أجملُ الخصومات "" منذ سنوات، تعودنا على متابعة كتابات يوقعها جيل جاء الصحافة في مايشبه الهواء المختلف عن كل الاختناقات، التي ظلت ترسم على وجوه القراء الملتصقين بكراسي المقاهي، بالمدن الكبرى والقرى الغارقة في هامشيتها، كلما صدمتهم كتابات لاماء فيها ولانظارة. جيلٌ جاء في مايشبه الانقلاب. جيلٌ بتفكير جديد ورؤية مختلفة لما يجب أن يكتب وكيف يكتب. جيلٌ عانى مرارة التهميش وذاق حلاوة ملامسة عناوين الكتب الجميلة الناقلة لكتابات هايدغر وباشلار وهابرماس وابن عربي والنفري والتوحيدي وكيليطو وميشونيك وياوس وسوزان برنار، بعد أن تعرف على أشعار المتنبي والسياب ودرويش وطرفة وحضر وليمة أنسي الحاج. شكل رشيد نيني، مع أولى مقالاته، إلى جانب مجموعة من الأقلام الشابة، إضافة جميلة إلى المشهد الإعلامي الوطني. مقالاتٌ بسيطة في أسئلتها تتكئ إلى المعيش اليومي واهتمامات القارئ، الذى انتهى شريك الكاتب في الإعداد للمقالة والتحقيق والحوار. الحوارات لم تعد خاضعة لنفس الأسئلة الباردة التي تتطلب أجوبة أكثر برودة. صرْنا مع ملفات تتناول قضايا صغيرة، بعد أن تعب القارئ من الجري وراء القضايا الكبرى. أسئلةٌ وملفات تتناول عادات الكتاب مع الأكل والشرب. الطرائف. الخصومات التافهة. الكأس الأولى والحب الأول. القصيدة الأولى والكتاب الأول. مواضيع بسيطة، لكنها، من خلال طبيعة عرضها وتناولها، استطاعت أن تشد القارئ إلى عمل مختلف عن كل ماعاش يقدم له على أطباق باردة. لم يأت رشيد إلى الكتابة الصحفية من لاشيء. جاء من مزيج غريب من التجارب : مدرجات وحلقات الجامعة. قصيدة النثر. التعويضات المتواضعة والمتأخرة عن الكتابة في الجرائد الوطنية. إسبانيا، حيث عاش لفترة مهاجراً سرياً يعمل في حقول البرتقال ومطاعم البيتزا. مؤتمرات اتحاد كتاب المغرب والتواطؤات المعلنة وغير المعلنة عند كل تمديد أو انتخاب لرئيس جديد. ربما، لأجل ذلك جاءتنا كتاباته على غير ماكنا نقرأ، هنا أو هناك. وربما، لأجل ذلك يبدو رشيد كما لو أنه دائم البحث عن الخصومات و"الصْداع". لكن، أليست أجمل الخصومات، هي تلك التي نخوضها حُبّاً في الوطن ؟
عشاءٌ وقصائد يخُط رشيد نيني قصائدَ جميلة، من دون أن يُعلن في مستمعيه أنه شاعر. لا يدّعي رشيد صفة الشعر. يترك للآخرين مهمة التصنيف والحكم، ولهم في ذلك واسع النظر. الشعرُ ليس ادعاءً ولا صفة نتباها بها، عند لقاء أول شقراء نصادفها في المهرجانات الثقافية والفنية وحفلات التقديم للكتب والدواوين. الشعرُ تواطؤٌ جميل بين الشاعر والمستمع أو القارئ، وليس ماركة مسجلة نلهثُ في الحصول عليها شهادة جودة من خبراء الإيزو 9001. ينتمي رشيد نيني إلى جيل شعري عشق مبكراً شن الغارات ... الشعرية، طبعاً. جيلٌ يسكن حذاءه ويتبع ما يُمليه عليه شغبه الجميل. جيلٌ عرف مبكراً أن العالم الشعري أوسع من الأفق الذي رسمته الأجيال السابقة، لذلك انخرط في تجربة شعرية مغايرة في كل شيء. ذات حفل شعري، قرأ رشيد أفكاراً في الأدب والسياسة وحماقات أخرى. كان اللقاء احتفاء باليوم العالمي للشعر، والمدعوون دفعوا يومها، بحسب كريمة رشدي، مائتي درهم، لقاء عشاء وقصائد. يومها، تحدث رشيد عن ملامح الشاعر العربي الكبير، فقال إنه الذي يكتب منذ طفولته عن الحرب. الذي يحب الويسكي أكثر من البنادق. الذي جعل نصف قرائه يحبون السجون، ونصفهم الآخر يحب المناديل.
الوطن المر لرشيد نيني مزاج حاد كشفرة حلاقة. يملك قاموساً لغوياً وقدرة على التصويب يحسد عليهما. تسبقه اليد إلى الورقة بتوفيق مدهش، وتنط الفأرة بين يديه كأنما لترحب بالقط المنتظر (ترى، من يطارد الآخر ؟). يرى رشيد أن الوطن سروال واسع، كلٌّ يفصله على مقاسه الخاص، لذلك يصير مُر المذاق. لا يستسيغ رشيد الوطن المُر. الوطن، الذي يمتد في تفاصيل اليومي احتجاجات وصراعاً من أجل كسرة خبز "ناشْفة"، أو مصحوبة ببراد شاي من دون نعناع، وبحلاوة ناقصة . وطنٌ يبدو مثل رجل كئيب. يُدخن تبغاً رديئاً. يشرب الكثير من القهوة، ولا يحلق وجْههُ كل صباح. وطنٌ، كلٌّ يفصله على مقاسه، يكتب رشيد : الشرفاء يتمنون الموت لأجله، الأنانيون يعتقدون أنه وجد هكذا، فسيحاً، فقط ليكون لهم وحدهم، المعتقلون خاب أملهم فيه، المعتقلات السابقات انقطعن عن التدخين، وأنجبن الأولاد، وتحولن إلى مواطنات فاضلات، الشعراء تبعوا أدونيس، وتخلوا عنه، الشيوعيون أصبحوا يقلون لأجله، الجبناء يحبونه خاضعاً، حتى لا يجبروا على المثول أمام الآخرين، الجماهير تحثه على النهوض، دون أن تكلف نفسها عناء مغادرة السرير، المثقفون يفضلون الحديث عنه قبل النوم. الوطن مُر، لذلك يبحث رشيد لنفسه عن وصفة تقيه مذاق المرارة، فيُفضل أن يضيف سكرتين ونصف إلى كأس الوطن. يتساءل : "من يخيفه الليل عندما يأتي ويجده بلا سقف ومن يهمه النهار عندما يطلع ويجده بلا شغل ؟" لايُتعب رشيد نفسه في البحث عن الإجابات، بعد أن اقتنع بما يمكن للمرء أن يصنعه، وبعد أن اختار طريقه بما يكفي من صلافة.