بعيدا عن كل تشنج فكري أو سياسي , وبعيدا عن المفاهيم القبلية والتصورات التي تسكن المواطن العربي عن العلمانية , يكفي أن نضع آذاننا على أبواب هذا المفهوم , وأن نرمي أعيننا قليلا على جسده حتى يدخل بشكل طبيعي إلى عقولنا دونما خوف أو حساسية . إن رنين كلمة العلمانية تحمل إلى المتلقي مباشرة كلمات من قبيل : العداء للأديان , الكارثة , العمالة للغرب وإسرائيل , نشر الإنحلال الأخلاقي ... بينما الأمر يختلف تماما . إن كل تلك المفردات التي يروج لها النظام السياسي وأتباعه هي فقط أوهامتغلف العقل العربي مانعة إياه من النظر الصائب في المكان الصائب . ما معنى العلمانية بشكل بسيط جدا ؟ الكثير منا يعرف الجواب الشائع : فصل الدين عن الدولة . لكن ما معنى فصل الدين عن الدولة أصلا ؟ إنه طبعا , ليس الصراع ضد الدين . بل هو الصراع من أجل الإنعتاق من شرنقة الدينيين . في دولة علمانية , الكل يحترم الكل , مهما كان اللون أو الجنس أو الدين . ولا أحد يمتلك صلاحية التدخل في شؤون الآخر وأن يفرض عليه قناعاته وتصوراته ودينه الشخصي . في الدولة العلمانية ليس من حق شخص أن يمنع شخصا آخر من الصوم , كما ليس من حق هذا الأخير أن يفرض على الأول الصيام . ثم إن هذا جانب ضئيل من الموضوع فقط , لأن العلمانية مفهوم سياسي وليس مصطلحا دينيا . إنه طريقة تنظيم الدولة . إذ ليس من اللائق جر العلمانية للمناقشة الدينية وإخضاعها لمفاهيم من قبيل الحلال والحرام . إنما هي مفردة سياسية تعيش في ماء السياسة وتقتات على النظريات الفكرية والمدنية والثقافة السياسية . إن فصل الدين عن الدولة لا يعني مطلقا أن الدولة كمفهوم مجرد سوف تصبح كافرة . " وهذا ما تروج له الأحزاب السياسية الإسلامية والنظام الفاسد " , إنما يعني في العمق أن الدولة ككائن سياسي هي محايدة , ليست مسلمة وليست كافرة , لأنها ليست بشرا بكل بساطة. إن تقسيم الدول إلى دول مسلمة وأخرى كافرة هو نوع من الجهل السياسي والديني معا . فالدولة ليست إلا تنظيما يضم عناصره ومكوناته كالمجال الأرضي والبنية السياسية والإنسان . في المغرب العلماني لن يقف المغاربة أمام السلطة السياسية وأمام بعضهم البعضحسب قناعاتهم الدينية , إنما حسب مواطنتهم واحترامهم للقوانين والإنسان . لن يتم التمييز بينهم في الأحكام وفي الموقع الإجتماعي بالرجوع إلى قناعاتهم الشخصية الدينية , إنما حسب معايير مدنية . ثم إنه في المغرب العلماني , لن يتم هنالك إخضاع أو استغلال أو تنكيل بالشعب باسم الدين . ستكون الأمور السياسية واضحة وشفافة , وليست ضبابية ومتداعية . يعتقد البعض أن المناداة بعلمنة المغرب هو ضرب من ضروب الفانتازم السياسي وأنه خارج الحضارة والتاريخ المغربيين وغريبا عن تربتها . أو لم تكن الأحزاب السياسية في حد ذاتها خارج السيرورة الطبيعية للتاريخ المغربي في بدايات القرن الماضي فقط ؟ أو ليس البرلمان مفهوما ومؤسسة مستوردة من حضارة أخرى ؟ لذلك , فالهروب إلى الأمام بإجابات فضفاضة كتلك , أو بإجابات من طينة التشبت بالهوية المغربية تبقى فقط رمادا لذره على العيون ... الذين سيخسرون مواقعهم في المغرب بعلمنته , ليس الدين بالضرورة . بل الأحزاب السياسية الإسلامية والمتاجرين بالدين . فأمريكا العلمانية مثلا أو فرنسا اللائكية , تبقى الأديان فيها في حركية دائمة , الكثيرون من المواطنين يدخلون الدين يوميا , والكثيرون يخرجون منه , وآخرون يغيرونه من دين إلى دين في إطار إحترام الإنسان والحرية الشخصية . وتكون الدولة خصبة للنقاش الحر والسليم , وليس دولة مبنية على القمع والتعسف والديكتاتورية باسم الإله . في المغرب العلماني كما في كل دولة وصلت إلى النظام السياسي العلماني وعلى رأسها أمريكا الموصوفة عند بعض المتشددين بالشيطان , لا يستطيع أحد مهما كانت رتبته وموقعه أن يمنع مسلما من الصلاة في المسجد أو مسيحيا من الذهاب إلى الكنيسة أو يهوديا ... إن من الأدبيات الأولى للعلمانية هي احترام الأديان كيفما كانت , ولكل المواطنين الحق في ممارسة شعائرهم حسب قناعاتهم . إن من الأدبيات الأولى للعلمانية هي معاملة النظام السياسي للمواطنين على حد سواء دون تمييز ديني . في المغرب العلماني , لن يأخد أحد شرعية التعسف على الشعب ويقرنها بالله , بل يكون الحساب السياسي مقرونا بأمور ملموسة مادية وسلوكات , وليس بإحالات غيبية لتخذير المغاربة . وعموما , إن الإنسان تربطه علاقة عمودية مع الله ليس من حق أي شخص آخر على الأرض أن يحاسبه عليها أو أن يفرض عليه شكلها . بينما تربطه علاقة أفقية مع الإنسان واضحة وعملية وتتردد يوميا . هنا , يتجسد ويأتي دور النظام السياسي في إطار القوانين مثلا أو التدخل من أجل تقنينها . ويكون من حق الإنسان أن يحاسب أخيه الإنسان على هذه العلاقة الأفقية ... لقد حلقت الدول الغربية عاليا وحققت ما وصلت إليه اليوم بفضل الحرية الفكرية. أما الخطوط الحمراء فتكثر وتتناسل فقط في الدول الديكتاتورية التي لا هم لها إلى مص دماء وعرق شعوبها . وسيتحرر المغرب يوما ما من تلك الأيادي الغليظة التي تطبق على أعناقنا من أجل أن نبقى دائما في القاع نسبح في الفقر والألم , سيتحرر المغرب يوما ما من تلك الوجوه التي تريد لأبنائنا أن يكونوا عبيدا لأبنائها كما كنا نحن . والتحرر طريقه شائك وطويل , طبعا , من بين المحطات التي ينبغي منا المرور عبرها هي علمنة المغرب . [email protected]