أن يصف المفكر المصري جلال أمين، كتاب "مالكوم إكس.. النصوص المحرمة"، بأنه "كتاب جميل تترك قراءته في النفس أثرا طيبا للغاية"، أمر ليس بالهين، والأدهى أن نعلم بأن العمل/الكتاب هو تجميع لأعمال مؤلفين ينتمون إلى ميادين مختلفة جدّ الاختلاف، فمنهم المناضل السياسي (مالكوم)، وعالم لغويات شهير (تشومسكي)، ومصلح اجتماعي (رالف نادر) ومؤرخ (هوارد زن) ورئيس جمهورية سابق (فاتسلاف هافل) وعلماء أفذاذ (إينشتاين) وروائية (إيزابيل ألليندي) ومغن شعبي (بوب مارلي) وشاعرة (بت مينوسك بينغر)! فما الذي يمكن أن يجمع بين هؤلاء جميعا، يتساءل جلال أمين، وهل هناك من القضايا ما يمكن أن يكون هما مشتركا بينهم، ثم بيت القصيد ما الذي يدفع كاتبا عربيا أن يترجم لهؤلاء جميعا ويجمعها في كتاب واحد؟ نحن في ضيافة كتاب "مالكولم إكس.. النصوص المحرمة"، والصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر البيروتية، حيث لم يجد جلال أمين أفضل من تعبير "النظر إلى السياسة كأخلاق"، في معرض الجمع بين السمات التي توحد الأسماء سالفة الذكر، فممارسة السياسة كأخلاق ليس فقط عملا غير مألوف، بل أكثر ما أكثر ما نصادف عكسه بالضبط، أي "ممارسة الأخلاق كسياسة". فما أكثر ما يستعمل السياسيون شعارات أخلاقية لتبرير أعمال سياسية هي أبعد ما تكون عن المبادئ الأخلاقية المستقرة، وإذا كان الأمر كذلك؛ فكيف لا نشعر بالتقدير والإعجاب العميقين، بل والرهبة والخشوع أحيانا، إزاء رجال ونساء تصدوا للقضايا السياسية وكأنها قضايا أخلاقية، تصلح لأحكام الضمير الإنساني، وحكموا على الأعمال والإجراءات السياسية وفقا لاتفاقها أو اختلافها وما يقضي به الحس الأخلاقي السليم. يُحسب للكاتب والمترجم حمد العيسى، في عمله القيم هذا، أنه انفرد بنشر نصوص مهمة تترجم وتنشر لأول مرة في العالم العربي، حول شخصية مناضل حقوقي أسود، مضيفا إليها سيرته الذاتية المنشورة، والذي اغتيل يوم 21 فبراير 1965: إنه مالكوم إكس، صاحب الشخصية الكاريزمية والخطيب الناري، الذي يُعد من الناحية الرسمية الزعيم الأسود الأهم والأكثر تأثيرا في حركة الدفاع عن الحقوق المدنية للسود والأقليات ضد التمييز العنصري البشع في أمريكا. وع أن وسائل الإعلام والحكومة الأمريكية حاولت تجاهله أثناء حياته والتركيز على منافسه الزعيم الأسود العظيم ولكن الأكثر مهادنة الدكتور مارتن لوثر كينغ، لكنها لم تفلح. ولا شك في أن بعض "العقلاء الجدد"، بتعبير المترجم، سوف يقولون بعد الاطلاع على نصوص مالكوم في هذا الكتاب، إن مالكوم عنصري وربما أيضا ديماغوجي، ولكنه بالتأكيد ليس كذلك، وينبهنا حمد العيسى إلى ضرورة قراءة هذه النصوص وتفسيرها في سياق زمانها ومكانها وظروفها، حيث كان السود يعانون من تفرقة عنصرية وحشية بغيضة تتناقض وأبسط حقوق الإنسان، بل تتناقض والدستور الأمريكي نفسه، ومع ذلك لم يتورط مالكوم إكس في أعمال عنف ضد البيض. وما يشفع لمؤلف هذا العمل القيّم التأكيد على هذه الحيثية (قراءة النصوص في سياق زمانها وظروفها) أن خطب مالكوم الأولى، لا علاقة لها البتة بخطبه في مرحلة ما بعد أداءه مناسك الحج، وتأكيد الرواية الشهيرة في هذا الصدد، وتتمحور حول تأثر مالكوم بمشهد الكعبة المشرفة وأصوات التلبية، وبساطة وإخاء المسلمين، ويقول في ذلك: "في حياتي لم أشهد أصدق من هذا الإخاء بين أناس من جميع الألوان والأجناس، إن أمريكا في حاجة إلى فهم الإسلام؛ لأنه الدين الوحيد الذي يملك حل مشكلة العنصرية فيها"، وقضى 12 يوما جالسا مع المسلمين في الحج، ورأى بعضهم شديدي البياض زرق العيون، لكنهم مسلمون، ورأى أن الناس متساوون أمام الله بعيدا عن سرطان العنصرية. انتهت هذه الرحلة، بتغيير مالكوم اسمه إلى الحاج مالك شباز، وغادر مالكوم مدينة جدة في أبريل 1964، وزار عددا من الدول العربية والإفريقية، ورأى في أسبوعين ما لم يره في 39 عاما، وشرع في صياغة أفكار جديدة تدعو إلى الإسلام اللاعنصري، وأخذ يدعو إليه، ونادى بأخوة بني الإنسان بغض النظر عن اللون، ودعا إلى التعايش بين البيض والسود، وأسس منظمة الاتحاد الإفريقي الأمريكي، وهي أفكار تتعارض مع أفكار "أمة الإسلام"؛ لذلك هاجموه وحاربوه، وأحجمت الصحف الأمريكية عن نشر أي شيء عن هذا الاتجاه الجديد، واتهموه بتحريض السود على العصيان، فقال: "عندما تكون عوامل الانفجار الاجتماعي موجودة لا تحتاج الجماهير لمن يحرضها، وإن عبادة الإله الواحد ستقرب الناس من السلام الذي يتكلم الناس عنه ولا يفعلون شيئا لتحقيقه". وتطورت التحولات التي ميزت هذه الرحلة، بنشوب خلاف جذري ضد "شيخه" الأسبق إلايجا محمد زعيم جماعة "أمة الإسلام"، بل ذهب مالكوم إلى درجة اتهام إلايجا بأن تصريحاته تنافي الإسلام الحقيقي الذي عرفه في رحلته إلى مكةالمكرمة، كما توجزها التصريحات التالية التي أدلى بها فيما أصبح يعرف بالخطبة الأخيرة لمالكوم، وألقيت يوم 14 فبراير 1965: "أنا لست عنصريا، أنا لا أؤمن بأي نوع من التمييز أو الفصل العنصري. أنا أؤمن بالإسلام. أنا مسلم، وليس هناك ما يدعوني للاعتذار عن كوني مسلما. عندما كنت في حركة المسلمين السود لم أكن أعرف الإسلام الحقيقي، فالإسلام الحقيقي لا يسمح لأي شخص أن يحكم على إنسان آخر بسبب لون بشرته، لأن المقياس المعتمد في الإسلام للحكم على إنسان آخر هو الأفعال، وعندما نستخدم هذا المقياس معيارا للحكم، فإننا لن نخطئ أبدا". وبدوره، يوجز حمد العيسى "مشروع مالكوم"، أو على الأصح، اختصار مشروعه الأخلاقي في ثلاث كلمات: فضح الظلم ومقاومته، وهذا المبدأ صالح لكل زمان ومكان يوجد فيهما مثل هذا الظرف. ملاحظة أخيرة، لا بد لنا من إدراجها على هامش صدور فيلم "مالكوم إكس" الشهير الذي أخرجه سبابك لي، وقام ببطولته الممثل القدير دينزل واشنطن، وعرض في عام 1992، وهي أن مالكوم كما نطلع عليه في هذا العمل، يختلف اختلافا كبيرا عن مالكوم كما شاهدناه في الفيلم، والسبب، مرتبط بسيناريو الفيلم، حيث ضاع نصف زمن هذا الأخير في متابعة حياة مالكوم الماجنة، ولم يُقدم فيما بقي منه أهم خطبه الثورية، لنقل، بتعبير العيسى دائما، أن نسخة هوليود كانت مُلطّفة جدا، وما نطلع عليه في هذا الكتاب المُمْتِع، يُشبِه "نسخة مالكوم إكس المُحرمة"، ومنها عنوان الكتاب. "أنتم وأنا لم نَرَ الديمقراطية الأمريكية، بل كل ما رأيناه هو النفاق، والجيل الحالي يرى هذه الحقيقة بوضوح". من المثير للدهشة أن تكون مثل هذه التصريحات الصادرة منذ أربع عقود على لسان مالكوم، صالحة حتى اليوم، ليس فقط في المجال التداولي الأمريكي، ولكن حتى في الخارج، ومن هنا تكمن أهمية التوقف عند اجتهادات هذا المناضل الفذ، ومنها أيضا، حديثه عن الدروس التي استخلصها بعد لقاءه بالزعيم جمال عبد الناصر، واصفا إياه بأنه كان رجلا عظيما، ومؤكدا أنه أدرك لماذا تخاف منه الإدارة الأمريكية، لأنه يستطيع أن يقطع نفطهم. قامت شرطة نيويورك بالقبض على مرتكبي جريمة اغتيال مالكوم، واعترفوا بأنهم من حركة "أمة الإسلام"، ومن المفارقات أنه بعد شهر واحد من اغتياله، أقر الرئيس الأمريكي جونسون مرسوما قانونيا ينص على حقوق التصويت للسود، وأنهى الاستخدام الرسمي لكلمة "نجرو"، التي كانت تطلق على الزنوج في أمريكا. نأتي لأهم ما ترجمه المؤلف عن باقي الأسماء المحتفى بها في هذا العمل، ومنها عالم اللسانيات، نعوم تشومسكي، ولو أن شهرته الحقيقية، كما هو معلوم، تنبع من نشاطه السياسي، ويلخصها الكاتب في عبارة من محاضرة مهمة له، ألقاها، ضمن نشاطه السياسي المعادي لتدخل الولاياتالمتحدة في فيتنام، بجامعة هارفارد عام 1966 (ونحن في عام 2008، نجد أنفسنا مع نصوص صالحة لأن يعاد نشرها وتوجيهها لمن يهمهم الأم)، وجاءت المحاضرة تحت عنوان: "مسؤولية المثقفين"، حيث قال: "إن من مسؤولية المثقفين أن يقولوا الحقيقة ويفضحوا الأكاذيب". ومن المعروف أيضا، أنه بسبب مواقف تشومسكي المؤيدة للقضايا العربية المصرية، أصبح يُلقب من طرف منظمة "بناي بريث" (أو "أبناء العهد اليهودي")، ب"اليهودي المعادي للسامية"، أو "اليهودي الذي يكره نفسه". أحدث كتاب "غير آمنة على أية سرعة" الذي صدر عام 1965 "ثورة كوبرنيكية" في عالم السيارات أسمتها مجلة "تايم" ب"ثورة المستهلكين"، وعرفت فيما بعد بحركة حماية المستهلك، وامتد تأثيرها ليشمل جميع أنحاء العالم، حتى أصبحنا نسمع خلال السنين الأخيرة، عن جمعيات تهتم بحماية المستهلك في بعض الدول العربية. نتحدث طبعا عن المحامي رالف نادر، وكان آنذاك محاميا شابا، استطاع الفوز على أكبر شركة في العالم (جنرال موتورز)، وكانت تضم 745000 موظف، وأصل الحكاية أن نادر، اكتشف أن "حوادث السير التي تنتج عنها وفيات لا تحدث فقط بسبب خطأ السائق، كما توهمنا شركات السيارات دائما، ولكن أيضا بسبب التصميم الرديء لهذه السيارات"، ولعل أهم ما طالب به نادر في بحثه ومرافعته هو حزام الأمان الذي لم يكن معمولا به في ذلك الوقت. من المقالات الهامة التي ترجمها الكاتب لرالف نادر، مقال جريء يحمل عنوان: "أقيلوا بوش"، وافتتحه نادر بإقرار صريح وواضح: "إن اتهام بوش ونائب الرئيس تشيني بالخيانة يجب أن يصبح جزءا من الخطاب السياسي السائد وفقا للفصل الرابع من المادة الثانية من الدستور"، وإذا كان الرئيس بيل كلينتون على وشك تقديم الاستقالة بسبب قلاقل علاقة جنسية، فإن مقارنة تصرف كلينتون المشين بالنسبة إلى شن حرب احتلال مدمرة ومكلفة في مارس 2003 (يقصد غزو العراق) تحت ذرائع كاذبة، يوجب بدون شك، على الكونغرس، أن يبدأ على الفور بتقديم مشروع قرار لعزل الرئيس. هوارد زن، تذكروا هذا الإسم جيدا، بالنسبة لمن يعرفه طبعا، فالرجل، الذي رحل عنا منذ أشهر، في ظل صمت عالمي رهيب، يعتبر أهم مؤرخ يساري أمريكي على الإطلاق، كما يُعد مع تشومسكي من أبرز مفكري اليسار ونشطاء حركة مناهضة الحرب في الولاياتالمتحدةالأمريكية، واشتهر على الخصوص بكتابه الذي أصدره عام 1980 تحت عنوان: "تاريخ شعبي للولايات المتحدةالأمريكية: 1492 الآن"، والكتاب يروي فيه تاريخ أمريكا من وجهة نظر المحرومين والمستضعفين، ونجح العمل ويقع في 768 صفحة نجاحا سابقا، وأصبح من أكثر الكتب مبيعا. نقرأ لهذا المؤرخ الرصين، الاستنتاج التالي: "مهما كان الحل السريع الذي تقدمه الحرب، سواء هزمنا هتلر بالأمس أو صدام اليوم، ومهما كانت الحماسة المتدفقة، فإن النتيجة سكون مثل المخدرات: تشعر أولا بالابتهاج، ثم تعود إلى الخلف شيئا نحو شيء رهيب. إن الحب لا تحل المشكلة، وأثناءها تموت أعداد ضخمة من البشر". تتقاطع رؤية هوارد زن مع الذي أشار إليه فاتسلاف هافل، (الكاتب المسرحي، ورئيس سابق لتشيكوسلوفاكيا في 1989)، والذي يرى بأن نجاة الإنسانية اليوم، يتطلب من النظام السياسي العالمي أن يصاحبه احترام صادق ومتبادل بين جميع الحضارات والثقافات والدول، والسعي للعثور على المبادئ الأخلاقية الأساسية المشتركة، وبالتالي مزجها في قواعد عامة تحكم تعايشهم في هذا العالم الوثيق الاتصال. "أحببت الأمان، خاصة بالنسبة لأطفالي الذين لم أكن بحاجة إلى تعليمهم عدم الحديث مع الغرباء ورفض الحلوى والهدايا منهم، أحببت أن أخرج من غير إغلاق منزلي بالقفل، أحببت نداء الصلاة خمس مرات في اليوم". (والشاعرة مسيحية للتذكير). إنها شهادات للشاعرة الأمريكية بت مينوسك بينغر، تأسيسا على تداعيات لها صدرت بعد إقامتها بالديار السعودية لبضع سنوات (بين 1982 و1986)، ونشرت عام 2002 في صفحة الرأي في جريدة "شيكاغو تريبيون" (رابع أهم جريدة في الولاياتالمتحدة) قصيدة ومقالا ردا على حملة هوجاء ظالمة شنتها أطرافا يهودية وصهيونية محافظة في الولاياتالمتحدة ضد السعودية، وجاء في المقال الفقرات التالية: "أدعو الشعب الأمريكي إلى مراجعة تعصبنا الأعمى المبني على الخوف، تخيلوا لو استعمل العالم معنا المعيار نفسه (وتتحدث عن تبعات اعتداءات نيويوركوواشنطن طبعا)، سوف يروننا قساوسة شاذين، ومديرين لصوصا (إنرون، وولد كوم)، وأشباه تيموثي ماكفي! أمر مضحك.. أليس كذلك!