شاهد الأمريكيون على شاشات الإنترنت وبعض الشاشات التلفزيونية مرتزقة يستعملون أفرادا عراقيين كأهداف للرماية، ومع ذلك، يجري تهريب المتهمين والمتورطين في مثل هذه الجرائم إلى خارج البلاد، علما أن 64 جنديا أمريكيا نظاميا اتهموا بجرائم قتل وأحيلوا على المحاكم العسكرية عدا جرائم الاغتصاب والإسراف في استعمال العنف. ويسري في هذا الصدد، قول مأثور بين المرتزقة: "ما يجري هنا اليوم، يبقى اليوم هنا". هانز فون سبونيك، الدبلوماسي لدى الأممالمتحدة، والذي ترأس وفدها إلى العراق قبل الاجتياح: "هناك دول كثيرة بدأت تعبر عن قلقها حيال الفلتان القانوني الذي يمارسه المسلحون المأجورون في العراق: خذ بندقية وقاتل براتب كبير، ذلك هو القانون الوحيد الذي يحكم أرض العمليات في العراق اليوم، ولعل ما يقلقنا أكثر، أن تلك المجموعات لا تخضع لأي مساءلة من أي كان بما فيها الدول الأمم التي أرسلتها". "بلاك ووتر.. جيوش الظلام" لمؤلفه مجدي كامل، هو العنوان الذي يُطلق على مرتزقة الموت هؤلاء، وهو عنوان الكتاب الذي نستضيفه في العرض، لصاحبه مجدي كامل، وصدر عن دار الكتاب العربي. (دمشق. القاهرة)، ويعج الكتاب باستشهادات ووثائق وإقرارات غربية (أمريكية على الخصوص)، تكشف معالم "بلاك ووتر"، كما هي، دون مساحيق في عراق ما بعد صدام. يوجد المقر الرئيسي لشركة بلاك ووتر في ولاية نورث كارولاينا، حيث يتكون من منشآت داخلية وخارجية، وتمتد على مساحة 28 كيلومترا مربعا، وتعد هذه المرافق واحدة من أكبر المنشآت للتدريب على السلاح في العالم، وتؤكد دعايات الشركة بأن بلاك ووتر تدير "أكبر مرفق في الولاياتالمتحدة للتدريب على السلاح". أما صاحب فكرة إقامة شركة أمنية خاصة قتالية تحمل إسم "بلاك ووتر للاستشارات الأمنية"، فيدعى جامي سميث، وسميث هذا، رجل المخابرات الأمريكية المركزية، وقد خطرت له لأول مرة أثناء حرب الخليج الأولى. ويعتبر من أشد أقطاب اليمين المسيحي المتطرف، وأحد أهم وأخطر أعضاء مجلس إدارة مؤسسة "الحرية العالمية للمسيحيين"، وهي مؤسسة غير ربحية لها أنشطة مشبوهة حول العالم، وفي الوقت الذي يصف موقعها الإلكتروني على الإنترنت عملها بأنها "تسعى المساعدة للمسيحيين المضطهدين في العالم"، نجدها في واقع الأمر تقود أكبر عمليات تنصير في العالم، وخاصة في الدول الإفريقية. ويشرح سميث كيف أنه لم يكن يملك المال الكافي لتأسيس شركة قتالية تقدم مثل هذه الخدمات، حتى جاءت أحداث 11 سبتمبر ليلتقي بعدها مكالمة هاتفية من إريك برنس رئيس شركة "بلاك ووتر" التي كانت تقدم خدمات لوجستية فقط للجيش، يدعوه فيها إلى الالتحاق بشركته. وقد جاء في الوثيقة التأسيسية للشركة في "التحالف الجديد"، باعتبارها توفر الخدمات الأمنية والعسكرية الخاصة، النص التالي: "مهمة الشركة دعم الأمن العالمي والعمل على إرساء مبادئ الحرية وتعزيز الديمقراطية عن طريق دعم السياسات الوطنية الأمريكية والدولية للدفاع عن المضطهدين ومن لا صوت لهم، وبناء على ذلك، يلتزم الرجال والنساء ببلاك ووتر بأن يكونوا في الصفوف الأمامية في الحرب على الإرهاب". يضيف سميث: "ما إن جاءت وزارة الخارجية وأبرمت عقدا معنا حتى انفتحت أمامنا أبواب مختلفة، فها أنت تضع رجلك عند الباب من خلال دائرة حكومية لها فروع في كل دول العالم، إنه يشبه الانتشار السرطاني، وما إن تصل إلى الدم حتى تضمن وصولك إلى كل الأطراف في غضون يومين". التاجر والمبشر والعسكري يعود تاريخ تجنيد عصابات المرتزقة المسلحة إلى نهج اتبعته وكالة المخابرات الأمريكية "س. آي. إيه" ووزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون"، وليس هذا النهج جديدا، بل يعود إلى مطلع الستينيات من القرن الماضي، وتكمن هذه الاستراتيجية في العنف المسلح الذي تلجأ إليه الحكومة الأمريكية من أجل إقامة أنظمة مخلصة لها، والحفاظ عليها في البلدان الأخرى، واستخدامها كرؤوس حربة في محاربة نظام معاد لسياستها، أو من أجل دعم وتقوية دولة على حساب فرض السيطرة والنفوذ على دول الجوار، أو من أجل المصالح الاقتصادية والسياسية التي تسعى إلى تحقيقها. كانت تشكيلات المرتزقة عام 1978 تؤلف رابع عدد أفراد جيش روديسيا الجنوبية، وكانت مهمتها تقوم على حماية العنصرية والقيام بأعمال تنكيلية ضد قوى زيمبابوي الوطنية، وبهجمات على أراضي موزمبيق وسائر الدول المجاورة، كما جندت بكين عصابات المرتزقة من أعداد الجواتسيار وأرسلتها إلى البدلان المجاورة. كما اشتهرت مجموعات فردية كثيرة من المرتزقة، كما اشتهرت شركات المرتزقة الغربية التي تتولى هذه الأعمال مقابل المال، مثل جماعة: "مايك المجنون"، قادها عسكري يدعى هوار، ولعل بدورا في قلب عدة حكومات إفريقية، مثل انقلاب سيشيل عام 1981، وجماعة "السترات السوداء"، بقيادة الفرنسي بوب دينار الذي شارك عدة مرات في قبل النظام في جزر القمر. بخصوص العلاقة الدينية بين شركة "بلاك ووتر" والإدارة الأمريكية في العراق" و"جماعة فرسان مالطا" الدينية المسيحية، (والتي تعد آخر جماعة للمحاربين باسم الكنيسة لا تزال موجودة منذ آخر الحروب الصليبية)، يستشهد المؤلف بحيثيات تقرير نشرته مجلة "ذي نيشن" الأمريكية بعنوان: "جيش بوش في الظل"، حيث يشير التقرير إلى أنه "من الصعب تخيل أن إدارة الرئيس الأمريكي بوش لم يكن لها دور في نجاح بلاك ووتر، فمؤسس الشركة إريك برينس يتشارك مع بوش في معتقداته المسيحية الأصولية، حيث جاء من عائلة جمهورية نافذة في ولاية ميتشغان وأبوه، إدغار بينس جيري بوير، سياسي محافظ معروف بعلاقاته مع الجماعات المسيحية الإنجيلية، كما يعرف بتأييده اللامحدود لإسرائيل، وإيمانه بضرورة استخدام القوة العسكرية لحماية مصالح الولاياتالمتحدة. "بلاك ووتر" إذن، وبشكلها الذي وصلت إليه الآن، هي دمج لثلاثية مقدسة كانت تحكم طريقة تعامل الولاياتالمتحدة حتى وقت قريب في ضلع واحد من أضلاعها. هذه الثلاثية كانت تمثل "التاجر والمبشر والعسكري"، أي حكم العالم من خلال الشركات العملاقة التي تنهب الدول الصغيرة، والآلة العسكرية التي تحميها وتمهد لها الطريق، ورجال الدين الذين يضفون الشرعية على هذه السياسات القذرة، ويعملون على نشر اليمينية المسيحية المتطرفة. كما أن "بلاك ووتر" جاءت بجيوش الظلام بشتى أنواع الأسلحة، التي تشتريها من مصانع السلاح الأمريكية، بموافقة الإدارة الأمريكية، وبمباركة وزارة الدفاع الأمريكية ("البنتاغون")، لتختزل فيما تمارسه من "بيزنس الموت" كل وظائف التاجر والمبشر والعسكري، تحت غطاء أمريكي رسمي، تباركه وتسانده الإدارة الأمريكية. بالنتيجة، أصبحت هذه الشركات تمثل منفذا لتسلل أي منظمات أو دول أو أجهزة مخابرات للتخريب وإثارة الفتن والفوضى في العراق، أو للعمل لحساب دولهم داخل هذه الحالة من الفوضى، وكان منهم عملاء للمخابرات الإسرائيلية الذين وجدوا في العمل كعناصر أمن فرصة للتنقل بحرية في جميع أنحاء العراق كما يرغبون. أدوار بريمر ونغروبونتي لا يمكن الحديث عن بلاك ووتر وفوق الموت التابعة لها في العراق تحديدا، دون التوقف عند شخصيتين محوريتين قدمتا لها "خدمة العم"، هاتان الشخصيتان هما بول بريمر الحاكم العسكري للعراق مباشرة بعد إسقاط صدام حسين، ومن بعده مواطنه وسفير بلاده في بغداد جون نغروبونتي، مهندس فرق الموت القديم. ونبدأ بالذي صدر عن بريمر، فبعد أن دمر الجيش والشرطة، أبرم مع شركة بلاك ووتر أولى عقودها في العراق، تحت مظلة "توفير الحماية للدبلوماسيين الأمريكيين والمرافق التابعة لهم في العراق لتقفز مكاسب الشركة بنسبة 300%. بدأ ذلك العقد في عام 2003 بقيمة 21 مليون دولار أمريكي بالتكليف المباشر لتوفير الحماية للحاكم بريمر، وتبع هذا العقد عدد لا حصر له من التعاقدات بين الشركة والإدارة الأمريكية، بناء على طلب بريمر، حتى أن التعاقدات التي وقعتها الشركة مع الخارجية الأمريكية فقط بلغت قيمتها 750 مليون دولار منذ شهر يونيو 2004 إلى بداية 2007. يشير المؤلف إلى المرتزقة الذين جاءت بهم "شركات الأمن الأمريكية" وهذا إسم مهذب لما يعرف تاريخيا بالمرتزقة أصبحوا يشكلون الآن في العراق مثلا ثاني أكبر جيش نظامي في العراق بعد جيش الاحتلال. والغريب أن شركات المرتزقة هذه، تتقاضى أتعابها من الجيش الأمريكي الذي تعمل لخدمته، وتقاتل مرتزقتها لحسابه بدلا من جنوده، حتى لا تنسب إليه ما يرتكبونه من جرائم بندى لها الجبين، هذه الشركات الأمنية تستنزف ثروات الشعب العراقي أرباحا طائلة من وراء نشاطاتها المرعبة في العراق. فشركة "بلاك ووتر" بيت القصيد في هذا العمل تحصل في العام الواحد على ما يقرب من مليار دولار، في حين تحصل شركة "إجيس" البريطانية على حوالي 300 مليون دولار سنويا، تدفعها بطبيعة الحال الخزينة العراقية. ويتقاضى المرتزق أجورا كبيرة تتراوح بين 500 و1500 دولار يوميا، في الوقت الذي يتقاضى الشرطي العراقي أقل من 400 دولار شهريا، ويتقاضى الجندي الأمريكية النظامي من رتبة جندي عادي وحتى قائد فصيل مبلغا يتراوح بين 1500 إلى 5000 دولار شهريا. بالنسبة لنغروبونتي، فهو رجل إدارة الرئيس الأمريكي الراحل دونالد ريغان الذي تولى منذ سنة 1986 تغذية فرق الموت في دول أمريكا الوسطى.ومن موقعه كسفير للولايات المتحدة في هندوراس، كان نغروبونتي يدير ثاني أكبر سفارة للولايات المتحدة، وأكبر محطات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي. أي. إيه) على الإطلاق في العالم. ومن ذلك الموقع، عمل نغروبونتي على تنسيق دعم واشنطن السري لفرق الموت التابعة "للكونترا" في نيكاراغوا، والتغطية على جرائم الكتيبة 316 الدموية التابعة للمجلس العسكري الحاكم في هندوراس. "خصخصة الحروب" بالمحصلة، نحن أمام نوع جديد من المرتزقة يمكن تسميتهم ب"المرتزقة الجدد"، أو "مرتزقة العصر"، ونوع جديد من الحروب هي حروب "القطاع الخاص"، أو "الحروب المخصخصة". وهذا عين ما يجري في العراق اليوم، إن لم نقل أن "خصخصة الحروب"، أصبحت آخر صيحة في عالم الحروب اليوم، بعدما انتشرت شركات المرتزقة، وأصبحت تطلق على نفسها أسماء أكثر لياقة، وتنبذ كلمة "مرتزقة" مثل تسمية نفسها شركات حماية أو "متعاقدون مدنيون" أو "متعهدون أمنيون". ودفع تزايد نشاط هذه الشركات حكومات إلى متابعة الظاهرة وبحث مخاطرها، خصوصا أنها تشبه عصابات الجريمة المنظمة ولا يحكم أعمالها أي وازع أخلاقي، وكل ما يهمها هو الربح المادي أيا كان مصدره، حتى إن مجلس العموم البريطاني أعد تقريرا حول الموضوع في 12 فبراير 2002 تساءل فيه عن النشاط الحقيقي لهذه "الشركات العسكرية الخاصة" بعبارات لا تصنفها بالضرورة في خانة الأشرار، بهدف طرح إطار سياسي للنقاش حول الارتزاق العسكري. بتعبير أفصح، لا توجد لهؤلاء المرتزقة قضية يقاتلون من أجلها، ولا قيم أو فضائل يدافعون عنها؛ ولا روابط أو قيود تضبط ممارستهم في ميادين القتال وخارجها، وكان الراتب هو الوسيلة الوحيدة لربط المرتزق بمجموعته المقاتلة؛ وكان الانضباط الصارم والشديد هو سلاح الضباط للسيطرة على جنودهم، ورغم ذلك، فنادرا ما كانت تتحقق هذه السيطرة. ومما يزيد من رواج هذه الشركات، أن الإيديولوجيا الليبرالية تسمح للمؤسسات المالية الدولية أو التابعة للدول الأنغلوسكسونية، بالأخذ بصيغ الاعتماد على القطاع الخاص، لا سيما في مجال التدريب العسكري أو الدعم اللوجستي، كما أن تحول الجيوش إلى الاحتراف والتكنولوجيا وانخفاض عدد العسكريين في البلدان المتطورة بعد نهاية الحرب الباردة أدى إلى تسريح ما يقارب من خمسة ملايين رجل بين 1985 و1986 من دون أن ترافق هذا التسريح تدابير اقتصادية واجتماعية مناسبة، الأمر الذي وفر لشركات الأمن الخاصة يدا عاملة واسعة. وأخيرا، من غير المتوقع الاستغناء بصورة كاملة عن خدمات المرتزقة، ولكن من المتوقع إخضاع هذه التنظيمات لسيطرة القيادة العسكرية على مسارح العمليات القتالية، مما يضمن تحقيق مجموعة من الأهداف: المركزية في تنظيم الواجبات والأهداف. منع الازدواجية وإزالة التناقضات بين فروع وتنظيمات المرتزقة. الحد من الانحرافات والتجاوزات التي تلحق الضرر بالروح المعنوية للقوات المقاتلة من نوع انحرافات سجن أبو غريب. عندما يقتلون، لا يحسبون ضمن الخسائر العسكرية، التي يعلنها البنتاغون، وهذا أمر له أهميته للرأي العام الأمريكي شديد الحساسية تجاه خسائره البشرية، كما أنهم يعملون بعيدا عن الأعراف العسكرية وبعيدا عن اتفاقيات جنيف، التي لا يزال خرقها يشكل إحراجا للجيوش النظامية. صورة قاتمة، وقائمة في آن، في عراق اليوم، ومعرضة لأن تتكرر في سودان الغد، تحت غطاء "إرساء مبادئ الحرية وتعزيز الديمقراطية عن طريق دعم السياسات الوطنية الأمريكية والدولية للدفاع عن المضطهدين".