رأى ناقد مغربي أن "الحقيقة الوحيدة المتبقية، هي أن المخرج أحمد البوعناني، الذي رحل مؤخرا، كان مثل الناسك المتبتل في محراب الفن بصمت، وقد منحنا بعضا من مآثره القليلة التي من الواجب إعادة قراءتها". وقال الناقد مبارك حسني، في مقال بجريدة (الحياة) اللندنية نشرته في طبعتها اللبنانية الصادرة اليوم الجمعة، أن "كثرا يرون فيه الشعر وقد تجسد سينمائيا وكتابيا". وأضاف "وها هو يرحل، وترحل معه صورة مؤسسة للسينما المغربية، فيها ألق الثقافة وهواء الشعر بما هو نفس يجعل الشاشة الكبرى تزاحم الشعر في قلق القلب وإثارة العاطفة الدفينة". واستذكر الخروج المهرجاني للمخرج الراحل في مناسبات قليلة حيث تم تكريمه، قادما في كل مرة من مدينة دمنات الجبلية، حيث اعتكف لزمن بعد مأساة حرق منزله سنة 1993 ووفاة ابنته "البتول" فيها، ما كان له بالغ الأثر عليه وعلى زوجته الفنانة نعيمة، كما استذكر إطلالاته الجماهيرية القليلة. وذكر بأن أحمد البوعناني، الذي كان شاعرا حقيقيا باللغة الفرنسية، هو من طلبة معهد "الإيديك" الفرنسي الشهير خلال فترة الستينيات، التي عرفت مرور أبرز مخرجي فرنسا الحالية. وقال الناقد "ومنها انطلق مفعما بسينما الانخراط وسينما الرؤية، كي يخرج أفلاماً يداعب فيها القدرة على إبداع صور تتجاوز منحاها الصوري كي تشكل لمسة فردية لزاويا التقاط غير بريئة، ثم ليؤسس، رفقةَ ثلة من المخرجين، سينما مغربية مغايرة، فكانت مشاركته السينمائية مخرجاً وكاتب سيناريو ومؤلفا". وهكذا أخرج أشرطة قصيرة جميلة هي "مسيرة شاعر" (1966) حيث تطرق إلى رحلة شاعر يبحث عن جذوره في امتداد الصحراء بما لها من افتتان، و"الذاكرة 14" الذي هو "في الأصل قصيدة شعرية كتبها سنة 1967"، حسب ما أورده الناقد محمد باكريم، وشريط "6- 12" سنة (1968)، وفيه تم التقاط لحظات ومشاهد لمدينة حسب تصور شاعري دافق. وقد نالت هذه الأشرطة اعترافا دوليا وتمت برمجتها خلال ربيع السنة الماضية بمعهد العالم العربي بباريس. ثم عمل المخرج الراحل مؤلفا، يتكلف بالمونتاج، لكن كعملية ربط لها سرها، منذ السبعينيات، في فيلم "الكنز المرصود" لمحمد عصفور، و"وشمة" لحميد بناني، و"من الواد لهيه" لمحمد عبازي على سبيل المثال. ومن أبرز انشغالاته السينمائية المتعددة، رعايته لمسار المخرج داوود اولاد السيد، والذي شارك في كتابة سيناريو فيلمه البكر "باي باي سويرتي"، وكتب سيناريو "عود الريح"، كما عملا معا على كتاب بالفرنسية يتضمن أشعاره مرفقة بصور التقطها اولاد السيد، واختارا له عنواناً دالا هو "أراضي اللحظة" (أو جغرافيا اللحظة). لكن مساهمة أحمد البوعناني الكبرى وبصماته الفنية الخاصة تتجلى في فيلمه الأوحد الشهير "السراب" (1979)، والذي يعد أحد أفلام قليلة أسست للسينما المغربية الحنينية الموسومة بالطابع الإبداعي الفني الخالص، فالمعطى الشعري حاضر فيه بكثافة من خلال عنصر الشاعرية في صوره وفضاءاته الجميلة التي تمت ترقيتها بواسطة اللونين الأبيض والأسود. والشريط في حكايته، حسب الناقد المغربي، عبارة عن قصة تمتح من الجو الواقعي مادتها ومن الخرافة معطاها السردي الحكائي. وبالتالي يحضر الشعري في المضمون أيضاً ويتضافر معه. وقد جسد الدور الممثل الغائب/الحاضر محمد الحبشي باقتدار كبير، وقدم أحد أجمل وأكمل الأدوار التشخيصية في السينما المغربية بلباس جندية ممسوح ومرقع، وعفويته في الأداء، ولمحاته الفريدة في طريقة توظيفه لجسده وتعابير وجهه.