يشكل الحج رحلة روحية ذات نكهة خاصة لا يدرك أسرارها إلا القلة ممن تميزت تجاربهم وأفكارهم واتسعت آفاقهم، من دون أن يعني ذلك أن الآخرين لا يعيشون فرادة الرحلة وحيويتها الروحية وتأثيرها على النفس، سيما أولئك الذين عمرت أرواحهم بالإيمان وازدحمت قلوبهم بالشوق إلى لقاء الله في بيته العتيق. والحال أن الأصل في الرحلة من أولها لآخرها هو تعظيم شعائر الله بصرف النظر عن ماهيتها ودلالاتها . . . "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب". في أدب رحلات الحج أو السير الذاتية التي تتضمن فصولاً عن رحلة الحج، نعثر على نصوص مميزة ذات نكهة خاصة مثل رحلة الأديب والقاص الإيراني جلال آل أحمد، ورحلة الأمريكي مالكوم اكس (الحاج مالك الشهباز)، ورحلة محمد أسد، (الألماني ليوبولد فايس) التي وردت في كتابه (الطريق إلى مكة). وما يجمع هؤلاء جميعاً هو مرورهم بتجارب قبل الإسلام، فالأول كان شيوعياً وعضواً بارزاً في حزب تودة، فيما كان الثاني مسيحياً من أصل أفريقي عاش التفرقة العنصرية في مجتمع لم يكن قد اعترف للسود بانسانيتهم على نحو معقول بعد، أما الثالث فكان مسيحياً جوالاً عاش تجارب كثيرة قبل أن ترسو سفينته على شاطئ الإسلام. في ذات السياق يبرز النص الرائع الذي كتبه المفكر الفلسطيني منير شفيق حول رحلته إلى الحج وصدر في كتاب بعنوان "الحج . . خواطر وتأملات" عن دار الفكر في دمشق. وهي بالمناسبة دار نشر تهتم بنشر المؤلفات المتميزة بعيداً عن المنطق التجاري المعروف. منير شفيق، وكما هو حال من ذكرنا له تجربة مميزة، فقد كان منظراً يسارياً، ومناضلاً كبيراً في صفوف حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، وشغل لسنوات طويلة منصب مدير دائرة التخطيط في المنظمة. وخلال هذه الرحلة الطويلة جاب الأرض طولاً وعرضاً واطلع على تجارب البشرية وصولاً إلى القناعة بالإسلام والدفاع عن قضاياه على نحو جعله يحتل مكانة بارزة بين المفكرين الاسلاميين، أو العاملين لنهضة الأمة على أساس الإسلام. ولعل ما يميز تجربة منير شفيق الفكرية هو أنها لم تعرف التطرف في تحولاتها جميعاً، كما لم تعرف الصدام مع الأبعاد الحضارية في الاسلام على النحو الذي مارسه مراهقو اليسار زمناً طويلاً في بلادنا. ولعل ذلك هو ما جعل الاعتدال الفكري والسياسي عنواناً لها، أكان في اليسار، أم في صفوف حركة فتح ومنظمة التحرير، أم في المرحلة الاسلامية. هذا التميز في التجربة الفكرية والسياسية، ومعها العمق في النظرة إلى الذات والآخر بكل ألوانه، جعلت كتاب منير شفيق حول الحج أو خواطره حول الرحلة نصاً مميزاً يستحق أن يقرأه أي أحد، أكان ذاهباً إلى الحج أم ممن مروا بالتجربة، أم يفكرون في خوضها لاحقاً. من المؤكد أن الكتاب سيلفت انتباه القارئ إلى أشياء عادية في الرحلة، لكنها بالغة الدلالة، كما سيعيده إلى مسار الرشد في النظر إلى أشياء معينة، ربما رآها بمنظور سلبي، ليقدم له حولها رؤية أو قراءة مختلفة. في النص قراءة واعية للحج كجزء من منظومة الاسلام في أبعاده الروحية والسياسية والفكرية والاجتماعية، بل في عناوين أخرى مهمة مثل العقل والقلب والطاعة والخنوع، والموقف من المرأة، ووحدة الأمة وقوتها في مواجهة التحديات. من الصعب تلخيص الكتاب أو المرور على ما فيه من لفتات على رغم صغر حجمه وقلة عدد صفحاته (127) صفحة. لكن من يقرأ الكتاب ويخوض الرحلة سيجد أن كثيراً مما يشكو منه الناس يتحول عنده إلى عنوان آخر، حيث يراه من زاوية مختلفة تجعله جزء من روعة التجربة. وقد حدث ذلك معي شخصياً حين قرأت نص الكتاب قبل ظهوره مطبوعاً قبل رحلة الحج في العام الماضي. "الحج . . خواطر وتأملات" إضافة جديدة إلى مكتبة منير شفيق المزدحمة بألوان شتى من التجارب والأفكار، لكنها إضافة مميزة بعد رحلة أكثر من خمسين عاماً من النضال من أجل عالم تسوده قيم الحق والعدل والمساواة التي لم تتجسد في أي فكر ودين كما تجسدت في الإسلام العظيم. ياسر الزعاترة