الحديث عن كتابة رشيد نيني من ناحية بناء المضمون المثير للاهتمام والخالق للمتعة والناجع في الإقناع يقتضي الوقوف عنده ككاتب يخط بقلمه ما يمتع به قارئه دون أن يتعبه أو يدفعه إلى مجهود يثنيه عن القراءة ... نيني يسهل مهمة القراءة للعموم من خلال التنويع، والاستطراد والتمثيل.. تلك شروط الكاتب الذي يكتب للجمهور الواسع ,,, مما يجعل منه كاتب العموم: "الكوك آ لان" أو فن الربط بين ما لا يرتبط: إن سمة عمود نيني الغالبة في عموده الشهير منذ بدايته هو انتقاله بين مواضيع لا رابط بينه في استعمال لبيب لوجه بلاغي غربي ربما لا نجد له مقابلا في الثقافة العربية (أو لعلي أجهل هذا المقابل) وهو du coq à L'âne (الانتقال من الديك إلى الحمار) وهو مسلك بلاغي يعتمد فيه الكاتب الانتقال من موضوع إلى آخر لا علاقة له به منطقيا لكن رشيد ينجح في خلق العلاقة بينهما... فنجد رشيد نيني مثلا يربط بين التعليق على صفقة ومشروع دولة وبين حياة المسؤولين الخاصة وعلاقاتهم وصداقاتهم ومصاهراتهم .. يبدو رشيد نيني في ذلك ناجعا وصاحب مقاربة جديدة لشؤون المواطنين قائمة على الربط بين ما لا يرتبط عادة ... فعادة يتم تحليل المسائل العامة والأمور السياسة من خلال المواقف والأيديولوجيات بينما يذهب نيني في منهجه إلى ربط العام بالخاص في مقاربة تنير الجوانب المظلمة في القضايا ( وربما تظلم الجوانب المنيرة فيها)... في هذا الباب يبدو الكاتب رشيد خياطا بارعا ومرقعا فنانا لفتات المعلومات وشذرات الأخبار وتفاصيل الخصوصيات التي لا ينتبه إليها الناس فيجعل منها كشكولا يقدم نصا ممتعا من حي التنوع وجميلا وأصيلا من حيث بناء عالم واضح المعالم من خلال الأخبار والتفاصيل المتوارية عن الأنظار عموما ... سر إصرار الناس على القراءة هنا مكمن من مكامنه... الاستطراد أو فن إراحة القارئ في جهد القراءة المطولة: في نفس الباب وذات النفس يقبل رشيد على استطرادات وخروج عن الموضوع قبل العودة إليه في ما يشبه حديث المغاربة في "تقرقيب الناب"، وبالتالي تجعل قراءة عمود نيني القارئ المغربي يحس أثناء الانتهاء من العمود وكأنه تجاذب أطراف الحديث مع أناس آخرين... يكتب نيني كما يحلوا للمغاربة أن يتحدثوا من خلال خروجهم عن الموضوع وانتقالهم بعيدا عن السؤال الأساس في ما يشبه الاستمتاع بالحرية والانفلات من صرامة المنهج والالتزام بالموضوع الذي يميز الغربيين عموما... نيني يغازل في هذا فوضى العقل المغربي أو يخاطب عشق المغاربة لهامش من الفوضى...فوضى كتابة نيني انعكاس لفوضى كلام المغاربة وسلوكهم ورفضهم لمنطق القانون والمسالك القويمة.. يجد المغربي متعة في طرق الشباك ولو كلفة أكثر ويفضل ذلك على أن يدخل من الباب... لذلك يجد المغربي الكتاب التقليديين المنضبطين لوحدة الموضوع و صرامة المنهج مملين وثقيلين على القلب... مثلما يحب المغربي الخروج على القانون، والتجاوز حيث هو ممنوع، يستمتع بقلم نيني الذي يخرج عن الموضوع وعن اللياقة أحيانا... مثال الجمهور لا قياس النخب: في معرض تقديمه لمختلف أصناف الخطاب، يميز أرسطو بين ثلاث خطابات وثلاث آليات للإقناع معتمدة فيها... فنجده يميز بين الخطاب القضائي، وحجته القياس العقلي المنطقي المجرد.. والخطاب المشوري أو السياسي وحجته المثال والتمثيل والتصوير... والخطاب المحفلي المناسباتي وحجته المبالغة والتفخيم ... ولعل كتابة نيني تندرج ضمن الصنف الثاني من الخطاب الذي يقوم على مناقشة القضايا العامة للعموم من أجل إثبات أيها أنسب وأصلح....فبينما يتوجه الخطاب القضائي إلى النخبة من خلال البرهان المنطقي المعقول، يتوجه الخطاب الثاني إلى الجمهور وإلى العموم ويشير أرسطو أن آلية الاحتجاج أمام الجمهور تقوم على المثال والتصوير المباشر والمنظور... إذا القياس المنطقي ينطلق من القاعدة العامة لإثبات الحالة الخاصة لأن ذلك وحده بإمكانه إقناع الخاصة، فإن المثال هو جوهر إفهام وكسب رأي الجمهور... فالجمهور أو عامة الناس تكون عموما في حال إرهاق ذهني وجسدي بسبب إكراهات الحياة فينقصها الجهد لتأمل الأمور وتدبرها بالعقل، فهم يقبلون على المثال البين والفكرة الجاهزة... وهنا مثلا لا يذهب نيني لشرح آليات اشتغال النخب ومنطقها وتشابك اعتبارات المخزن والإدارات والمؤسسات... بل يذهب مباشرة للمثال الذي يبني عليه نقده للمبدأ العام ويبني عليه تصريحا أو تضمينا قاعدة عامة يقبل القارئ,,, فوفقا لهذا المنطق يأتي حضور مثال ولعلو باعتباره مثالا على أن الاشتراكيين يقولون ما لا يفعلون... فيصير مثال أولعلو كوزير مالية اشتراكي الانتماء سهر على الدفع ب"الخوصصة" في المغرب إلى أقصى مدى ومثال الأشعري وقصة اكتسابه لضيعة خيول في ناحية زرهون بعد استوزاره... للاستدلال من خلال المثال المعلوم والمشهود على فكرة صعبة الإبراز أن الاشتراكيين خانوا المهمة وتخلفوا عن موعدهم مع الشعب... وفي هذا المنحى أيضا يأتي تكرار مثال الوزير الاول عباس الفاسي وانتشار أهله وأصهاره في دواليب الدولة للدلالة على فكرة أعم وهي السياسة العنصرية الممنهجة التي يتبناها حزب الاستقلال ولإفهام الناس أن "أهل فاس" عنصريون يعتبرون المغاربة أقل منهم حقا في هذه البلاد ... وأصل تهمة "الشعبوية" التي تلصق بالكاتب مرجعها إلى اعتماده المنهج الحجاجي المناسب للجمهور وللانتشار الواسع... ولعل الصفة اللائقة بالكاتب نيني هنا هي "الديماغوجية" بعيدا عن الاستعمال القدحي المتداول للكلمة... فالديماغوجي عند الإغريق هو من يملك فن قيادة الشعب من خلال فن مخاطبته ومغازلة وجدانه وإذكاء نار إحباطاته واستهلاك تصوراته المسبقة وأحكامه الجاهزة.. والديماغوجية موقف سياسي وخطابي يروم الهيمنة على الشعب بغية ضمان تأييده من خلال إدعاء الدفاع عن مصالحه,,, كل بلاغة نيني الكتابية تجعل منه كاتبا ديماغوجيا بامتيازا.. لكن الديماغوجيا فن .. فن في المعنى الأصلي للكلمة أي صنعة وحرفة.. ومهما كانت نعت الديماغوجيا قدحيا من الناحية السياسية أو الأخلاقية، إلا أنها فن وبلاغة وصنعة ليست في متناول الجميع ولا يمكن لأي كان النجاح فيها.. الديماغوجيا فن صعب يحسن نيني صنعته ويملك زمام ناصيته ببراعة نادرة ... [email protected]