناميكية نقابية، وخصوصاً حركة ثقافية قوامها نشاطانأساسيان ، مسرح الهواة والسينما . السينما بصفتها المرجع الثقافي الذي لا مفر منهلنموذج الحداثة. فالسينيفيلية كانت الخبز اليومي لهذا الجيل. في الدارالبيضاء، كانهناك ما لا يقل عن خمسة نوادي سينما وكانت تقترح على جمهور متعطش ومواظب باقة منأهم سينماتوغرافات العالم . كل يوم أحد صباحاً ، كنا على موعد مع فعل يشبه الطقسالديني: كشطي، الشديد الخجل، كان بدأ آنذاك في النقد والسينيفيلية، في عين السبع ،منطقة العمال في الدارالبيضاء، وتحديداً في " السينما الجديدة ". اسم هذه السينماوحده كان يعد بالكثير! الأفلام المقترحة كانت تأتي من كل أنحاء العالم . كان المغربفي تلك الحقبة يملك واجهة ثقافية ذات صيت عالمي (بفضل علاقات نور الدين الصايل ) ،ألا وهي الاتحاد الوطني لنوادي السينما. أفلام من أميركا اللاتينية، المنطقة التيشهدت بزوغ حركة ال"نيوفو سينما" البرازيلية، والتي شكلت صدمة جمالية وتركت بصماتدامغة في جيل كامل من السينمائيين كان قائدهم الشخصية المتمردة لغلاوبر روشا. وكانتكذلك السينما السوفياتية الآتية من العشرينات، والموجة الفرنسية الجديدة (مع "سيرجالجميل" لكلود شابرول)، ثم السينما البريطانية الحرة والسينما الألمانية والتشيكيةوالمجرية... كان ثمة سيل من الصور الطليعية ، واجهه جيل كامل بإمكاناته المتواضعة ،وغالباً كان يجري إبعاد النقاش عن مضمونه وجرّه إلى السياسة. فبدأت تتكون ظواهر فيقلب نوادي السينما في الدارالبيضاء: بعضها كان يولي القراءة السياسية للفيلمالأهمية، وبعضها الآخر كان يسعى للدفاع عن خصوصية ما واستدعاء المقاربة الجمالية. لكن، في كلتا الحالتين، كان النقاش بين الطرفين يدور بشغف، وقد وجد نور الدين كشطيفي هذا كله طريقه، حدّ أنه نسي مساره المهني . فاستقال من المصنع حيث كان يعمل ،مكرساً نفسه بشكل كامل إلى شغفه. اختار الوجهة الأقل ضماناً: الكتابة السينمائية. فالذهاب إلى السينما لم يكن عنده فعلاً مجانياً؛ مشاهدة فيلم لا تكتمل من دون هذهالرغبة في مواصلة تجربة المشاهدة من خلال الكلمة والحوار والكتابة. عقيدته كانتبسيطة : التكلم على الأفلام التي يحبها ، والتكلم عليها بعطف وحنان ، من دون أن يكونجدلياً أو مشاكساً البتة. كان نصيراً لجان دوشيه أبي هول النقد السينمائي الفرنسي ،ولكتابه عن " فن أن نحب ". والحب لا يمكن أن يكون من دون فن، والفن لا وجود له من دونحبّ... خيار كشطي كان راديكالياً ومؤلماً في سياق بدأت تضيق فيه تدريجاً مساحةالسينيفيلية. فضاءات التعبير الحر باتت نادرة أو معدومة. ثم مع الانعطافة الجديدةللتسعينات، منطق جديد تسلّم مقاليد السلطة : المنطق النفعي والليبيرالي ، زمن التجارةوالمال . في هذه البيئة المستجدة كان كشطي يعطي الانطباع مراراً كما لو أنه طفل تائهفي الأدغال أو وسط حشد لا يتكلم لغته. هو الذي اقتصرت قدراته على تفكيك لغة الرموزالأيقونية ، صار " أمياً " في مواجهة رموز زمن جاحد ، فوُضع تالياً على الهامش الثقافي ،شأنه شأن مجمل النشاط النقدي . كتب فرنسوا تروفو ذات يوم : هناك على هامش السينما ،مهنة ناكرة للجميل ، مهنة شاقة ، لا يعرفها كثر: مهنة النقد السينمائي . من هو الناقد ؟ماذا يأكل ؟ ماذا عن ذوقه ، تقاليده ، عاداته ؟ نور الدين كشطي كان المثال الأبلغ عنهذا الشيء ، كان دائم الكلام عن الآخرين ولا يتكلم البتة على نفسه. كان الحشمةمجسدةً. ولقد رحل كما جاء... لكن هذه المرة رحل من حيث تغيب الشمس. وداعاً أيهاالصديق! * ناقد سينمائي مغربي والمدير الفني لمهرجان الرباطلسينما المؤلف ( الترجمة الفرنسية عن صحيفة " النهار" اللبنانية )