أنفوجرافيك | أرقام رسمية.. معدل البطالة يرتفع إلى 13.6% بالربع الثالث من 2024    كَهنوت وعَلْموُوت    التساقطات ‬المطرية ‬أنعشت ‬الآمال ..‬ارتفاع ‬حقينة ‬السدود ‬ومؤشرات ‬على ‬موسم ‬فلاحي ‬جيد    رئيس الحكومة يستعرض إنجازات المغرب في التجارة الخارجية    "روائع الأطلس" يستكشف تقاليد المغرب في قطر    بنعلي.. الوزارة ستواصل خلال سنة 2025 العمل على تسريع وتطوير مشاريع الطاقات المتجددة    الأمريكيون يتوجهون إلى صناديق الاقتراع لاختيار الرئيس ال47    إسرائيل تعين يوسي بن دافيد رئيساً جديداً لمكتبها في الرباط        وزارة الاستثمار تعتزم اكتراء مقر جديد وفتح الباب ل30 منصب جديد    الاحتقان يخيم من جديد على قطاع الصحة.. وأطباء القطاع العام يلتحقون بالإضراب الوطني    مستشارو فيدرالية اليسار بالرباط ينبهون إلى التدبير الكارثي للنفايات الخضراء و الهامدة بالمدينة    "متفجرات مموهة" تثير استنفارًا أمنيا في بولندا    فن اللغا والسجية.. المهرجان الوطني للفيلم/ جوائز المهرجان/ عاشت السينما المغربية (فيديو)    الأرصاد الجوية تتوقع ارتفاع الحرارة خلال الأيام القادمة في المغرب    غير بعيد على الناظور.. حادث سير مروع يخلف عشرة جرحى    حقيقة انضمام نعية إلياس إلى الجزء الثالث من "بنات للا منانة        القفطان المغربي يتألق خلال فعاليات الأسبوع العربي الأول في اليونسكو    لهذه الأسباب.. الوداد يتقدم بطلب رسمي لتغيير موعد مباراته ضد اتحاد طنجة    أولمبيك أسفي يوجه شكاية لمديرية التحكيم ضد كربوبي ويطالب بعدم تعيينها لمبارياته    الانتخابات الأمريكية.. نحو 83 مليون شخص أدلوا بأصواتهم مبكرا    صاعقة برق تقتل لاعبا وتصيب آخرين أثناء مباراة كرة قدم في البيرو    القضاء يرفض تعليق "اليانصيب الانتخابي" لإيلون ماسك    أداء إيجابي يستهل تداولات بورصة الدار البيضاء    وزيرة التضامن الجديدة: برنامج عمل الوزارة لسنة 2025 يرتكز على تثمين المكتسبات وتسريع تنفيذ إجراءات البرنامج الحكومي    حملة لتحرير الملك العام من الاستغلال غير المرخص في أكادير    كيوسك الثلاثاء | المغرب يواصل صدارته لدول شمال إفريقيا في حقوق الملكية    المغرب ‬يحقق ‬فائض ‬المكتسبات ‬بالديناميةالإيجابية ‬للدبلوماسية    دقيقة صمت خلال المباريات الأوروبية على ضحايا فيضانات فالنسيا        آس الإسبانية تثني على أداء الدولي المغربي آدم أزنو مع بايرن ميوني    إلياس بنصغير: قرار لعبي مع المغرب أثار الكثير من النقاش لكنني لست نادما عليه على الإطلاق    هاريس تستهدف "الناخبين اللاتينيين"    استقرار أسعار النفط وسط غموض حول الانتخابات الأميركية    استنفار أمني واسع بعد العثور على 38 قذيفة في ورش بناء    ترامب يعد الأمريكيين ب"قمم جديدة"    الهجوم على الملك والملكة ورئيس الحكومة: اليمين المتطرف يهدد الديمقراطية الإسبانية في منطقة الإعصار    تصفيات "كان" 2025.. تحكيم مغربي المباراة نيجيريا ورواندا بقيادة سمير الكزاز    على بعد ثلاثة أيام من المسيرة الخضراء ‮ .. ‬عندما أعلن بوعبيد ‬استعداد ‬الاتحاد ‬لإنشاء ‬جيش ‬التحرير ‬من ‬جديد‮!‬    افتتاح النسخة الثانية من القافلة السينمائية تحت شعار ''السينما للجميع''    «حوريات» الجزائري كمال داود تقوده الى جائزة الغونكور    نجم الكرة التشيلية فيدال متهم بالاعتداء الجنسي    دراسة: المغرب قد يجني 10 ملايير دولار من تنظيم "مونديال 2030"    نوح خليفة يرصد في مؤلف جديد عراقة العلاقات بين المغرب والبحرين    دروس وعِبر للمستقبل.. الكراوي يقارب 250 سنة من السلام بين المغرب والبرتغال‬    أخنوش: فقدنا 161 ألف منصب شغل في الفلاحة وإذا جاءت الأمطار سيعود الناس لشغلهم    رحيل أسطورة الموسيقى كوينسي جونز عن 91 عاماً    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مذكرات ضحية من زمن الإنصاف والمصالحة المزعومة
نشر في مرايا برس يوم 13 - 06 - 2010

الرابعة صباحا.... أفقت مذعورا أرتجف... كانت الضربات القوية تهز الباب هزا عنيفا...والجرس يرن دون توقف يوقظ الكامن في قلبي... ابنة أخي الصغيرة تصرخ في هلع وتتشبث بتلابيب أمها.... شقيقتي تقف مشدوهة مصدومة كالبلهاء وكأنها فقدت صوابها.... وقع أقدامهم يزلزل سقف البيت .ينطون فوق الجدران وأسطح الجيران كأفراد عصابة سطو محترفة .... انهارت والدتي المسكينة وبدأ جسدها يرتجف وهي تبكي وتشهق بحرقة لا مثيل لها من هول الصدمة مرددة.
...هذا ما كنت أخشاه يا بني...هذا ما كنت أخشاه...."
همست لها بعد أن عانقتها وأنا ألهث كحصان رهان مهزوم,محاولا التخفيف عنها والتهديء من روعها لا أدري كيف خرجت الكلمات من فمي... لقد عادوا ... اصبري يا أمي... اصبري فلك أجر عند الله...
ما إن فتح أخي الباب حتى صرعوه أرضا على ظهره .... تدفقوا كالكلاب الجائعة أو الوحوش المنفلتة من أقفاصها.
وبدأوا ينشبون سكاكينهم وأيديهم في الأفرشة والوسائد ,وهم يطلقون أقذع الشتائم وألفاظ السوق...احتج أخي في أدب وخوف قائلا.
نحن أسرة محترمة ... ولم نرتكب أي جريمة حتى تعاملونا هكذا...
كلكم تكررون نفس الأسطوانة ... قال أحدهم.
اسألوا عنا كل الجيران ... أقسم بالله العظيم...
قاطعه كبيرهم مرة أخرى" نحن لانظلم أحدا ولا نلفق التهم دون أدلة "... (اللي دار راسو في النخالة كينقبو الدجاج)
شجع الحوار الهادئ نسبيا شقيقي وجرأه أكثر.
لو سمحتم أريد أن أعرف من أنتم وأريد رؤية إذن الوكيل العام بالتفتيش؟؟
قهقه قائدهم ثم اقترب منه وجذبه من كم منامته صارخا في وجهه بعنف.
تريد الهوية وإذن الوكيل العام يا أستاذ ". خذ هاهو الإذن": وبحركة خبير متمرن صعقه بعصاه الكهربائية على خده.خارت قوى شقيقي فسقط أرضا مغمى عليه...ازدادت صرخات النساء والأطفال ارتفاعا دون أن يعبأ بهم أحد... ثم جروني إلى الخارج حافي القدمين دون أن يمهلوني لانتعال حذائي حتى.
حاولت والدتي المسكينة التشبث بي ومنعهم وهي تبكي وتصيح :
" خذوني مكانه إنه مريض إنه مريض"
حين فشلوا في إقناعها بأني سأعود بعد ساعتين على الأكثر لأن الأمر لا يعدو أن يكون إجراءا بسيطا وبضعة أسئلة. قذفوها كالكرة في الممر المؤدي إلى الدرج وسحبوني.
ها قد عادت الأيام االسوداء مرة أخرى.... أين المفر؟ إنه قدري الذي لا مفر ولا فكاك منه . لكن ما يجري هذه المرة يبدو أنه ليس كالمرات السابقة ... الخطر ماحق... ومنذ صدور التقرير الأمريكي الذي صنف أبناء هذا البلد على رأس قا ئمة من يعكرون صفو حلمهم بمشروع عالم إسلامي جديد ويظنكون عيشهم بدمائهم وأشلائهم على أرض الرافدين... صاروا منذ ذاك الحين كالكلاب المسعورة."حرك السيد السوط فضاعف العبد المجهود".
هل نصيبي أن أعاني مرة أخرى وأ تعذب... فلم أكد أصدق أن خلاصي منهم قد حان حتى وقعت بين أيديهم من جديد...
الصدمة والمفاجأة تسيطر علي, رجحت أن الأمر قد كشف. كنت على وشك الرحيل إلى غير رجعة. نعم إلى غير رجعة. قررت أن أترك لهم الجمل وما حمل,وإن كنت لا أملك لا جمل ولا حمل. بل حتى ثمن كيلو من شحم سنامه لم أجده يوم احتجته كعلاج شعبي وصف لي لتسكين آلام صدري.
وأنا أنزل معهم الدرج... درج البيت خارت قواي... فشلت ركبتاي... دارت بي الأرض... تبخرت أحلامي الجميلة ... واسود كل شيء أمامي ... تبا لهم... لو أمهلوني أسبوعا فقط... أسبوعان على الأكثر... لقبضوا على الريح , ولم يقبضوا علي....
جلبة وضوضاء غير معهودة تعم الحي في ذاك الوقت المتأخر من الليل... استفاق جل الجيران بعد أن أرغموا بعضهم على فتح أبوابهم واستعمال أسطح منازلهم للهجوم على بيتنا... أسلوب لإرهاب الناس وإنذار لكل من تسول له نفسه شيئا. الخبثاء يعلمون علم اليقين أنني لست مسلحا,ولا أشكل أي خطر على أي أحد. والعملية لن تحتاج لأكثر من فردين فقط, أو استدعاء للمثول بين أيديهم. أنا ضعيف البنية, معتل الصحة, رغم هذا فكل أصناف السيارات هنا. جيش من العمالقة احتل المكان اختيروا بعناية. لا يقل طول الواحد منهم عن المترين مدججين بالأسلحة. هالني المنظر وازداد رعبي ويقيني في أنها نهايتي.
وهم يعبرون بي الزقاق الضيق صوب السيارة التي ستقلني نحو المجهول=المعلوم..
تعالى فجأة صياح و صراخ احتجاج. حمدت الله,لا يزال في هذه الأمة من يرفض الظلم ويجهر باللهم إن هذا منكر.
زال عجبي حين عرفت من يكون ووصلت كلماته مسامعي . إنه هو ,عبد الله. صادفت عودته كعادته في ذاك الوقت المتأخر من الليل وجود الزوار. منذ فتحت عيني في هذا الزقاق وأنا أعرفه على هذه الحالة. لا يكاد يصحو إلا في رمضان. مع ذلك كان يكن لي احتراما خاصا رغم أنني في سن أصغر أبنائه الذين (حركوا)=هاجروا سرا للضفة الشمالية بعد وفاة والدتهم وزواجه من بدوية في سن أصغرهم. لطالما أيقظتني الوالدة في جوف الليل للتدخل وإنقاذها من ركلاته ولكماته كلما عاد ثملا مهزوما في حلقات القمار.
في اليوم الموالي كان يعتذر لي أشد الاعتذار ويعدني بالتوبة وعدم التكرار مع التزام الصلاة بمسجد الحي.
يصرخ ويلعن...يرغي ويزبد...مترنحا وزوجته تحاول ثنيه وإدخاله بيته وهي تردد محاولة إلجام فمه بكفها (راه أحمق أسيدي ما تديوش عليه ,راه أحمق وعندو وراق السبيطار...) إنه أحمق يا سيدي لا تلتفتوا لكلامه. إنه أحمق وعنده أوراق المستشفى التي تتبث ذلك.
وهو يقاومها ويصيح: (الأحمق هو أبوك...هذا دري زوين ماعمرنا شفنا عليه شي حاجه خايبه. غير الدار للجامع الجامع للدار...سيرو شدوا كروش الحرام ...آش بغيتو عندو آولاد ال..)
هذا شاب طيب لم نر منه شيئا سيئا. من البيت للمسجد ومن المسجد للبيت ...إذهبوا وألقوا القبض على أصحاب البطون المنتفخة بالحرام...ماذا تريدون منه يا أبناء العاهرات...
لم يكد يكمل حتى رفع في الهوا...ذاب صراخه وسبابه ونحيبه وسط هدير محرك السيارة التي أركبوني إياها.
ستصير واقعته لاشك حديث المجالس وقد تغطي بعض الشيء على حكايتي مع إضافة المزيد من البهارات والتوابل قصد التشويق والمتعة وتجزية الوقت وقتل الفراغ. تبا لهم...لكل المهووسين المسكونين بالإشاعة والمبالغة. حتى والدتي كادت بدورها أن تصدق ما روجوه عن وجود أسلحة ومتفجرات في العلب الكرتونية التي جمعوا فيها كل كتبي وأشرطتي وحاسوبي المتهالك, وحرصوا كل الحرص على إظهارها واستعراضها أمام الجيران قبل شحنها بكل عناية في سيارة خاصة محروسة غير تلك التي أقلتني...كان أول ما سألتني عنه في أول زيارة لي بعد إحالتي على السجن هو محتوى العلب الكرتونية التي أخرجوها من غرفتي...
أجلسوني في وسط المقعد الخلفي...أحاط بي اثنان من الغلاظ الشداد واحد عن يميني والآخر عن شمالي ...كبلوا يدي للخلف في عنف وقيدوا رجلي بأصفاد خاصة بالأقدام...تذكرت زمن العبيد المرحلين قسرا من أوطانهم صوب العالم الجديد أمريكا بعد الإكتشاف . تفو ... تفو ... تفو ...ألف مرة على هذا الكريستوف كلومبس مكتشف هذا الطاعون...
أدخلوا رأسي في كيس خانق...كل شيء يتم ويسير على الطريقة الأمريكية الهليودية لها الريادة في كل شيء...إنه زمن العبيد...زمن أمريكا ...ومحاكاة أمريكا ...ونصرة أمريكا والويل والثبور لمن غضبت عليه اللقيطة الشرسة. حبل صدام لا يزال متدليا يتأرجح لتذكير كل من سولت له نفسه العصيان...
انطلقت كالسهم تشق هدوء الليل البهيم. رن الهاتف..أجاب أحدهم ...نعم سيدي ...نعم سيدي الأمانة معانا ...كن هاني سيدي...بعد انتهاء المكالمة أنزلوا رأسي بين ركبتي بعنف وشدة. تقوس ظهري . ضغطوا عليه بقوة مع كلمات تحذيرية ...كلما حاولت التململ زاد من بجواري في الضغط علي أكثر وضرب بقبضة يده الغليظة على قفاي ...(نزل لمك راسك لتحت...)
رن المحمول من جديد...(نعم سيدي احنا في الأوتوروت) = الطريق السيار...عرفت الوجهة زاد هلعي وانقباض صدري...خفقان قلبي...وبدأ مغص بطني الفظيع في مثل هذه المواقف...يبدو أن القوم مستعجلون متلهفون للقائي...
تمتمت ببعض الأدعية...أعوذ بكلمات التامات من شر ما خلق. اللهم إني أجعلك في نحورهم وأعوذ بك من شرورهم. أحس بي من بجانبي فخاطبني ساخرا (سمعنا باش نقولو وراك آمين)=سمعنا لنؤمن على دعائك.
غص ما تحت السماوات وفوق الأرضين بعيون المخبرين...
لكل إنسان لدينا تهمة تمشي ويمشي معها ألف كمين...
نصفها في داخل السجن ونصف خارج السجن سجين...
ليتني رحلت معه ولم أتأخر...
" نموت مع الرجال خير لنا من هذا الجحيم الذي لا يطاق" هكذا كان يحدثني ويكرر على مسامعي صديق المحنة الأولى- ع- منذ أطلقوا سراحنا بعد ثلاثة أشهر من العتمة والعذاب والبشاعة...هنيئا لك يا -ع - لو كنت هنا لساقوك .لكن يبدو أنني سأؤدي نيابة عنك, والأداء لا شك أنه سيكون عسيرا هذه المرة . رأيت ذلك في عيونهم ولمسته من تصرفاتهم وشراستهم...
"لم تعد البلد بلدنا والأرض أرضنا أصبحنا كالمصابين بالجذام المعدي...الكل صار يفر منا خوفا من الشبهة ومن بطش خفافيش الظلام...
حتى الأقارب يخافون من زيارتنا ويتحرجون من زيارتنا لهم وصلة أرحامهم بل إن بعضهم يفكر في تغيير اسمه العائلي..."
كنت أتهمه بالمبالغة وأنعته بالموسوس حين كان يحدثني أنهم قد دسوا لنا العيون والآذان في كل مكان. وكان يقسم لي أنهم لن يتركوننا في سلام وأن التهمة لن تفارقنا حتى وإن ولجنا قبورنا...ويستدل لي على ذلك بحادثة حسن الذي غيبوه شهورا عدة , وبعد أن تركوه مات في حادثة سير غامضة –ع- على الطريق الرابط بين العاصمة ومدينة القنيطرة. كل من شيعوا جنازته أو زاروا قبره للترحم عليه ابتلعهم الأخدود.
ويتابع قائلا "لا تغتر أنهم أطلقوا سراحك...والله لم يتركوك إلا ليعيدوك بملف ضخم هذه المرة بعد أن تكون طعما لغيرك كما فعلوا بفلان..وفلان...وفلان...وعلان... ليس أمامنا إلا أن نتحول إلى جواسيس أو نرحل إلى أرض بعيدة...بعيدة جدا ...ثم يتابع في إلحاح وحماس محاولا إقناعي ... "أنسيت ما قاله لك (الحاج)في آخر استدعاء ؟؟؟ ألم يقل لك أن من مصلحتك ومصلحة البلاد أن تتعاون معهم ...ألم تفهم ماذا يقصد بالتعاون؟؟؟ "
انتفضت يوما في وجهه أو اصطنعت ذلك لاستفزازه ودفعه للإفصاح عما كان يدبره في الخفاء دون إخباري. نفس الشيء كنت أفعله هكذا علمتنا التجربة السابقة. المعلومة في وقتها وعلى قدر الحاجة لا على قدر الثقة. ثم شرعت أحدثه عن حب الأوطان وأسرد عليه بعض ما قاله الشعراء وكبار الأدباء في ذلك مما علق بالذاكرة من أيام الاحتفالات المدرسية بالأعياد الوطنية التي لا تكاد تنتهي من كثرتها...
فرد علي ردا فاحما " اسمع يا أخي ... إن شعراؤك هؤلاء لم يجلسوهم على قارورة ولم يدخلوا العصي والأقلام في مؤخراتهم ...لم يحاربوهم في أرزاقهم ولم تطاردهم عيون المخبرين والجواسيس في كل مكان...تصور حتى المعلمة صارت تسأل إبنتي عن تفاصيل حياتنا ومعارفنا وطعامنا... الحرارة أحسها هذه الأيام تقترب منا أكثر فأكثر ,لم أعد أشعر بالأمان والاطمئنان هنا... البلد صار كسجن كبير ونحن في حالة سراح مؤقت فقط ... الأصدقاء يتخطفون من حولنا كما تخطف الطير. وفي صباح كل يوم تلوك الألسن قصة أحدهم وسيناريو اختطافه ... لا أريد أن أموت بحسرتي خلف جدرانهم ...
"لماذا لا نحاول المقاومة؟؟؟ نتصل بالجمعيات والحقوقيين...نحكي لهم ما نعيشه من تضييق وحرمان حتى من كسب قوت اليوم... ونسألهم الوقوف إلى جانبنا... "
قهقه في سخرية وأجابني إجابة قانط يائس من الجميع, لكنه واقعي ومدرك لحقائق الأمور وحجم الخطر الذي كان يتربص بنا: "رغم ما عانيته أراك لا تزال ساذجا يا عزيزي . لو كنت شيوعيا...أو بوذيا... أو شاذا جنسيا لخرجت المسيرات ونظمت الوقفات الإحتجاجية من أجلك ولناصرك العام.أما وإنك قد صلبت على لائحة المتهمين بالإرهاب فلن يبك عليك غير أمك...حمزة لا بواكي له يا أخي. لا تغرنك الشعارات . انتهت سنوات وعهد الرصاص وجاء عهد الفولاذ ".
ثم يشرع كعادته يوضح لي الفرق بين الحديد والفولاذ وأيهما أصلب .
" أين المفر وأي أرض تقبل أن نمشي فوقها والعالم كله قد تكالب وتعاون. حتى خلافاتهم وضعوها جانبا لما صار العدو أمثالنا؟؟؟ وآخر ما أسمعوني إياه بنبرة الواثق في نفسه قبل أن يخلوا سبيلنا المشروط في المرة السابقة هو...لو صعدت إلى القمر لجئنا بك في كيس مختوم محكم الغلق ...لا تحاول اللعب ...فعلها غيرك وفشلوا...فالعالم أصبح قرية صغيرة...ويدنا طويلة...
ثم كيف السبيل والواحد منا لا يستطيع التحرك مسافة عشرين كيلو دون أن يخبرهم بذلك ويخضع لسين وجيم...ومن أين لنا بجوازات السفر...و...و..."
قاطعني قائلا, مفصحا عما ضل يحوم حوله من مدة , وضللت أنتظره منه وأستدرجه للإفصاح عنه,مختبرا رد فعلي ومدى استعدادي وتجاوبي مع المشروع "...ليس لنا إلا أن نلحق بمن سبقونا. بطن الأرض خير من ظهرها في زمن الذل هذا...ميتون ...ميتون...فلنمت بشرف بين الشرفاء. تابع في حماس لما لاحظ اهتمامي ...بلاد الرافدين ...بلاد الرافدين... أراها في منامي ويقظتي ...ستندم وتقتلك الحسرة إن هم أعادوك هذه المرة...أنظر حولك...أين تعيش أنت...ألا ترى وتسمع كل يوم سيناريوهات الخلايا المزعوم اكتشافها والتي تتناسل ولا تكاد تنتهي تحت شعار الضربات الإستباقية؟؟؟. غدا أو بعد غد ستكون واحدا من أفرادها
بل بقدرة قادر سيجعلونك أميرا على إحداها."
واصل في حماس أنا أتدبر أمر الطريق والجوازات ...أما المال فنتدبره معا ..."
كنت رغم تظاهري بالتمنع واللامبالات واثقا في قرارة نفسي بصواب كل كلمة يتفوه بها المسكين, بل كنت قد بدأت البحث والتحري عن الطريق والوسائل الموصلة إلى هنالك. خاصة بعد أن وصلتني رسالة -خ- الإلكترونية المشفرة والتي جاء فيها بعد مقدمة ملؤها الشوق والمحبة والترغيب في اللحاق بالقافلة: "تحررت من الخوف العقبى لكم ...العقبى لكم...تصور رغم حمم النيران التي تقذف بها أحدث آلياتهم على رؤوسنا ورغم الموت الذي يحيط بنا في كل ناحية...وجحافلهم وعملائهم ...رغم كل شيء أقسم لك أنني أحس بالحرية والأمن أكثر بكثير مما كنت أحسه وأنا معكم هناك".
ثم ختم رسالته ب : " لا تصدقوا أبواقهم المسمومة والله إنهم بعدتهم وعتادهم يفرون من أمام الشباب الحافي الأقدام والذي لا يجد أحيانا غير التمر والماء كوجبة لأيام متتالية يفرون كالجردان المجنونة ذعرا...العقبى لكم أوصيك لا تتأخر عند أي فرصة ...أنا الآن أشتغل في مجالي وأخرج بين الفينة والأخرى مع الشباب لصيد الخنازير وقنصها. لا تخف أعرف ما يدور بذهنك الآن, فرغم النظارات الطبية فقد أصبحت قناصا ماهرا ...نحن في نعمة وسعادة لا تعدلها نعمة في هذه الدنيا دعائي لكم بالفرج والتوفيق فلا تنسونا من دعائكم.
(+) لم أقدر على ذكر إسمي، لأن أمن الإنصاف والمصالحة يتابعنا حتى في أحلامنا، فما أدراك في واقعنا الحقوقي المر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.